المذاق المرّ
منذ خمسة شهور وكوكبنا مدفون في أعماق الكارثة التي ألمّت به على نحوٍ مباغت، فشلّت مرافق الحياة فيه. كارثةٌ كنا كأحياء ضحاياها الأوّلين، وآلامنا من جرائها تفوق آلام من ماتوا. فالحياة خارج قواقعنا، أقصد بيوتنا التي احتمينا بداخلها، تمضي، نراها رؤيا العين، إلى موتٍ محتّم، رغم محاولات الإنعاش الاصطناعي المستميتة لإبقائها حيّة. وسيولد عالمٌ جديد، ولن نكون على الأرجح من بين قاطنيه، لأن أمر هذه الجائحة سيطول.
وظننّناها في البداية همروجة تنقضي بعد أسابيع. وها قد انقضت شهورٌ وما في الأفق حلولٌ مطمئنة، بل وفي العلماء والمسؤولين من يعدنا بسنين تتوالى على المنوال ذاته. يعدوننا بالمستشفىً يواجهك أينما ذهبت، بالكمّامة تلتهم ثلثي الوجه.
ومن حديث البدايات استناد إيماننا أوّل الأمر إلى وهمٍ مفاده أن الأفذاذ من بيننا قادرون بكبسة زرّ على إزاحة ما يعترض طريق الجنس البشريّ من عوائق، وأنّ من حولنا، في أرجاء العالم الفسيح جنودٌ مجهولون يسهرون على بقائنا موفوري الصحة ومعافين، وهو الشرط الذي لا غنى عنه للعمران البشريّ، ولنماء الصناعات والمشاريع الاقتصادية، واستمرار تدفّق الأرباح إلى جيوب من تتدفق إلى جيوبهم. وصحّتنا ودرجة حرارة أجسادنا، والتي ستقاس بعد الآن لدى دخولنا إلى أيّ مرفقٍ عام، شرط أساسيّ لمواصلة تمتعنا بالمولات والمطاعم والشواطئ، شرط لأن تزدحم هذه المرافق بنا وبغيرنا من المتسوّقين المعافين. والخلاصة إن صحّتنا لا تخصنا وحدنا. هناك مثلُنا، وغيرنا، من يريدها عال العال، بل إنهم يحتاجونها أكثر من احتياجنا لها.
وما دمنا في حديث البدايات، ففي البداية أيضاً استسلمنا لحسٍّ عام، تبيّنت سذاجتُه لاحقاً، فقدّرنا أن كوكبنا يمّر في واحدة من الغلاظات الدورية التي ترافق كلّ شتاء؛ رشح وأنفلونزا. هكذا ظنناه، وظننا أننا عائدون عما قريب إلى روتيننا المحبوب. تُعرَضُ علينا المشاوير فنقبل بعضها، ونعترض على بعضها الآخر. عيشُ العظيم والمبتذل، والجليل والتافه، عيش الحياة، طولاً وعرضاً، ولا قيود، ولا مَنْ يسألنا:
إلى أين؟
أو يقول: ” انتبه”.
“انتبه، انتبه، انتبه..”.
والـ”انتبه” في هذه المرة لن تقال من أجل تحذرينا من السائقين المتهوّرين على الطرقات، ولا من أولاد الحرام، أو مما يتهدّد ساكني المدن من مفاجآت غير سارّة في الساحات العامّة والأزقّة الفرعية. والـ”انتبه” الجديدة تخصّ شيئاً لم يسبق أن خطر على بالنا ببال: أن نمتنع عن مصافحة إخوتنا من بني البشر، أو احتضان مَن اعتدنا احتضانه منهم. والمطلوب أن نبقي معهم على مسافة أمان، سُمّيت تباعداً اجتماعياً، وأن نركن إلى الحكمة – البدعة الجديدة:
“خلّيك في البيت!”.
ومضى الأسبوع الأول أشبه بدعابة سمجة. إيقاعٌ جديدٌ، شابه الأحلام المغوية التي كثيراً ما داعبت مخيّلاتنا: العيش في جزيرة معزولة، في محيط ناءٍ، أو في كوخٍ على أطراف الغابات؟ إنها الطرفة التي ستتحول إلى سماجةٍ، ونَخرٍ للأرواح عند تطبيقها، أن يُمضي كلُّ من في البيت كلّ أوقاتهم في البيت. ويكون من اجتماع الكلّ في الساعة كلّها في المكان كلّه تخليق لمبتكرات ودعابات ما تلبث أن تتحول إلى صراعات، وإلى مغطس أو بارومتر تقاس من خلاله بشريّتنا؛ ما نكتنزه من صلابة أو ما ننطوي عليه من هشاشة مخجلة.
وها قد بتنا في زمنٍ قياسيّ نعرف ما كنّا نجهله عن أنفسنا وعن بعضنا البعض رغم انتمائنا إلى الأسرة ذاتها. تهييج يرافق إغلاق الأبواب، وتهييج يرافق فتحها. فواصل حادّة بين داخلٍ وخارج. نوبات محمومة لرؤية الأشياء التي لم تكن رؤيتها فيما مضى تثير أيّ انفعال. رؤيتها من جديد على ضوءٍ جديد، في هيأتها الجديدة، هيأتنا الجديدة.
وأفتح باب البيت، وأقف أدخن في الساحة الممتدة أمامه:
– أنت هكذا، تعمل بالضدّ! كنّا نترجّاك كي تخرج معنا إلى النزهات، فتقول هذا ممتاز، وهذا اعفوني منه!
وأهرب بالتعالم، مخاطباً أحد الأحفاد:
– انتبه بعد الآن، ولا تضيّع أيّ فرصةً!
سيجارة أو سيجارتان، أملأ أثناء تدخينهما الشارع الفارغ أمامي بمارّةٍ لا وجود لهم. أضع خيالات ظلّ تُمثّل لي أولاد وبنات الجيران، أتذكّر لعبهم الصاخب بالكرة، وتسابقهم الضاجّ على دراجاتهم الهوائية المزركشة.
أقف متأملاً صفّ الأبواب المواجه لي. وأحِنّ لمرأى مَن لم أتطارح السلام معهم في يومٍ من الأيام. وقد بِتّ الآن أتوق لمرأى ذهابهم المبكّر إلى أعمالهم وعودتهم المتأخرة منها مساءً. أحنّ لنظراتٍ كانت تراني وتتشاغل عنّي. فإيقاع الحياة هنا هو هكذا. أهم في الداخل، أم غادروا إلى بلدانهم الأصلية؟ وكيف يغادرون والمنافذ مع العالم الخارجي مقطوعة؟
لقد انغلق العالم الخارجي عنّا وانغلقنا عنه عن حقٍّ وحقيق. لا مولات، ولا مقاه، ولا مطاعم، ولا حفلات جماعية، ولا ألف شيء وشيء مما كنا نحتاجه، ومما لا نحتاج إليه.
وفي الماضي كان الفضول وليس غيره ما يشبع رغبتي في الخروج من البيت. والفضول ذاته هو ما كان يوقفني أمام واجهات المحلاّت والسوبر ماركات على اختلاف ما تعرضه. وكان أيّ مشوار لي إلى قلب البلد مغامرة بصرية ليس إلاّ، لوحةً لا أملّ من رؤيتها، ومن إثارة التساؤلات بخصوصها.
لِمَ كلّ تلك المحلات؟ وكم يبيعون؟
ولمن تلك الأشياء التي لا يحتاج مثلي إلى مثلها؟
وغيرها من الأسئلة!
ودأبي كان قياس موجودات العالم الخارجيّ من المنظور الضيّق لاحتياجاتي. وأسير مثل أعمىً، أتحسس ظلال الأشياء دون أن أبذل جهداً فعلياً لرؤيتها في ذاتها. ولا أنتبه لها إلا عندما تصدمني أو أصدمها. وملايين البشر في شوارع المدن يعني ملايين الاحيتاجات والرغبات، وهم إن لم ينزلوا إلى المدينة يومياً، ولم يستوطنونها كاستيطانهم لبيوتهم، وهم إن لم يشتروا منها، ولم يفصحوا لها عن رغباتهم، ما يشتهون وما يمقتون، وهم إن لم تفعل الاعلانات فعلها فيهم، فستنكمش المدينة وتبدأ أطرافها بالتيبّس.
وصيغ ذلك في معادلةٍ انحبسنا داخل فكّيها:
“إن خرجنا مُتنا، وإن بقينا داخل البيوت ماتت المُدن”.
وكيف نظلّ داخل البيوت، وأوضاعهم المالية الهشة لا توفّر لهم مثل هذا الترف؟ وكيف نبقى داخل البيوت وكامل وسائل رفاهيتنا، وكلّ ما يجمّل حياتنا ويجعلها محتملة، بل وباعثة على السرور موجودٌ أغلبه خارج البيوت. هناك، بعد أرصفة الشوارع، تأنّق البانون بما بنوه، جمّلوه من أجل استدراجنا خارج بيوتنا. وكم صارت كلّ تلك العمارات هشّة ومهجورة ساعة طلِبَ منها مواجهة المجهول. وكم صارت هشةٌ كينونتنا البشرية ومنخورةً في الصميم. وها قد انضاف سببٌ جديد لكي يكره الإنسان أخاه الإنسان، وهو في هذه المرة لا عرقي ولا عقائدي بل فيروسيّ!
لقد ترنّخت أناي في وحل أنويّتها، ونسيت أنني لست الساكن الوحيد في المدينة، وأنها لي مثلما هي لغيري. وسأكتشف بعد أن راح الرعب يستوطن أسرّة نومنا، حقيقة أنستني إياها الأوابد المهجورة من حولي: سأكتشف أن الكثير من الأفكار والترتيبات الاستراتيجية والعسكرية والثقافية والأحزاب وأنظمة الحكم المتعاقبة قد تبذل جهوداً جبارة تستمر لعقود من أجل إحداث تغيير في أحوال البشر وفي أفكارهم فلا تتمكن، وإن أحدثت فلا أكثر من خربشات. ثم تأتي برهة فارقة مثل برهتنا الراهنة، فتتولى إحداث تغييرٍ يفوق طاقة البشر على الاحتمال. وهكذا، فما اكتسبناه خلال آلاف السنين من كثافة إنسانية وحضارية ما يزال صلباً حتى الساعة، وكافياً حتى الآن لإبقائنا متوازنين وبشوشين، ومنكرين لذواتنا، ولكن:
إلى متى؟
وإلى أيّ برهة زمنية قادمة؟
وأسماعنا وأبصارنا ما انفكّت تصطدم يوميا بمئات القصص المؤلمة عن الهجران المخيف: ترك المصابين لمصائرهم المرعبة. وننعم النظر في ذلك الطارئ الفاجع. نلعن فاقدي الضمير والإنسانية، وفي أعماقنا رعبٌ دائمٌ من أن نجد أنفسنا وقد وُضِعنا في سريرَ التجربة، أن يكون الاختبار القادم لبشريّة البشر من نصيبنا، فتُلجئنا المعادلة اللئيمة: إما أن نموت نحن، وإما أن يموت غيرنا، لأن نُظهر مثل القساوة التي نسمع عن حدوثها عند غيرنا:
مَن يضمن أن يكون الأمر غير ذلك؟
هل سبق أن وضعنا في التجربة ذاتها حتى نقرّر ما يمكن أن نفعله، وما الذي سنترفّع عن فعله؟
إنه الرعب لمن امتُحِنوا. والرعب لمن يقفون في الدور.. وفاز باللذة من مات واستراح!
وأقول بعد هذا التقديم المتشائم أنني كنت أتمنى لو جرى إعفائي، أقلَّه هذه الأيام وأكثرَه لا أعرف متى، من الكتابة عمّا يعرض من أحداثٍ طالت، وما تزال، جنسنا البشري، الجنسَ الذي تذوّقنا فيما انقضى من حيواتنا مِتَع الانتماء إليه، وها أننا، بسبب فايروسٍ لعين لم يتمكن العلماء حتى الآن من التعرف على كينونته، نرى ما يمكن للانتماء ذاته من أن يشكّله من أخطار تتهدد وجودنا برمّته، بل وفينا، في لحظات الحجر الخانقة والسالبة للروح البشريّ مَن حسد الحيوانات، شريكتنا في سكنى هذا الكوكب الباسم، على حياتها الهانئة، واكتفائها بدور الناقل للمرض، ليس إلاّ.
وكانت كتابتي عن الموضوع تكون موصولةً بتفاؤل أكبر، وتقييمٍ مرتاح البال، ونظرةٍ تنسى الحاضر الذي نحن في قلبه، ولا ترى غير الغد الآتي، الواعد بالأحسن، وبالثمار لمن زرع، والخيبات لمن تقاعس، كانت تكون أحسن لو أن ما نراه ونعيشه في الغضون على شاشات التلفزة ومواقع التواصل الاجتماعي من تظاهرات عنيفة كانت، ومن تحطيم لرموز الاستعباد البغيض وبالأخص في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، في القارّتين اللتين يرزح ضميرُ أهلهما تحت آثام ثقيلة، موروثة من حقبة استعمارية امتدت لقرون، مارست خلالها شعوبٌ متحضّرة في تلك البلدان أبشع استعباد مارسه الإنسان على أخيه الإنسان، تحت هذه الذريعة العقائدية أو تلك. وأثق أن ما جرى، وما يتواصل جريانه في البلدان المذكورة سيصل حتماً إلى نهايات مريحة تُهدّئ الضمائر، وترسم أفقاً باسماً البشرية عموماً. وتفاؤلي هنا، الذي لا يستند إلا إلى أحاسيس غامضة، يقابله تشاؤمٌ من إمكانية حدوث التغيير في بلداننا العربية، وبعضها تحطّم إلى عشرات الشقف، وما انفكّت الأوضاع فيها على حالتها السابقة من السوء، بل وازدادت سوءاً.
وليت أن هذا الذي تكتسبه البشرية من جراء تحطيم رموز الماضي البغيض قد جرى في البرهة التي تنتمي للماضي، إلى أيّ لحظةِ أخرى سبقت لحظة هذا الوباء اللعين، أن ينتمي إلى سيرتنا الأولى، أن يكون مادّة حديثٍ لسهراتنا وسيراناتنا، أو عندما نذهب إلى مقاهينا المعتادة، نتحاور ونتصارع ولا كمّامات تحجب وجوهنا، ولا قفّازات تجمّد الحرارة في تحياتنا.
فقد بتنا نحنّ لأن نحكي ونكتب عن العالم الذي كان، عن بقاعٍ وبلدانٍ ما تزال هي هي، مثلما ارتسمت في الخرائط، وفي العقول. بقاعٌ وبلدان مقسومة إلى قسمين: بلدانٍ نرتاح لسكناها، وأخرى نكرهها، أولاها منعشةٌ لأرواح البشر، وثانيتها سالبةً لكرامتهم. أحِنّ إلى أنا، وبمجرد أن كانت أقدامنا تطأ أيّاً من تلك البقاع الهادئة والصالحة للعيش للبشري أن نتنفس الصعداء، وبمجرد ما أن ننهي معاملات الدخول إليها أن نتلفن لمن تركناهم خلفنا من أحباب وأصحاب، بأننا قد صرنا في البرّ الآمن.
وكيف يمكن فعل ذلك الآن، والعالم بأجمعه أشبه بمستشفى عائم. بشرُه، وأشياؤه، بل وهواؤه، مسكونون بأفق الموت المفاجئ، بخوف العدوى الفتاكة، والتقاطها ممن؟ من الجار والصديق، وربما من شريك سكنك في البيت. ممن كنت متى قابلتهم سارعت إلى احتضانهم، وتقبيلهم. فأيّ طعم للكتابة عن كلّ هذا، ولا أين تذهب إليه، ولا مناص أمامك من أن تبقى حيث أنت، وأن تضع الحكمة القائلة: “خلّيك في البيت” خرزة بين عينيك.