الموت‭ ‬والحياة‭ ‬أحيانا

السبت 2015/08/01
لوحة: عاصم الباشا

I

كانت النار تلوك بنهم كبير ما يصادفها على الأرض، وكان الدخان الأسود يتصادع من كل مكان، يعلو ليعكر صفو السماء، ويحيل زرقتها النقية إلى حزن عميق قاتم السواد‭.‬

كانت أصوات المدافع والأسلحة النارية تعزف عبثاً وتُشكل موسيقى صاخبة عنوانها الموت، فيما كان الجندي العراقي المكلف عبدالله يحاول أن يبدد خوفه ويبدو أكثر قوة من بقية زملائه من الجنود‭.‬

يحاول امتصاص أو تقنين الخوف المتنامي بين رفاقه، يحدثهم في أمور شتى، غير أن حكاياته كلها كانت تبدو هامشية، تافهة، باردة كمكعبات ثلجية صغيرة تقاوم ذوبانها تحت أشعة شمس صيفية لاهبة‭.‬

وعلى الرغم من ذلك، كان يكرر محاولاته من دون ملل أو كلل، يكلمهم عن أيّ شيء يطرد كابوس الهلاك، يغنّي لهم تارة، ويسخر من الموت تارة أخرى، ويحثهم على كتابة الرسائل لذويهم وحبيباتهم، ويعدهم بإيصالها مع أيّ جندي يتمكن من نيل استحقاقه باستراحته القصيرة‭.‬

لم يكن عبدالله مسؤولاً عن فريقه المكون من عشرة جنود، معظمهم من مواليد ستينات القرن الماضي، بقدر ما كان صديق الجميع وحافظ وكاتم أسرار كل منهم‭.‬

قساوة القصف وشراسته جعلت دوائر الخوف تكبر وتتسع مع الوقت، وهو الأمر الذي وضع الجميع في مواجهة موت محتّم، مما دعا أعضاء الفريق للبحث عن ابتكار ملجأ أكثر أمناً من السواتر الترابية التقليدية‭.‬

وجه عبدالله رفاقه بخلع خوذهم الحديدية الثقيلة التي كانت تغطي أعلى رؤوسهم واستخدامها كوسيلة لحفر ملجأين، أولهما تحت الدبابة الروسية (T55) وآخر خلفها مباشرة‭.‬

انقسم الفريق إلى قسمين وكأنهم أرادوا دفن أنفسهم على نحو مؤقت في تلك الخنادق، بانتظار أن تغفو نيران الحرب ولو لبرهة ليستنشقوا أنفاس الحياة مرة أخرى‭.‬

تمدد رزاق في تلك الحفرة المظلمة، رمى بجسده المتعرق على الأرض غير آبه بما يحيط حوله‭.‬ وكأنه انتزع الإحساس من روحه وتحدى ضجيج الحرب من حوله مثلما تحدى خوفه وأصدقاءه وبقي يتأمل أسفل الدبابة حتى نام نوماً ثقيلاً، ليبدو كأنه في غيبوبة أو فقدان للوعي‭.‬

أما عمار أصغر أصدقائه سناً، فقد كان يرتجف كبرعم فتيّ أرهقته مواجهة عاصفة هوجاء‭.‬ كان يحتضن سلاحه الرشاش كمن يحتضن حبيبة فارقها مرغماً‭.‬ يدفن رأسه بين ذراعيه والبندقية ويبكي خلسة ويعمد إلى كتمان نحيبه وأسى روحه حتى لا يبدو ضعيفاً أمام رفاقه‭.‬

فيما كان أكرم أشد أعضاء الفريق شراسة ورغبة بمواجهة الموت، ليس لإيمانه بالحرب وتضحياتها، فهو لا يبحث عن النصر بقدر ما يفتش عن المغامرة الشخصية‭.‬

كان قاسي الوجه والملامح والسلوك، حاد المزاج، منعزلا عن أغلب زملائه يبدو للوهلة الأولى وكأنه قاتل مأجور، غير أنه رغم كل ذلك كان طيب القلب‭.‬

رفض دعوة عبدالله وإصراره ولم يستجب لأمر الاختباء تحت الدبابة أو النزول إلى الملجأ المجاور، وإنما قرر المكوث في حجرة الدبابة وحيداً‭.‬

احتدت وتيرة القصف المدفعي والجوي، وكأن العدو يستعجل بقية الفريق للانزواء في أحد الملجأين‭..‬

صرخ عبدالله بنبرة قائد آمر من تحت الدبابة محاولاً حث من تبقى من الزملاء في العراء على الاستعجال والمكوث في أحد الملجأين‭.‬ ولكن سقوط قذيفة هاون قريبة، أصاب الجميع بالخرس، وعطل الرؤية تماما، ولم يبق في المكان إلا رائحة الموت الممزوج بالبارود‭.‬

II

ضاعت بوصلة الإنسانية، وانعدمت الرؤية، تعطلت العيون عن الإبصار بسبب التراب الهائج من جرّاء العصف، فيما أصيبت آذان الأحياء من الجنود بصمم مؤقت‭.‬ وتجمدت بقية حواسهم بتأثير الخوف‭.‬

هدأ ضجيج الانفجار، واستقر التراب المتناثر في السماء، وبدأ كل واحد من الأحياء يستكشف جسده ويتلمّسه بحذر‭.‬ لئلا يكون مصاباً أو متشظياً، غير أن عبدالله دهش وانتابه الخوف لاستكشاف مصير رفاقه الذين لم يمنحهم القدر فرصة الاختباء في أحد الخندقين‭.‬

في العراء كان المشهد يثير الدهشة والذهول، تحول لون التراب الذهبي إلى مزيج لوني يجمع بين الأسود والأحمر، فضلاً عن تناثر بعض الأشلاء المتفحمة‭.‬

على الرغم من وجع عبدالله وانكسار روحه إلا أنه لم يكن يقوى على البكاء، فالدمع لا ينزل حين تهرب الروح من الجسد‭.‬

اقترب من بقايا جسد أحد الضحايا، ولم يكن إلا نصف جسد سفلي، كان قد فقد هوية وملامح صاحبه، تنبه لطرف ورقة كانت تتهاوى من جيبه‭.‬ سحبها، وفتح طياتها بانفعال وارتباك بالغين بغية معرفة هوية صاحب الجثة‭.‬ وإذا به يقرأ رسالة موجزة جاء فيها:

((حبيبتي آية‭..‬

هاي أول مرة أكتب بيها رسالة، لأن صديقي عبدالله وعدني يوصلها الج‭..‬ وإذا وصلت راح اكتبلج كل فترة‭.‬

آني بخير، والموت ناسيني، يمكن يعرف بية شكد أحبج، بس الشوق الج ولأمي معذبني أكثر من الحرب‭.‬

بس أرجع بأول إجازة أدز أمي إلكم خطابة‭.‬

أحبج))

تخلى عبدالله عن شجاعته وبكى بحرقة، انهار تماماً، شعر بأنه مسؤول عن هذه البشاعة، وعن هذا الموت‭.‬

حدق ببقايا الجثة وأعاد قراءة حروف الرسالة وكرر النظر إلى سلاحه الرشاش الذي يستند إلى كتفه، رماه على الأرض، وحدق به مرة أخرى‭.‬ ركز نظره إليه، بصق عليه وعلى بزته العسكرية، أهان نفسه لأنه حمّلها مسؤولية مقتل إنسان أراد الحياة، ليدخل بعد ذلك في حالة من الهستيريا وبدأ بموجة من السب والشتم على القائمين والمتسببين بإشعال فتيل الحرب‭.‬

ركض نحوه (أكرم) واستعجل حبس أنفاسه وكتم شتائمه، كونها كانت كافية لإيصاله إلى حجرة الإعدام‭.‬

تسلم (أكرم) زمام الأمور بعد انهيار عبدالله، وأوعز للجنود بجمع أشلاء الموتى في مكان واحد لإعادة محاولة اكتشاف هويات أصحابها‭.‬

نُفذ الأمر، وتراكمت الأشلاء فوق بعضها البعض لتبدو كأنها تمثال أو عمل تشكيلي أسطوري‭..‬

تبسمر (رزاق) قبالة هرم الأشلاء الذي شيده رفاقه، بدا شارد الذهن متأملاً لوحة الموت التي رسمت أمام عينيه‭.‬، واستمر صمته، حتى صوّب نظره إلى رأس متفحم، ليصرخ بحرقة “عباس‭..‬ هذا رأس عباس!”‭.‬

استغرب الجميع قدرته على تمييز رأس عباس دون غيره على الرغم من أن جميع الجثث الستة متفحمة بالكامل‭..‬

أعاد صراخه وهو يضرب يديه على رأسه بعد أن فهم استغراب وتشكيك زملائه “عباس، انه عباس، عرفته من أسنانه المعوجّة، وهذا نابه المكسور، كنت قد كسرته له ذات مزحة أيام الدراسة المتوسطة، هذا صديق عمري عباس″، ثم ركض نحو الجمجمة وحملها وبدأ يقبلها ويمسح بها دموعه، إلى أن تدخّل (أكرم) لحسم الأمر‭.‬

اقترب (عمار) من تل الضحايا تاركاً خوفه وراء ظهره، رفع يده إلى السماء ودعا أصدقاءه لقراءة سورة الفاتحة‭.‬

III

وصلت آليات الدعم إلى الفريق بعد طول انتظار وتكرار نداء الاستغاثة، حمل الكادر الطبي الجثث في مشهد جنائزي جُسد أمام الناجين الأربعة‭..‬

وما هي إلا ساعات قليلة حتى تمّ تعزيز الفريق بستة أشخاص آخرين عوضاً عن الذين غادروا إلى السماء‭..‬

في تلك اللحظة أيقن كل واحد من الجنود الأربعة بأن الحرب لا تأبه بحجم الخسائر وما هم إلا وقود لمحرقة عملاقة لا تشتغل إلا بأرواح الشباب‭.‬

بدأ كل واحد منهم يفكر جاهداً بالفرار من الموت‭..‬ أولهم كان أقواهم وأكثرهم جسارة إنه أكرم الذي قرر خسارة أصبع من أصابع يده، مقابل النجاة بجسد كامل فأطلق النار على يده محاولاً إيهام الكادر الطبي بأنه تلقى إصابة من العدو، وسوف يحصل بعدئذ على كتاب التسريح من الخدمة العسكرية لأسباب طبية، غير أن إصابته كانت أكثر مما توقع لها، حيث قطعت يده من أسفل الكتف‭.‬

وعلى الرغم من إعاقته، ومخاطرته بحياته، إلا أنه أحيل إلى مجلس تحقيقي بعد أن كشف الكادر الطبي عن مصدر الرصاصة التي أصابته ومسافة إطلاقها، وهو الأمر الذي أحاله من مواجهة الموت في ساحة الحرب إلى موت آخر داخل زنزانة مظلمة‭.‬

أما عمار فقد رمى سلاحه وحمل كتابه المقدس وتقدم تجاه عدوه وسلم نفسه كأسير حرب، وبقي عبدالله ورزاق أنموذجا لسرد حكاية حرب كاملة.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.