المنعطف الأخطر: التربية على التكنولوجيا
الهواتف الذكية هي كمبيوترات مصغرة محمولة غيّرت حياة الإنسان بالكامل، عبر تمكينه من اختراق حاجزي الزمن والمكان، وذلك بكلفة مادية ومعنوية تكاد تقترب من الصفر. كما فتحت هذه الأجهزة الواقع على الافتراضي كامتداد للعالم الفيزيائي، لا كنقيض له. ويمنح الهاتف الذكي مستعمله الإحساس بـ “الحضور الكلي” في عالم اليوم الذي يلامسه الشخص أكثر عبر بوابة الويب. وقد ساهم هذا الأمر في فرض ملامح إنسية جديدة، ينفق وفقها مستعملو الهواتف الذكية قسطا وافرا من حيواتهم في التواصل.
لم يعد التواصل عبر هذه الأجهزة التكنولوجية الجديدة يستدعي مهارات مسبقة، والتزامات معنوية وأخلاقية كشرط لا غنى عنه لصناعة المعنى: فالمجهولية، وشرعنة كشف الحميميات، وإشهار الذات، والاستعمال المتعدد الأوجه للهواتف الذكية من الأمور التي جعلت الاتصال أكثر دمقرطة، إذ مكّن المواطن من المشاركة الافتراضية في كل القضايا، وهو ما قد يربك حسابات الكثير من الأطراف التي كانت، من مواقعها المختلفة، توجه الرأي العام نحو الأهداف التي ترسهما.بحيث بدأت فكرة الاتصال النازل ذي الطبيعة السلطوية تتآكل اليوم بقوة. لكن بالمقابل، عمت الفوضى والنشاز الناتجين عن تداخل الأصوات.
شرط المعرفة
هناك مقولة فحواها أن “وسائل الاتصال ليست إلا ما نفعله بها”. ولهذا، يجب التربية عليها منذ الصغر، إذ يمكن لهذه الوسائل أن تكون كوة يأتينا منها لفح الجحيم. فالمعارف والأخبار التي تصلنا عبرها، لا تخضع لاختبار الجودة. بل أكثر من ذلك، هي خليط من الجد والغوغائية، والغث والسمين، والحساس والتافه، وقد تكون الغاية من طرحها أيديولوجيا دعائيا صرفا.
إننا أمام غزو الهواتف الذكية، في مرحلة يمكن تسميتها “مرحلة المعلومات اللامنتهية” وهو ما قد يؤدي، إذا لم تكن للأفراد منهجية للتعامل الناجع مع الظاهرة، إلى ارتباك معرفي واضح. وقد تخلق هذه الوفرة أوهاما من الصعب تذويبها، منها أساسا الاكتفاء بالمعلومات كبديل عن المعرفة، في حين أن المعلومات هي فقط شرط للمعرفة. وكلما تكاثرت المعلومات، صارت المعرفة أكثر تعقيدا، على مستوى بنائها، وتجريبها ليقبل بها أكثر عدد من الناس. وهذا ما يؤدي إلى عدم استقرار الحقائق المجتمعية، وظهور جيش كبير من المناهضين لها عبر أطروحات جديدة متكررة باستمرار.
إن الواقع الافتراضي ليس خيالا. ولذلك تقل فيه فرص إنتاج مضامين مفكر فيها بكفاءة. مما يجعل معين الخيال سائرا فيه إلى نضوب، وذلك لسمة الاستسهال الذي يطبع التواصل على الموبايل، سواء على صعيد إنتاج المحتوى أو استهلاكه.
تربية جديدة
التفاعلية لا تعني أبدا أنها، في حد ذاتها، منتجة للمعاني التي يحتاجها الإنسان لتطوير ذاته ومجتمعه، بل هي مشروطة بكثير من المستلزمات لتكون كذلك. وقد تخلق التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال وهْما أساسه أن امتلاك الأداة هو رديف لما يمكن للأداة أن تنتجه إيجابيا لصالح الإنسانية. ثم إن استعمال الهاتف الذكي لا يستدعي ترخيصا، ولا الخضوع لدفتر تحمّلات، ولا التوقيع على ميثاق أخلاق. وهذا شيء يمكنه أن يؤدي إلى إفلاس إنسانية مستعملي الموبايل، خاصة بالنسبة للمراهقين والشباب الذين لا يستطيع أحد اليوم مراقبة استهلاكهم للمضامين الافتراضية. وفي نظري، لو كانت شبكات التواصل الاجتماعي أسقطت اللايكات، واكتفت بخانة التعليقات، لكان الأمر أجدى، وخرجنا من ثقافة الإعجاب الفج المتبادل، في أحايين كثيرة، من أجل رد ديْن الإعجاب فقط.
ولا أشك في أن الحل الأمثل لكل هذه الجوانب السلبية المرتبطة بالهواتف الذكية، يكمن في التربية على التكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال، استهلاكا وإنتاجا، داخل مقررات التربية بالمدرسة، وذلك من أجل تفعيل جيد للممارسة التواصلية التكنولوجية.