المربع الأول في رقعة شطرنج

الأحد 2020/11/01
لوحة: دينا ديب

سأمنحكم الخلود برهةً على أوراقي، فلتلدوا أنفسكم من لغة مرتبكة، وليكن لكل منكم شكواه وحجته وبرهانه، ولتكن لكم أصواتكم المستعادة من صمت القبور وعماء العدم! ولينشر كبيركم أوراقه وليقرأ صغيركم التهم المنسوبة إليه.

فلتجتمعوا هنا، للمرة الأولى بعد غياب، وليصدح كبيركم، كما صغيركم، بالشكوى والعتاب. ها أنتم إذن، مجتمعون، هنا والآن، على تباعد أزمنتكم. سأمنحكم فسحة للبوح، وسأستعيد ميتكم من تربته المندّاة بالدمع، سأستحضر البعيد من غيابه، وسأجمع الضدين على طاولة، وسأفتح ملفاتكم القديمة ليقرأ كل منكم صحيفته على الملأ.

أما أنا؛ قطعة الشطرنج التي تناقلتموها من مربع إلى مربع،، بخفة، وبخطوات عابثة أو محسوبة، فسأعيدكم جميعاً إلى بدايتي؛ إلى المربع الأول.

فلنبدأ، إذن، من مربع الهزيمة الأول، من مربع الطفولة. ها هي الطفلة الصغيرة النحيلة ذات الضفيرتين، والثوب القصير المزين بالفراشات والزهور، تقف بارتباك طفولي إزاءكم، إنها تبتلع ريقها، وتصلح وقفتها، وتنظر إليكم بعين الريبة، محاولةً، عبثاً، أن تطل على دخيلة أنفسكم، وعبثاً تحاول أن تتحاشى نظراتكم المتفحصة، وأسئلتكم الفضولية التي لا تنتهي!

لبرهة، يخفت صوت اللحن “”sad cello المنبعث من الركن القصي المضاء بمصباح خافت الشعاع، فيخيّم صمت مشبع بالصقيع. ترتبك الصغيرة وتنكمش على نفسها. تحضن كفاً بأخرى، تغمض عينيها وتفتحهما باحثةً عن سكينة ما، عن دفء ما، أو ربما عن نظرة مطمئنة، فتصطدم بوجوه ذات ملامح متحجرة، وقسمات بلا تعبير، ونظرات صقيعية مفرغة من العطف، وعيون مطفأة تخلو من بصيص ومض قد يشي بأيّ من سمات الإنسان. تصطك أسنانها من خوف عميق مبهم، وتصافح نظراتها الوجوه الواجمة، فلا تقع على وجه ذي ملامح، ولا تعثر في الوجوه الماثلة أمامها هنا والآن، والمتدافعة من ثنايا ذاكرتها البعيدة، على وجه واحد يتوافق مع صور وجوه من كانوا ذات زمن هناك، أو يحتفظ بملمح، مهما ضؤل، من ملامحهم القديمة! هنا، في هذه اللحظة المنسلة خفيةً من كهوف أزمنة حزن عميق ومديد، يبدو أن لا شيء يشبه ما يفترض أنه سيشبه، أو ربما ما ينبغي أن يشبه. لا شيء سوى أصوات شق وتمزيق لم يسفرا عن شيء سوى انفكاك علاقات، وتفكك أواصر ما كان يمكن أن يسمى روابط أسرية، أو علاقات إنسانية، أو أي شيء مما قد يبصر ماضياً على هذا السواء.

تعلو الصفرة ملامح الصغيرة، صفرة تشبه صفرة الموت، تنتابها لحظة غثيان، تمدّ ذراعيها باحثةً عن متكأ فلا يحضن ذراعيها، ولا يحضنا، إلا الفراغ الأصفر. علقت نظراتها على وجوههم القاسية. حاولت استجداءهم. همست بحروف متلعثمة “.. ابنتكم أنا بالدم، أختكم في الإنسانية”، فأجابها الجمع بصوت يشبه صوت الكورس الكنائسي “انفكت أواصر النسب، وانحلت عرى الإنسانية. من أنت، وما قصتك يا صغيرة؟! من أين جئت، وما هو ماضيك؟!

لا أتذكر، وما عدت أذكر للمكان اسماً، أو أشتمّ له رائحة. كان أستاذ التربية الوطنية يقف، بصلعته اللامعة وعيونه الزرقاء، مردداً برتابة “تقع بلدتكم المنسية بين الأرض والسماء. إنها معلقة على حبال حضارتين أو أكثر، فوق تلة متوسطة الارتفاع، ولا يزيد عدد سكان بلدتكم المنسية عن خمسة آلاف نسمة. وقد غزاها الفرس، كما غزاها الرومان، وبها مرّ أنبياء وزهّاد. وهي محاطةٌ بكروم اللوز والزيتون والمشمش والرمان، ويخترق أراضيها نبع ماء. أما سفوحها، فمكسوةٌ بالزعتر والحنون، وبساتينها مسيجةٌ بالسرو والصبار..”.

أما أنا، فقد كنت أعرف المكان بفطرتي، وبشقاوة الطفلة المسكونة بالحياة من دون أن تعرف رسماً لهذه الكلمة أو معنىً لها، كنت أتسلّق الشجر، وأصادق الحجر، وأجمع عصا الراعي وباقات الأقحوان. كنت أركض، أتعثر، أقع، أقف مجدداً، أمسح دمعي بكفي المتسخة، وأعبر الزقاق بلا هدف.

ابنتكم أنا، أحفظ عن ظهر قلب بيوت القرية القديمة، شبابيكها العالية، حجارتها المتداعية، مسجدها القديم، وكنيستها. أعيدوني قليلاً إلى المكان كي أستعيدكم، أو أستعيد نفسي. مبعثرة أنا بين ماضيكم المكتظ بالذكريات وحاضري المفعم بالحنين. لا أستطيع، أبداً، أن أعبّر عن نفسي كما تودّ نفسي. عالقةٌ أنا بأشواك أحلك بقعة من بقع الغياب. أعيدوني إليّ، إلى شجرة اللوز المعلقة على حافة الذكرى، ولا بأس إن وقعت مرة أخرى ونزفت، لا بأس أبداً، فها أنا أنزف دمعي كل ليلة، أعض على الجراح وأخدش ريش الوسائد، أعض لأوجع الجرح بقدر ما يوجعني. أعيدوني إليّ، ردوا عليّ اسمي القديم وضفيرتي وأصابعي. أنا الصغيرة التي تعبر الحلم كل ليلة، لتصل إلى نفسها، فيصدها الواقع. أنا.. أنا..

لم ترفع الصغيرة رأسها ظلت تحدق في حلكة المربع الأسود الذي ظلت واقفةً عليه، فلا ترى نفسها ولا تراه. كانت دمعاتها تنهمر بلا توقف، ومنكّسة الرأس كانت تعصر كفيها، وتحاول خنق الدموع والكلمات المتدحرجة عليهما من عينيها وشفتيها، دون إرادتها، لتنهمر، مع انهمارها، حرائق الذكرى، والذكريات القديمة.

تنفتح الأبواب وتتسع المداخل، فتتراكض الأطياف القديمة محاطةً بأشباح الماضي، وتتخذ أماكنها بين جموع الحشد المكتظة به القاعة الواسعة المبلطة بالأبيض والأسود، وترهف أسماعها لتنصت إلى أصوات الهزائم التي شرعت تتدحرج على بلاطها الصقيل، لتتشابك، وتتخالط!

***

لل

كان عليّ أن أتدخل عندما رأيت الذكر الطيف الذي وقف في الزاوية المعتمة برداء أبيض متّسخ بالطين والتراب يرفع يده بحركة تعلن احتجاجه. لم يكن صوته قد خانه، فهو ما عاد، في الأصل، يملك صوتاً، ولكنه أراد أن يتكلم، فجعلت إرادته من جسده الطيفي الشبحي لساناً يتحرك في اتجاهات شتى. ضجّت ملامحه بالحنق، وانسربت شرارات أوامر رغبته إلى جسده فتملكته حركاتٌ عصبيةٌ أطلقت شررها أعضاؤه جميعاً، في آن واحد وعلى مدى الوقت.

كان عليّ أن أتصرف؛ أن أفعل شيئاً لكبح جماح هذا الغضب العصبي، فقد بدت الصغيرة أكثر ارتباكاً مما كانت عليه قبل اشتعال جسد الرجل الطيف بشرار الغضب. ها هو الحزن يكسو ملامحها بالكآبة والغم فيما هي تراقب حركات غضبه الشبحي المنفلت، والذي تركز الآن في انفلات يديه بحركات عنفية تقرب أظافره من رقبتها، فيتملك كيانها فزعٌ يقذف الرعب في عينيها.

الموقف يتأزم، والتوتر يتصاعد منذراً بانفجار صراع ضار يتلازم مع تشظيات تذهب في اتجاهات شتى، فماذا عساي أن أفعل؟! وكيف لي أن أوقف نزيف الرعب والدم والفزع، وانهمار العذابات والدموع والآلام؟! وهل يتوجّب عليّ أن أجد مخرجاً من كل هذا السواد؟! ولم يتوجب عليّ هذا؟! ولأجل من، لأجل من، لأجل من؟!

خفّضت صوت الموسيقى المنبعث من ذلك الركن القصي شحيح الضوء، ووجدتني، بعفوية لا أعرف منبعها، قد شرعت في السعي لإيجاد مخرج لا أعرف كنهه، ولا أبصر ممراً يفضي إليه.

همست، مرتجفةً، في أذن المرتجفة الصغيرة “فلتسكتي يا ‘كوزيت’ حتى أنا تعبت، و…”، فجاءني صوتها المرتجف، المنزلقة نبراته على خط دمعها المنكسر “لكنني لم أكمل الحكاية! فأجابها صوتٌ خرج، متلعثماً ومجرحاً، من بين شفتي: لا بأس عليك، لم تكملي ولم ننتهي، سنكمل، لاحقاً، غداً، فيما بعد!

***

خرجت من القاعة المكتظة بحشد الأطياف والأشباح، ولا أعرف كيف عثرت قدماي على ممرّ قادها إلى غرفة مكتبي! أوثقت رأسي بكفّي، متوخّية سحق الأفكار القاسية التي تسكنه وتتكاثر فيه، وتنهشه ناقرةً كلس جدرانه. حدقت عيناي في أكوام الورق المتراكمة أمامي. حدّقت في البياض، وفي السواد، ثم حدقت في وجه الصغيرة التي راحت أصابعي المرتجفة تدون اسمها، بخط ناعم، على رأس صفحة بيضاء “كوزيت”. ثم لم يعد ثمة من شيء، هنا والآن، سوى البياض!

آه، قد كان على ذاكرتي أن تتذكر أنني قد تركتهم هناك في القاعة المبلطة بمربعات خزفية سوداء وبيضاء، وأنها هي من جمدتهم أو أقصتهم، لبرهة، عن الحضور في ذاكرتها. وها هم يعودون الآن، ليملأوا أزمنتها المتشابكة. إنهم يخرجون من دهاليز كهوفهم الجحيمية المعتمة محمولين على محفات من جليد صقيعي! نظراتهم متحجرةٌ كنظرات تماثيل قدت من رخام جليدي، أو جليد رخامي، بإزميل متعهد جنازات، أو حفار قبور!

يا إلهي، كنت أعبر متاهات ضياعي بلا أدنى فكرة عمّا آل إليه حالي، فيما كان صوت الصغيرة المتلعثم يتردد في رأسي كصدى، ورجع صدىً، مؤرقين لعينين، أو كموجات متلاحقة لم تزل ترتطم، منذ ألف عام وعام، بصخرةً صلدة تريد تفتيتها؛ فلماذا خرجت من شرنقة لامبالاتي، أو إذعاني المستكين، لأقحم نفسي المنهكة بهذه الحكاية الشهرزادية المتشعبة؟! وكيف لي أن أنتهي من سردها في نص روائي واحد، ملتحم ومفتوح؟!

أراني قد سعيت للمشي على الماء، فزلت قدمي وانزلقت لتلامس سطح دوامة جرفتني لتقذفني في خضم دوران لولبي شديد التسارع والعنف. وها إني قد وصلت بفضلها، وفي طرفة عين، إلى قاع مخروطها الضيق، وخسرت، بفضلها أيضاً، خيار الهروب من حكاية سرد حكايتي في نصّ روائي يقول تجربتي مع الحياة، حيةً وميتةً، ويتتبع مساراتها، ويرسم منحنياتها التي رسمت نفسها على جسد كينونتي المستغلة، المؤجلة، والساعية أحياناً، وعلى نحو مبتسر ومتقطع، لالتقاط ومض وجودها الإنساني الحقيقي المستهدف إما بتأبيد الاستغلال وتأجيل الوجود، أو حتى بالتعديم.

لعلّي لم أكن أدرك أن إقدامي، بعفوية روحي المهددة بالإزهاق، على فعل ما كان من شأنه وقف جحافل الرعب والدم والفزع المنطلقة من بين قبضتي الرجل الطيف الغاضبتين لإزهاق روح الصغيرة المرتجفة “كوزيت”، وحرصي على الإصغاء إليها تسرد، بصوتها، على مسمعي، حكايتها، ثم إقحام نفسي، استجابة لنداءات صوتها المتردد في رأسي صدىً ورجع صدىً، في حكاية تحويل حكايتها الشفوية المكتومة إلى نص روائي مكتوب يسردها بصوتها، وصوتي، وأصوات شتى الشخوص والكائنات والأشياء التي كان لها حضوراً فيها، قد دفعني، مذ خطت أناملي اسم “كوزيت” على رأس صفحة بيضاء، للشروع في خوض مغامرة المشي على الماء التي أسلمتني لدوامة عنيفة ألقتني في قاع مخروطي شديد الحلكة والضيق، وما عثرت فيه على شيء سوى صندوق باندورا (Pandora) الذي ما أن نزعت ختمه الرصاصي المطلسم، حتى انطلقت من جوفه جميع الشرور وتطايرت، وتصاعد لهيب الشقاء الذي يسببه أشرار الناس للناس، والعذابات الفاتكة التي يلحقونها بهم.

وإذ رأيت كل هذا في قاع الدوامة، تمنّيت حدوث معجزة إلهية تخرجني من سواد قعره الملتهب الضيق، غير أن أوان التمني القابل للإدراك كان قد فات، ولعلّي أكون قد غفلت عن تذكر جدول مواعيد رفع الأماني المحدد من قبل آلهة تلقيها وتلبيتها، أو أن هذه الآلهة قد نسيت غاية إيجادها من قبل الإنسان المعذب. وهكذا، لم يعد ثمة من سبيل للخروج من قعر القاع الدوامي المهلك سوى الكتابة، سوى متابعة الإصغاء لـ”كوزيت”، ومتابعة قص حكايتها وإطلاقها مكتوبةً، في صيغة نص روائي مكتمل، في الناس، فلهذا، وله وحده، أن يمكنني من امتلاك التمائم والرقى والتعاويذ الكفيلة بمساعدتي على تفتيت الصخرة الصلدة الثقيلة المطلسمة، وفك طلاسم صندوق باندورا، الذي وضعته الآلهة في جوفها عقب تطاير جميع الشرور من جوفه، وفروغه من كل شيء سوى الأمل!

ليس ثمة من سبيل أمامي للخروج قعر قاع الججيم الدوامي الملتهب، سوى الكتابة! وليس ثمة من سبيل أمام “كوزيت”، وأمامي لمتابعة إرادة روحي المهددة بالإزهاق للحيلولة دون إتمام إزهاق روح “كوزيت” سوى متابعة الكتابة وتحفيز السرد الروائي على متابعة الانسكاب في المجرى الذي سيشقه بنفسه لنفسه، ولسكنى بيت الحياة الذي سيبنيه بنفسه لنفسه! وإني لأعرف الآن، وتحت نير شروط الواقع الظلامي الذي أحيا فيه موتي في الحياة، أن في الكتابة التي أعتزمها إنقاذ حياة بقدر ما تنطوي على احتمال تسريع لحظة إزهاق روح! ستلعنني آلهةٌ بلا روح، وستمسك بخناقي شياطينٌ تتقنع بوجوه ملائكية، وسينبذني ناسٌ من الناس، وستغطي غمامات الشرور السوداء التي تطايرت من صندوق باندورا سمائي المكدّرة، أصلاً، بالشرور، ولعلي أحظى، في خاتمة المطاف، برصاصة في القلب، ممهورةً بختم مجتمع آسن يدعى البطولة والشرف! ولكن، لا بأس، سأفي بوعدي لكوزيت ولنفسي، وسأتابع الإصغاء لكوزيت، وتحويل الحكاية إلى نص مكتوب يحفظه الزمان في خزائنه غير المطلسمة، مهما كانت الصعوبات، وأياً ما بلغت كلفة الأمر.

كاتبة من فلسطين

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.