المعقولية العربية والانغلاق

في الحقيقة، فإنّ هذه المجموعة من الأسئلة يمكن أن تعبّر عن اهتمام الأيديولوجيّين الذين يبحثون عن تجديد مُثلهم الموحَّدة من خلال مساءلة الشّعوب مساءلة تجمعهم في نحن، وتعرّف في الآن نفسه بمكوّناته. تُوجد إجابة فوريّة يمكن أن ترضيَنا ونصّها «نحن عرب» أو «نحن مسلمون». يتحوّل السّؤال إذن إلى النّظر في معنى أن يكون الواحد منّا عربيًّا؟ ومسلما؟ وما معنى أن يكون الإنسان في الكون محددا بأمور عرقية أو ثقافية أو دينية أو غير ذلك؟
سأنطلق من الملاحظة التي وردت عند هشام شرابي في مبحثه “النقد الحضاري للمجتمع في نهاية القرن العشرين” والتي اعتبرت أننا في تلك الفترة قد دخلنا منعطفا جديدا على المستوى الثقافي العام وقد ظهر جليّا أن الفكر الذي صاحب المراحل السابقة يحتاج اليوم إلى إعادة نظر وإلى صياغة جديدة إن لم نقل تفكيكا كليا على المنوال الذي قام به الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا لبعض مظاهر الحضارة الأوروبية والغربية. لأن الخطر الأكبر يتمثّل في عدم القدرة على النقد الجذري لأوضاعنا وفكرنا وثقافتنا وملامح هويتنا كما يتمثّل في التمسّك بالأيديولوجيات الماضية وبالاتجاهات الفكرية التقليدية وكأنها هي الوحيدة التي تبني هوياتنا.
لذلك أعتقد أنّ الحديث عن إشكالية الهوية في الثقافة العربية حاليا يستوجب إعادة صياغة بعض المفاهيم والتصورات اللازمة لفهم انفجارات الهويات داخل الوطن العربي من ناحية وإعادة صياغة معالم جديدة لنهضة عربية تقوم على تحاور كل الهويات دون إقصاء ودون هيمنة. إنها فلسفة جديدة وجذرية تقوم على الاعتراف الفعلي والحقيقي بالتنوع الخلاق في الثقافات والهويات المكوّنة للعالم العربي. وكنت قد بينت ملامحها في كتابي قراءات في فلسفة التنوع الصادر بتونس عن الدار العربية للنشر أوائل الثمانينات من القرن الماضي ودعوت فيه إلى التخلّي عن فكرة توحيد العالم العربي بوسائل العنف والإقصاء وبناء مرتكزات تنوّعية لانتماءاتنا الحضارية وتجذير ملتزمات تحديث أنماط حياتنا وتأقلمها مع مستجدات العالم في حاضره.
وقبل الخوض في إشكالية الهوية وأسباب انغلاقها وانفجارها لا بد من تفكيك ما نسميه بالمعقولية العربية الحالية ونقدها نقدا جذريا. فالمتصفّح في معطيات المعقولية العربية كما تم توظيفها اليوم سياسيا وإعلاميا وثقافيا في المجالات الحياتية العامة يلاحظ من أول وهلة الشرخ العميق الذي يسكنها. فمن ناحية تتقبل هذه المعقولية كل ما يردّ عليها من تكنولوجيات متطورة ولكنها وفي الآن ترفض كل ما يجعل هذه التكنولوجيات ممكنة ونعني الحداثة ومستتبعاتها. فمثلها مثل من يمتطي كل يوم سيارته ويستعمل أعصر الوسائل لقيادتها ويلعن في الآن نفسه الحداثة ومن كان سببا فيها والغرب وأهله وهلم جرا من هذه المستهترات.
وقد يزداد هذا الشرخ عمقا عندما نعرف أن مرجعية هذه المعقولية تبقى دائما متأصلة في السلف بينما هي تحاول استيعاب نتائج العلوم والتكنولوجيا فتكون بذلك مستهلكة غير مبدعة في هذا الشأن، بل غير قادرة على الحضور في العالم.
فكيف تتمظهر هذه المعقولية العربية بشرخها العميق؟
1- أول أمر يلفت انتباهنا هو أن هذه المعقولية مازالت في طور التجميع والتفتيش والتأريخ والنقل والتنقيل والشرح والتفسير. ولم تصل بعد إلى طور التأليف والابتكار والإبداع والإنتاج الحقيقي للأفكار والمفاهيم والتصورات إلا ما ندر. فهي إذن معقولية نقلية في الأساس لم تستطع إلى يومنا هذا أن تقفز قفزة نوعية نحو مرحلة النقد العلمي والجذري الحقيقي لأنها مازالت تحت وطأة المحرمات والممنوعات والمحجّرات بأنواعها المختلفة على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الديني والاجتماعي. ورغم أن بعض الثورات العربية قد حررت الأقلام والأفواه والإبداع مثلما يحصل الآن بتونس إلا أن كابوس المحرّم والممنوع ما زال مهيمنا ومعيقا للتحديث والتقدم والإبداع.
2- إن المعقولية العربية الآن ما تزال في مرحلة هيمنة الوجداني والانفعالي والغريزي. وقد شدّد الفلاسفة منذ أفلاطون على حيوانية هذه المرحلة واعتبروا أن الإنسان يكتسب إنسانيته متى استنجد بالعقل ومتى أصبح يتعامل مع حياته اليومية بالعقل والتعقل ولا بالعواطف والغضبية والوجدان.
فقد بينت في دراساتي السابقة كيف أننا مازلنا نتعامل مع قضايانا بواسطة الغضب والانفعال وأحيانا بالعنف العشوائي دون تروّ ودون نقد وتنظير واستشراف. فمعقوليتنا ليست معقولية التحليل، والبحث، والدرس والتحقيق والنقد وبالتالي فهي ليست معقولية الإبداع والابتكارات العلمية والاكتشافات التكنولوجية. مازلنا تحت وطأة التكفير والتحريم كما قلنا سابقا.
على أننا عندما نتحدث عن الوجدان هنا فلسنا نريد التقليل من أهميتّه ولا الاستغناء عنه في معاملاتنا. فالوجدانية ضرورية في حياتنا اليومية. ونعني بها قبل كل شيء الدخول في علاقة مباشرة ودون واسطة مع الأشياء ومع الحياة بصفة عامة كما ذهب إلى ذلك جون جاك روسو. لقد توصل الإنسان بعقله وإحساسه إلى معرفة ذاته والاعتراف بالغير من حيث هو آخر له الحق بأن يعيش ويفكّر ويختار ويبدع حسب إرادته وانطلاقا من ثقافته وعقائده وطموحاته ولا من حيث هو نتيجة لإرادتي وتطبيقا لاختياراتي. فالوجدانية قد تحرّر العواطف وتكسر القيود للتقارب والتحابب والتآنس والاحترام والتسامح ولكنها قد تبعث شحنات عدوانية وتسبب الكراهية والتقتيل وتصل إلى اللامعقول واللامقبول كتدمير العالم العربي حاليا من قبل الاستعمار الجديد ومن الجماعات المتطرفة والإرهابية التي تعمل لصالح هذا الاستعمار عن وعي أو عن غير وعي، تلك أمور لا يصوغها عقل ولا يقبلها ضمير. فلسنا نريد لمعقوليتنا أن تنحو هذا المنحى في الوجدانية. أما الوجدانية المنشودة فهي التي تفجر الطاقات الإبداعية لسعادتنا وسعادة البشر وهي التي تعطي للروحانيات قيمتها العظيمة في الحياة وهي التي تحرّر الغرائز ليكون الإنسان حيّا يتمتع بحياته وبإنسانيته. فالإنسان لن يكون عقلا فقط ولن يكون أداة وآلة. لأنه يعيش ويشعر لذة اختياراته وعقائده وروحانياته. ولكن الشرط الأكبر في ذلك هو أن يكون دائما العقل سيد الموقف بحيث إذا ما ارتبط الوجدان بالعقل أصبح الوجدان حياة وأصبح العقل رحمة وهذا ما يفيد مفهوم التعقل الذي استلهمناه من فلسفة الفارابي.
خلاصة القول فيما يخص المعقولية العربية أن الفكر اللاهوتي قد سيطر على هذه المعقولية العربية وأغلق زمانيته إغلاقا محكما بحيث سيضحى الغير بعيدا عنها. أما إذا اقترب منها فوجب الجهاد ووجب القتال
3- واستتباعا للنقطة الثانية فإن المعقولية العربية الآن ما تزال في مرحلة الشعارات والأحكام السريعة والمواقف الأيديولوجية. يرى د. شاكر النابلسي أنها أشبه بالثقافة العربية في العهد العثماني. هي ثقافة تعتمد “السحر والشعوذة والخرافة والتقديس والانفعالية والغريزية والشعارات، والأحكام المُسبقة”. زد على ذلك أنها لم تتعلم فعالية السؤال في حد ذاته.. فهي تبقى معقولية الأجوبة الجاهزة كالتي تأتيك بالتأكيد من فضائيات هيمن عليها “أصحاب القلنسوة” حسب تعبير المقدسي.
4- وأخيرا لا بد أن نلاحظ أن المعقولية العربية الآن ما تزال خاضعة إلى منهجية المحاكاة في تعاملها مع قضايانا اليومية. مازالت تبحث عن أقوال السلف وأعمالهم لفهم الحاضر والاستعداد للمستقبل. فلحلّ مشاكلنا الاجتماعية والشخصية نعود إلى الكتب الصفراء الواهية لنجد الحلول أحيانا عند المشعوذين والدجالين كما نعود إلى شيوخ الماضي وكأن لديهم مفاتيح القدر. فالوعي السلفي الذي يسود اليوم في المعقولية العربية هو وعي مغلق ومتحجر يقوم على عبادة الأسلاف ويرفض كل إبداع وكل تفكير عقلي مشفوع ببرهان بما أن برهانه الوحيد هو ما أتى به السلف وبما أن ثقافته ثقافة تكفير وليست ثقافة تفكير.
وخلاصة القول فيما يخص المعقولية العربية أن الفكر اللاهوتي قد سيطر على هذه المعقولية العربية وأغلق زمانيته إغلاقا محكما بحيث سيضحى الغير بعيدا عنها. أما إذا اقترب منها فوجب الجهاد ووجب القتال.
الهوية في محيط التحديث
ليس ثمة شك أن التحديث الذي تعيشه معظم المجتمعات العربية دون تبنّيه صراحة يقوم في مستوى الفكر على مبدأين أساسيين: بروز الإنسان الفرد واختيار الحرية.
طبعا لم يكن مفهوم الإنسان غائبا في الدراسات الفلسفية القديمة. بل نكاد نقول إنّه كان الإشكاليّة القصوى في فلسفة أفلاطون مثلا والشّغل الشاغل لأرسطو، وما الفكر السياسي الأفلاطوني والفكر الأخلاقي الأرسطي إلاّ محاولتين لربط النظر بالعمل، ربط “الفضائل النظريّة” بـ”الفضائل العمليّة” حسب تعبير الفارابي ليكون أفلاطون – كما هو الشأن بالنسبة إلى أرسطو – “الفيلسوف الكامل على الإطلاق”. إلاّ أنّ تناول الإنسان الأنثربولوجي الفلسفي الذي يقوم على الفرد قد أخذ وجهة جديدة في الحداثة، إذ ارتكز أساسا على مفهوم الحرّية الذي – قد اتـّخذ هو أيضا – توجّها جديدا مع ارتباطه بمفهوم الحقّ.
عندما نقول حرّية العمل والنظر، فإننا نعني لا محالة الحرّية في كلّ شيء يهمّ الإنسان، تلك الحرّية التي لا تصدّها إلاّ حرّية الغير فتقف عند ذلك الحدّ. إلاّ أنّ هذا التحديد يبقى في حدّ ذاته ناقصا باعتبار أنّ الذي سيسطـّر الخطّ الفاصل بين حرّيتي وحرّية الآخر غير معروف وغير محدّد بدقّة، بل يمكن أن يتحوّل إلى سلطة قاهرة تتحكـّم باسم هذا الحدّ في حرّيتي وحرّية غيري وتنظـّم هذا التحكـّم في قوانين تبدو عادلة في ظاهرها ولكنّها تكرّس هذا القهر وهذا التسلـّط، لذلك لا بدّ من إعادة تحديد الحرّية الخارجيّة، تلك التي تربطني بالآخر داخل المجموعة البشريّة من حيث هي – كما بيـّن ذلك بالإلحاح كانط – احترام القوانين التي وافقتُ عليها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فلا حرّية دون قانون، ولا قانون دون مناقشات عموميّة وموافقة علنيّة (بالإجماع أو بالأغلبيّة) ولا موافقة علنيّة دون احترام الفرد في آرائه ومواقفه المختلفة والمتنوّعة.
في واقع الأمر، يعني التحديث في كنهه مجموعة من العمليـّات التراكمية التي تهدف إلى تطوير الإنتاج وتعبئة الموارد والثروات وتنمية إنتاج العمل وتنظيم السّلط المختلفة داخل أجهزة محكمة تقوم على قاعدة المشاركة في الشؤون العامة محررة بذلك تقاليد الممارسة السياسية.
ولا بد هنا تعمـّقا في الإشكالات التي قد يحدثها مفهوم التحديث من الانتباه إلى العملية الشائكة لتحويل المعطيات الثقافية والمرجعيات القديمة من الارتكاز على ذاتية الذات إلى الاهتمام بالتواصل والتـّذاوت[1]، حيث أن التـّذاوت هو إطار كل أنواع الاتصال بين الأنا والآخر.
الفيلسوف الألماني هبرماس مثلا يعتبر أنّ العقل المكوِّن للمفهوم معرّض دائما للنقد حسب قاعدة كانط القائلة بأنّ نقد العقل هو من عمل العقل نفسه بحيث سيكون هذا العقل النقدي المنفتح مرتبطا دائما بالنقاش العمومي وبأخلاقيـّاته وبالحوار الذي سيتحوّل إلى طاقة تواصلية هائلة قد تحقّق الاتفاق بين البشر. وبذلك يتم إرساء علاقات حوار واتفاق بين الناس تفاديا للعنف والتخاصم والتحارب. فالمجال هنا هو مجال الحوار والتسامح والاحترام، مجال الفضاء العمومي حيث يتواصل الناس بأفكارهم ونقاشهم وبحرّيتهم وتعابـيـرهم المختلفة وحيث تتحدّد هويـّتهم فيحصل التّذاوت والتواصل بالمحبة التّـسالمية أو بالمواجهة التنافسية.
لقد دأب بعض المفكرين من الذين يقرّون نظريّة وجوب التحديث الجذري في مجتمعاتنا على تكريس القطيعة النهائية مع معطيات الماضي باعتبارها عائقا أمام التقدم وتحطيما لمؤهلات العقل العلمية والتكنولوجية حتى تلعب هذه القطيعة دورها كاملا في تحديث المجتمع.
لا بد من التأكيد على الذاكرة التي تبقى ركيزة الحاضر والتقاليد لا لأنها حضور الماضي بعد تنقيته وصقله ولإعادة تأسيسه فقط بل وأيضا لأنّ الذاكرة هي استمرار حيوي ومتجدّد للوظائف الثقافية والاجتماعية والحياتية
لا أعتقد أن هذه الأطروحة مجدية حقيقة في مجال تكريس عملية التحديث في مجتمعاتنا. إنّي أوافق بطبيعة الحال على كون الحداثة أصلا هي اختلاف عن الجدود وتجديد للهموم الفكرية والحياتية مهما كان نوع هذا الاختلاف ونسبته وقيمته. فلا يمكننا الحديث عن التحديث إذا لم يكن هناك تجاوز خلاق للماضي بمعطياته الشاكة وتعقيداته وتوتّراته. ولكنني ومع ذلك أؤكد أن عمليـّات التحديث لا يمكن أن تكون فقط تجاوزا للمرجعيات القديمة فهي أيضا إدراك فاعل لكل جوانبها ومستتبعاتها وعودة خلاقة لما كان يؤسّسها. ولعل بذلك يجد التحديث مساره الحقيقي الذي يكون دائما متأصّلا في الذات ومتجاوزا للجذور. فالتوغل في أعماق الجذور قد يصبح ظاهرة اجتماعية وفكرية هامة تحت عوامل التغيير لا سيما إذا برز التحديث انقطاعا كاملا عن التراث فتترعرع سياسيا وثقافيا ردة فعل انتكاسية وتراجعية تحاول بأساليب مختلفة واستراتيجيات متنوعة الانسلاخ عن حركة التحديث وتعويضها بحركة تجديد السلف الصالح ومحاكاة أنماط تنظيماته الاجتماعية والسياسية. ولعل ما تعيشه مجتمعات العالم العربي من اضطرابات وثورات وتحولات وحروب أهلية يبيّن بما لا شك فيه أن الهوية “القاتلة” تلك التي تعيق التحولات التحديثية الضرورية قد تؤدي إلى الهاوية.
وفي واقع الأمر، إذا دلّت عودة الفكر الماضوي بقوة في مجتمعاتنا الحالية على شيء فإنها تدل على التوتّر بين نقط الاستهراب التي تميز كل عملية تحديث وبين نقط التجذّر التي تشدّ القول والفعل إلى سمات الماضي والأصل.
هكذا إذن لا بد من التأكيد على الذاكرة التي تبقى ركيزة الحاضر والتقاليد لا لأنها حضور الماضي بعد تنقيته وصقله ولإعادة تأسيسه فقط بل وأيضا لأنّ الذاكرة هي استمرار حيوي ومتجدّد للوظائف الثقافية والاجتماعية والحياتية. وقناعتي أن الحداثة لم تكن يوما تقويضا للذاكرة ولا تحطيما للتقاليد، هي بالأساس استخراج الإحداثيات وإعادة صياغتها لتتأقلم مع القسم النيّـر والمفتوح من التقاليد والذاكرة حتى تتجاوز ما كان يعوق تطورها ويشدّها إلى التدحرج. وسيلعب الفكر هنا دورا استراتيجيا في حبك الروابط بين نقط الاستهراب ونقط التجذر. ولعل إعادة تأسيس مهمّتها في وضعنا الحالي يتطلب صياغة تصوّرات جديدة لتلك الروابط ومن ثمّ للتحديث من حيث هو عملية ضرورية تقوم على جدلية العودة والتجاوز وتحدّد التقدم اعتمادا على استراتيجية الربط بين الاستهراب والتجذر.
فالعمليات الإرهابية لم تكن مجرد إرهاب تقوم به فئة ضالة، إذ يجب أن نفهم الأسباب الكامنة وراءها مهما كان القائم بهذه العمليات ومهما كانت أهدافه المعلنة وغير المعلنة. فليست هي تضاد بين الخير والشر ولا هي حرب دينية جديدة أو حرب صليبية أخرى ولم تنتج عن صدام للحضارات. هي –حسب رأينا- من ناحية ردة فعل قوية ضد اللاعدل الذي يريد الغرب أن يظهره للعالم وكأنه هو العدل الإنساني الوحيد الممكن. ولكن ومن ناحية أخرى هي نتيجة حتمية للتصادم بين نقط التجذر ونقط الاستهراب، بين الانغلاق في الهويات القاتلة والهروب نحو التحديث والمعاصرة دون التمكن من إيجاد سبل التوازن بينها.
مقاصد الهوية
إذا كان الأمر كما بينّا فإن ما ذهب إليه أرسطو من تحليل عميق لمعاني الهوية والاختلاف والتماثل والصراع والذات والآخر ما زال فاعلا إلى اليوم في هذا العصر الذي جعل من هذه القضايا هموما يومية وقضايا راهنة ثقافة واجتماعا وسياسة. ولعلنا لو تعمقنا نوعا ما في الكتابات والتآليف المعاصرة غربا وشرقا لوجدنا أنها تعاني من قلق السؤال عن الهوية والاختلاف والكليّ والآخر. ومهما يكن من أمر فبعض هذه الكتابات إما مغالية في الخصوصية تعبر في معظمها عن ذات متألمة وقلقة تعيش آلام الغربة والتهميش، وإما مغالية في الكونية والتحديث ناسية تكوّناتها المحلية ومعطياتها التراثية وصبغتها الخصوصية. فالذات العربية التي نحن بصدد دراستها واتخاذها نموذجا لتأملاتنا تحمل في الوقت نفسه ألم التهميش والغلبة رغم ثرواتها المادية والمعنوية الضخمة وبهجة روح تاريخها الذي يسكنها بوصفها قد حملت يوما ما السلطة المادية والحضارية ومع ذلك ما زالت تؤمن بأنها تحمل شروط نهضة جديدة وفعّالة، شروط يقظة وجدتها في أوائل قرن العشرين في العلوم والتكنولوجيا وتجدها اليوم في العودة إلى السلف الصالح في نص الدين الذي تؤمن به وتحلم بانبعاثه من جديد.
أما في العالم الغربي فالكل يتحدث بلسان مختلف عن الكلي المعرفي والأنطولوجي والكوني السياسي والأخلاقي، يتحدث عن قيمة التنوع والاختلاف والتثاقف والاعتراف. ولكن عندما يكتشف واقع الغيرية مثل الهجرة الضخمة التي أصابت الغرب نتيجة الحرب الأهلية بسوريا والتي كان الغرب سببا من أسباب اندلاعها فالكلّ سيتحدث عن أزمة تواصل واعتراف ويعمّق الحرب والصراع مبتعدا كل البعد عن الكوني الإنساني نحو العنف المتزايد، الذي يصل إلى حد العنصرية وقد تصبح السياسات الرسمية في بعض بلدان الغرب عنصرية.. زد على ذلك أن سلطان المال والمؤسسة العسكرية والسلطان الدولي الذي تضخّم بلا رقيب أضحى سرطانا خبيثا يسري في جسد الإنسانية ويهدد بقاءها.
بذلك تصبح مسألة الهوية مسألة استراتيجية كما بينت ذلك في كتابي باللسان الفرنسي “الهوية الإستراتيجية” والذي ترجم إلى العربية تحت عنوان “الهوية ورهاناتها”. فكيف للثقافات المتعدّدة أن تدافع عن بقائها أمام هيمنة ثقافة واحدة تريد عبثا أن تكون هي الوحيدة كونية من خلال نحت منظومة سياسية واقتصادية وعسكرية متكاملة منسقة بقوانين دولية وضع لها اسم العولمة؟ ردّة فعل هووية شائكة ومعقدة نشأ عنها صدام حضارات وتمزق أواصر الإنسانية. فعادت للظهور مسألة الانتماء الهووي وأحيانا القبلي والعائلي وحتى العنصري كما ظهرت أيضا مواقف معادية للانتماء سعيا نحو التجرّد من كلّ التزام لمقوّمات الهويّة وانسلاخا وتنصّلا من المسؤولية التاريخية، على غرار ما تعبّر عنه بعض المواقف “المغتربة” بموجب إيمانها المطلق في ثقافة الغرب وفي التنوير الغربي، معتقدة أنّ الحداثة غربية أو لا تكون. وبهذا ترتبك صورة الهوية بل تنفجر لتترك المجال واسعا للموقف القائم على المدّ السلفي، فخطاب الهويّة بطبعه خطاب حصري وإقصائيّ، لأنّه يعيّن الآخر بصفته خصما، وينظر إليه عدوّا أو عدوّا مرتقبا [2]، عبر رسم الدّائرة الجمعيّة. لذلك ستكمن وظيفة هذا الخطاب الأولى بما هي أيديولوجيا «في ضرورة التّعارف بين أصدقاء -أي كلّ الذين يشاركون من الجانب نفسه في معركة سياسيّة- وتعيين العدوّ، وكلّ معسكر يحتاج إلى علامات ورموز وشعارات لخطاب يجمع أنصاره ويستبعد الآخرين بالطّريقة نفسها» [3].
إثبات الذّات إذن هو شرط ضروريّ في كلّ كونية وفي كل عولمة، ودون إثبات هذه الذّات تتقوّض الأمم العملاقة والأمم الصّغيرة والأمم المريضة على حدّ سواء، ولهذا فإنّ هذا الإثبات ليس طريقةً، لا لتفادي ”العبر أممية“ ولا لمعارضة العولمة
إذا أرنا أن نتجنّب هذا الاستبعاد حتّى نبلغ الكونيّ، فهل ينبغي التخلّي عن سؤال «من نكون؟» وتعويضه بسؤال «ماذا نكون؟» [4]. وفعلا، فإنّ هذا السّؤال «ماذا نكون»، يستدعي سؤالا آخر «ما يكون الشّيء»، ويتعلّق الأمر عندئذ بماهية الأشياء وجوهرها.
تُعرّف «نحن» في السّؤال «ماذا نكون» بالمقارنة مع الأجناس الأخرى من خلال إبراز ما يكوّن ماهية الإنسان. هناك إذن عودة إلى السّؤال الكانطي «ما الإنسان؟» بعيدا عن الأيديولوجي والسّياسي، وفي هذه الحالة فإنّ نطاق الهويّة يترك المكان للمجال الإنسانوي وتأخذ الغيريّة مظهرا ميتافيزيقيًّا. إنّ سؤال «ماذا نكون؟» [5]، يستتبع تفكيرا ميتافيزيقيًّا وإيتيقيّا حول منزلة الإنسان ويتّجه صوب وحدة كلّ النّاس وهو ما يسمّيه ”كانط“ [6]، «كونية أخلاقيّة جميلة في ذروة اكتمالها»[7]، في حين أنّ هذا المجموع لا يكتمل إلاّ إذا وُجد بين النّاس -فضلا عن الاحترام المراقب لحقوق الإنسان- توزيعٌ عادل للثّروات بمقتضى نظام متماسك واتّفاق حول العدل والمساواة. وحتّى يكون المرء عضوا في هذا المجموع عليه الانخراط في أخلاق عادلة تكون ظهيرا للمساواة وتهدف إلى إنشاء سلم دائم ونهائي. ولكن ّ الواقعيّة السّياسيّة –كما في ذهن فيخته- تعلّمنا أنّ الحرب ما زالت هي إطار العلاقات بين النّاس والدّول، وأنّ هذا المجموع الذي نتحدث عنه هو من طبيعة طوباويّة، ولذلك فإنّ سؤال «ماذا نكون؟» يتضمّن بداهة سؤال «من نكون؟»[8].
ومع كل ذلك فقناعتي أنّ تعريف الهويّة والاعتراف بوحدة الانتماء يكوّنان شرطا أوّليا لكلّ كونيّة ولكلّ عالميّة في أنماط الحياة. ولكن لماذا نطرح مشكل الهويّة إذا كنّا نعرف أنّ عولمة الاقتصاد والثّقافة وأنماط الحياة أفضت إلى ميلاد حركة ”أممية“ تنشئ أكثر فأكثر، مؤسّسات جغراسياسيّة للعديد من الأمم؟ ألم ينتج أحيانا عن قضيّة الهويّة انكماشا حول الذّات وشوفينيّة خَطِرة وممارسات إقصائيّة دامية؟
وحتى ندافع عن هذه النظرية التوازنية والتعقلية بين مقتضيات الهوية والانفتاح على الكونية والتحديث، من الضّروري إعادة النظر في مصطلح الهويّة في علاقته بالغيريّة وفي نهاية المطاف، علينا رصد انتماءات هويتنا التّعددية. ينبغي القول إنّ هذا المعطى الجديد ”لتضافر الثقافات“ لا يمنع الفرد من إثبات انتسابه الواقعي والرّمزي إلى مجموعة قيم وإلى وحدة ترابيّة أنشأت ماضيا واضح المعالم هو في الحقيقة تاريخ قومي وإطار اجتماعي وثقافي وسياسي، وتمثّل كلّ هذه الأطر نقاط مرجعيّة للهويّة.
إنّ إثبات الذّات إذن هو شرط ضروريّ في كلّ كونية وفي كل عولمة، ودون إثبات هذه الذّات تتقوّض الأمم العملاقة والأمم الصّغيرة والأمم المريضة على حدّ سواء، ولهذا فإنّ هذا الإثبات ليس طريقةً، لا لتفادي ”العبر أممية“ ولا لمعارضة العولمة، إنّما هو على العكس من ذلك، بحث من أجل أن تتموقع هذه الأمم بفعاليّة ومن غير أن تدمّر ذاتها في هذا المشهد الجغراسياسي الجديد للعالم الذي يظلّ مقسّما ومتنافسا، بل وفي الغالب لا يكون إلاّ متصارعا.
ولكي ندرس هذا المصطلح (الهويّة) إذن، من الضّروري أن نوضّح مختلف هذه المستويات الدّلالية الفلسفيّة وتشابكها في مسار الحداثة [9]، والكوكبيّة الموسومة حاليّا بالتّحريك المتجدّد دائما للثّروات وبتطوير القوى المنتجة عبر إحداث سلطة سياسيّة مركزيّة، لكنّها موجّهة داخل شبكات فوق أمميّة ولا إقليميّة من خلال تشكيل هويّات وطنيّة متكيّفة مع تدويل شبكات تنقّل الأفكار والنّاس وعبر علمنة القيم والمعايير وانتشار حقوق المشاركة السياسيّة.
دلالات الهوية
لكل ذلك أعتقد أنّ تشخيص مختلف دلالات مصطلح الهويّة في علاقته بالحداثة المتحقّقة الآن عبر عولمة أنماط الحياة، يمكن أن يدفعنا نحو التّفكير بصورة أفضل في منزلة حاضرنا وارتباك وجودنا المحكوم بتناوب مرهق بين طرفين: طرف أول يقوم على انكماش حول الذّات يسوّغه نظام خطاب ارتكاسي سلفي قد يصبّ أحيانا في ممارسة الإرهاب، وطرف ثان هو تدمير للذّات مطبوع بنزوع نحو التغرب وفي أفضل الحالات نحو كونيّة مجرّدة وعولمة تيسّر أكثر فأكثر لا مساواة جديدة بين النّاس وبين الشّعوب.
على أننا إذا ما رمنا التعمق فكريا في هذه الدلالات لتصور الهوية لا بد من التمييز بين أربعة أبعاد في مختلف طرائق مقاربة الهويّة:
البعد المنطقي والميتافيزيقي حيث تكون الهويّة فيه هي هويّة مماثلة ومساواة.
البعد التاريخي وفيه تتجلّى الهويّةُ هويّةَ تجانس وإمكانيّة استقباليّة.
البعد السّيكولوجي حيث تكون الهويّة فيه هويّة شخصيّة وديناميكيّة الاستقلال الذّاتي للفرد.
البعد السّياسي وفيه تكون الهويّة في الآن نفسه هويّة تكامليّة وذاتيّة. ولكنها تتحدد أيضا بالإبعاد والغلبة والقهر.
ودون أن ندخل في معطيات فلسفية دقيقة ومعقدة نؤكد بشيء من التبسيط أن الهويّة هي قبل كل شيء «وحدة الكائن المطلقة مع ذاته» فهي تعبّر بهذا المعنى عن استحالة الفصل منطقيًّا وميتافيزيقيًّا بين الوجود والماهية: الكائن هو الوجود. بحيث سيكون هناك اندماج كليّ بين الكون والوجود مع العلم أنّ هذا الامتياز لم يُعْطَ في الواقع إلاّ للوجود بما هو وجود، أي بمنظور ديني للإله الخالق للكون والوجود والذي لا يمكن أن يُتصوّر إلاّ بما هو وحدة لا تكون قابلة للانقسام إلى ماهية ووجود.
أما على الصعيد المنطقي فيمكن أن نقرّر أنّ مبدأ الهويّة (أ=أ) يفيد أصلا المساواة والمماثل للهو عينه، فهو في المنطق الكلاسيكي مبدأ أساسيّ ينبثق منه بالإضافة إلى ذلك، المبدآن الآخران وهما مبدأ عدم التّناقض ومبدأ الثّالث المرفوع.
ولا بد أن نلاحظ هنا أن مبدأ الهويّة هذا على الصّعيد المنطقي والميتافيزيقي يتستّر إذن على الاختلافات التي تصنع وجودي بما هو وجود. ونحن نعلم أن ذلك كان القضية المعضلة في الفلسفة التي أدت بأفلاطون إلى قتل الأب إلى التنكر لبرمنيدس. بل هناك من ذهب إلى أن حل هذه المعضلة بواسطة الاعتراف بالغيرية ضمن إشكالية الهوية هو البدء الحقيقي للفكر وللتفلسف.
وفي هذا المعنى، فإنّ مفهوم الهويّة لا ينبغي امتحانه فقط من ناحية القضيّة المنطقيّة والتّفكير الميتافيزيقي. فمن أجل أن أميّز بصورة أفضل ما يعرّفني كوحدة خالصة، ينبغي تأكيد وحدة الوجود الأصليّة والوظيفيّة، ولكن أيضا يتعيّن أن نبرز الموقع الذي تنبسط فيه هذه الوحدة، أي التّاريخ بما هو إنجاز للهويّة وصيرورة. يمكّنني البعد التاريخي للهويّة من تدقيق ما إذا كان هذا المفهوم يُبقيني في وجود أحاديّ الجانب، ممّا يجعل من انتمائي وحضوري ثابتين على هذا النّحو دائما، أو على العكس، أنّ الهويّة ليست ثبوتيّة وإنّما هي طاقة تغيير دون فساد.
الهويّة هي قبل كل شيء «وحدة الكائن المطلقة مع ذاته» فهي تعبّر بهذا المعنى عن استحالة الفصل منطقيًّا وميتافيزيقيًّا بين الوجود والماهية: الكائن هو الوجود
تكفّ الهويّة في هذا المستوى عن إفادتها بواسطة التّماثل المطلق وبواسطة المساواة المنطقيّة من نوع (أ=أ)، فتصبح الهويّة في الأصل والطّبيعة تجانسًا وتشابهًا في العلاقات.
يجعل ”سارتر“ في كتابه الوجود والعدم [10]، من مبدأ الهويّة ليس فقط خصيصة مقوليّة «لما هو لذات» بصفته حضورا للذّات بل إنّ الهويّة أنطولوجيّا، ما هي إلاّ انسجام مطلق لا أثر للتنوّع فيه، وما هي إلاّ وحدة تأتلف فيها الكثرة. هذا التّوازن غير المستقرّ باستمرار بين الذّات والآخر وبين الواحد والكثير هو علامة التّجانس التي تعطي الوجود إنّيته، في حين أنّ هذه الهويّة تاريخيّة في عمقها أوّلا، وأصالة «وجود –كلّ- واحد» ثانيا وفق العبارات الهيدغيرية، ولا يمكن أن تُدرك كلية الوجود إلاّ بواسطة التّحليل الوجودي أو ما أسمّيه بالبعد الأنطولوجي- التاريخي للهويّة. وينبغي التّذكير بكون الهويّة تاريخيّة وفق دلالة معينة فالهويّة هي وعي الوجود في كماله ومركزيّته في العالم.
وعندما نستأنف النّظر في الهويّة بما هي تمثّل، نعثر لدى ”لوك“ على عبارة «حضور للذّات» بصفتها مفتاح الهويّة. يعرّف ”لوك“ بعيدا عن الجوهر المفكّر الذي نجده عند ”ديكارت“، هويّةَ الشّخص كما يلي «يستطيع شخص أن يعتبر ذاته عينها ذاتا، والشّيء المفكّر هو نفسه في أزمنة وأمكنة مختلفة، وهو أمر لا يتحقّق إلاّ بفضل الوعي الذي لا ينفصل عن الفكر، وهو عندي حاجّي (ضروريّ) للوعي… وبقدر ما يمتدّ هذا الوعي بعيدا إلى الخلف باتّجاه فعل أو فكر ماض، تتبعه هويّة الشّخص أيضا إلى هذا البعد.. الذّات هي هذا الشّيء المفكّر والواعي أيّا كان الجوهر الذي قُدّت منه روحيّا أو مادّيا، بسيطا أو مركّبا».
لأجل ذلك ينبغي الاحتكام إلى العبارة الهيدغيريّة التي اشتغل عليها ”ريكور“ بمهارة في كتابه «الزّمن المحكي» ألا وهي عبارة التّاريخويّة. إنّ الهويّة على مستوى التّاريخويّة مكوّنة من ثلاث أفكار مركزيّة تتمثّل في:
امتداد الوجود بين الحياة والموت.
الثّبات للذّات.
التّحوّل.
ولئن كانت عبارة الثّبات للذّات رغم كونها غير ثبوتيّة تَبني علاقة تواصل -وفق طريقة ما- الكائن بماضيه وحاضره، فإنّ عبارة التحوّل تربطه بالمستقبليّة. إنّ الهويّة بهذا المعنى، ليست فقط ما يسمح بحيويّة الإحالات إلى الماضي بطريقة ما، إذ أنّها يمكن أن تتكوّن أيضا بواسطة الممارسات اليومية للحاضر وبواسطة المستقبل أيضا بما هو تحوّل. ينبغي أن نلاحظ أنّه في هذا المعنى الدّقيق يمثّل التّحوّل سياقا بيولوجيّا وظاهرة اختلاف وانحراف في علاقته بالأصل، إنّه اختلاف كيفي ووراثي وسط النّوع. هناك إذن في التّحوّل قطع ووصل في آن واحد، وتفتّح وتغيّر في الوقت نفسه مع المحافظة على الطّبيعة ذاتها، والحال أنّه يتعيّن في الهويّة الأخذ بعين الاعتبار هذا الانحراف بالنّسبة إلى الأصل وبالنّظر إلى مرجعيّة الماضي وإلى وحدة الوجود الأصليّة. وهذا ما يدفعنا إلى تأكيد خصيصة الهويّة الدّيناميكيّة التي هي انبساط وحركة تُبقي الكائن في وضعيّة تجدّد دائم بين قلق حدث الموت من ناحية، وبهجة الحياة وكمالها من ناحية ثانية.
هذا إذن تعريف جديد للهويّة بما هي في الآن نفسه انبساط وثبات للذّات وتحوّل، يعطي للاختلاف وللغيريّة وظائفهما التّكوينية في الأنا. عندها فقط نستطيع أن نجعل من الهوية أمرا فعّالا إذ لم تعد الهويّة انكماشا حول الذّات وإنّما هي بالأحرى انفتاح وفهم وتواصل وفعل. بل قد يصبح تواصل الإنسان في هذه الحالة سواء مع الطّبيعة أو مع شبيهه عنصرَ هويّته المركزيّ. فالكائن هنا، كما يلاحظ ”ريكور“، لا يكون إلا مع الغير، فتصبح الهويّة خارج هذا الانفتاح خطرا اجتماعيّا وسياسيّا لأنّها تصبح بابا مفتوحا لكلّ إقصاء ولكلّ انغلاق وليس المماثل سوى هذا التحكّم المفرط في عبارة الهويّة بانتزاع خصيصة التحوّل والحركة منها. وحتّى على الصّعيد الفردي تكون الهويّة دون تفتّح مريضة وعصابيّة لأنّها تصبح منكمشة حول ذاتها ورافضة للعالم. ولأجل ذلك، لم تقع الإشارة مطلقا بشكل كاف إلى الرّواسب الخطرة المترتّبة عن انكماشات الهويّة، وقد كتب ”لمشيشي“ في هذا الصّدد «في مواجهة صعوبات التكيّف مع إبداعات الحياة الحديثة، وفي مواجهة انهيار الرّابط الاجتماعي ومشاعر الخوف والعجز، يهدي الخطاب الإسلاموي رفاهيّة اليقينيّات والحلول التّبسيطية لـ”العودة إلى الهويّة”، متناسيا أنّها تتكوّن من أخلاط وامتزاج متحقّقة في مجرى التاريخ» [11].
أبرز هذا البعد التاريخي خصوصية الهويّة الدّيناميكية، وتمثّل هذه الدّينامية مكسبا واقعيّا لكلّ انتماء. فالهوية التّونسية مثلا، بما هي عنصر لتفكيرنا لا يمكن أن تعرّف فقط بوحدة الهويّة الوظيفيّة والأصليّة، بل هي أيضا نتيجة التّاريخ وصنيعة الوعي بوحدته وبتكامله من ناحية، وبقدرته على التحوّل والتكيّف والتّغيّر من ناحية ثانية. فالغريب أننا أصبحنا في حلبة التواصل الإلكتروني في الفايسبوك بعد الثورة نتحدث عن الأصول البيولوجية للتونسي بنسب تبدو وكأنها علمية موثقة من قبيل أن 52 بالمئة من التونسيين من أصل بربري وأن ما يقارب العشرين بالمئة من أصل أوروبي وأن 14 بالمئة فقط من أصل عربي. لا محالة لا بد من أخذ التّاريخ في الاعتبار بصفته سيرورة، فهو العنصر الرّئيس لكلّ صورة عن الهويّة سواء كانت فرديّة أو جماعيّة، ولكننا نقرأ التاريخ بأحداثه الماضية حسب نظرتنا الحالية وبتقنيات معاصرة لم تكن متاحة بحيث أن ما سنفهمه من الحدث التاريخي ليس هو بالضرورة ما فهمه أجدادنا لأن نظرتنا تغيّرت وأساليب النفاذ إلى الأحداث الماضية تنوعت وتطورت تقنيا ومفهوميا. هوية التونسي تتمثل أيضا فيما هو بصدد القيام به الآن. فهو معروف الآن في العالم من خلال ثورته ومن خلال مضمونها المتمثل في إرادة الحياة بالكرامة والحرية.
وفي كلّ الحالات، فإنّ الهويّة دون انفتاح على المختلف أخلاقيّا ومن غير فعل مشارك في سيرورة التّاريخ، وبلا نهضة دائمة للأفكار ولأنماط الحياة وللغيريّة بصفة عامّة، تصبح مرضيّة وعصابيّة لأنّها تكون قد انكمشت حول ذاتها ورفضت العالم وما يحيط به.
ولعل بُعد الهويّة السّيكولوجيّ على الصّعيد الفردي يمكن له، في هذه الحالة، أن يوضّح لنا بصورة أفضل هذا الانفتاح على الآخر.
إنّ الهويّة نتاج تطوّر الفرد في مسار وجوده لأنّها تأخذ في الحسبان، منذ الطّفولة، نسقًا منتظما ومتدرّجا لمجموعة من الثّوابت المعرفيّة والعاطفيّة، وهذا النّسق الخاصّ بالهويّة يعطي للفرد إمكان تكوّنه في وحدة تقييميّة بالنّسبة إلى ذاته أوّلا، وفي صورة صراع مع الأشياء التي تحيط به ثانيا، وفي علاقته بالآخر الذّي يشاركه الوجود ثالثا. ويميّز ”جون ماسّونا“[12]، وظائف يضمنها هذا النّسق الخاصّ بالهويّة. ومنها بالأساس «وظيفة تنمويّة ودفاعيّة للشّخص»، فهي استراتيجيا تقويم داخل الفرديّة من ناحية ومقاومة لكلّ اختلال يأتي على توازن الشّخص من ناحية ثانية.
وإذا أضفنا لهذه التحولات في نمط نظرتنا إلى الهوية قدرة التكنولوجيّات المعاصرة والخاصّة بالإعلام والتواصل كالإنترنت مثلا على إعادة بناء هويّة الفرد في المجتمع فسنلاحظ في الحين أّنها هويّة متجذّرة في الأنانة قد تحاذي في بعض أشكالها الأنانيّة. فالرّصد الدّقيق لتقنيّات التواصل تبيّن دون لبس مقوّم الهويّة الجديدة الثابت والتي يتمّ بناؤها بواسطة المخيال التكنولوجي: وأعني به اكتشاف الذّات وابتداعها وإعادة بنائها من حيث هي ذات خارجة عن الانتماءات التقليديّة الكلاسيكيّة كالعائلة والمجتمع والوطن والدولة. فتكون الذّات نتيجة فعل التعبير والتّشكّل الذي تقوم به الذّات لذاتها بواسطة التقنيّات التواصليّة المتاحة عبر الكمبيوتر والإنترنت. فهي نتيجة ترميم شظايا متعدّدة من الهويّة قد يتمّ جمعها من المواقع المختلفة والمتعدّدة ومن تقنيّات “البلوغ” ولا”التاغ” و”الماشوب” زيادة عن تقنيّات الفيديو والأغاني والصور وكلّ المعطيّات سواء كانت نصّية أو مرئيّة أو سمعيّة. وكلّ ذلك يأخذ صبغة المبادلة والإبداع وتكوين الشبكات والجمعيّات والتدخّلات الجماليّة والسياسيّة والأخلاقيّة ومزج الصور بطرق مختلفة بحيث ستصبح الذّات مقولبة داخل جهاز معقّد من التصوّرات والانتماءات.
لكل ذلك يمكن القول إننا بصدد تحوّلات كبيرة في نمط تصوّر الهويّة. هناك انهيار للهويات المنغلقة التي وجدت نفسها مجبرة على التقتيل والتخريب والإرهاب لإثبات ذاتها دون الوصول إلى غاياتها. فمستقبلا لم يعد الانتماء الاجتماعي والتاريخي هو محدّد الذّات الوحيد والرّئيسي ولن يكون أبدا عماد التذاوت. بل أكثر من ذلك لم تعد السّلطة في مستوياتها المختلفة (العائلة، المدرسة، الدولة) هي التي تحدّد لنا مجالات تفكيرنا وحقول انتماءاتنا، لأنّ الإنترنت قد فتحت إمكانيّة المشافهة اليوميّة مع الآخر بالصورة والصوت من خلال تقنيّات “البلوغ” الفرديّة والجماعيّة. بل أصبحت هذه التقنيّة كالجذريّات تنبت دون انتظام بحيث يصعب احتواؤها وتنسيقها. هناك إذن إعادة امتلاك القول والتعبير والاستحواذ على المعلومة التي لم تعد ملك السلطة وذلك ليتم نشرها وتوزيعها حسب غايات أيديولوجية وتجارية.
وخلاصة القول فإن انفجار الهويات بمخاطره الكبرى سيكون حتما عماد الفكر السياسي المقبل في المعقولية العربية لأنّ ما سيبرز مستقبلا يتمثل في تكوينات من ذوات مشتّتة تربط بينها روابط مختلفة غير مركزة وكثيرا ما تكون خيالية عن طريق الإنترنت مثلا قد تأخذ هذه الرّوابط أشكالا متعدّدة : كنشر الأفكار والآراء والتحاليل والنتائج العمليّة والمعلومات الاقتصاديّة، عن طريق الإنترنت وغيرها. فمع تحوّل الذّات من الهويّة السّرديّة إلى الهويّة السيبرنيّة يتحوّل الارتباط والانتماء من المجتمع العادي إلى المجتمع السيبرني. لكل ذلك لا بد من مقاومة الهويات السردية القاتلة وتحرير المعقولية العربية من قيود نظرتها الماضوية واقتراح هوية بديلة متحركة تأخذ بعين الاعتبار تحولات العالم اقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا بجانب تجذّرها في معطيات حضارتها الغنية والمتنوعة. لعلنا بذلك نضمن للأجيال العربية المقبلة حياة متوازنة غير منفصمة تتجذر في حضارتها كما يتجذر الآن الفرد الغربي في معطيات حضارته ولكنها في الآن تبني عمادها الأساسي في مشاريعها وأعمالها المستقبلية وإبداعاتها في كل الميادين فتكون هذه الحياة المتوازنة مدخلا للكونية ومرتعا للإنسانية.
إشارات:
[1] نعني بالتـّذاوت علاقات التبادل بين ذات وذات أخرى وهي ترجمة للكلمة الفرنسية: Intersubjectivité
[2] Clausewitz, De la guerre, éd. Minuit, Paris 1954 , p.70, cf. Fathi Triki, Les philosophes et la guerre, Burini, Sfax 1994 (2°édition), p.135.
[3] – Jean Baechler, Qu’est-ce que l’idéologie ?, coll. « Idées », éd. Gallimard, Paris 1976,p.64
[4] – Richard Rotry, op, cit
[5] – Richard Rotry. «Universalisme moral et tri économique», in Diogène.n° 173, janvier-mars 1996, p.3.
[6] Emmanuel Kant, Idée pour une histoire universelle, éd, Vrin, p 229.
[7]- Emmanuel Kant, Idée pour une histoire universelle, éd, Vrin, p 229.
[8] Qui sommes-nous ? Les rencontres philosophiques de l’UNESCO. Ed. Gallimard /Unesco.Paris 1996.
[9] – Jurgen Habermas, « Le discours philosophique de la modernité », p 3.
[10] J.Paul Sartre, L’être et le néant, Ed, Gallimard, ΙΙ° partie, p.119
[11] – Abderrahim Lamchichi, « Malaise social, islamisme et replis identitaires dans le monde arabe », revus confluences, n° 6, Paris, printemps 1993, p.41
[12] – « Identité personnelle : Un champ de recherche en voie d’organisation », in Adolescence et identité, op. cit, p26 à 44
[13] – Michel Faucault, Le souci de soi, éd, Gallimard, 1984, p.308.