المُتَلَعْثِمة
حدَّثتني سِين: لوْ لمْ تصْمتْ نساءُ عائلتي، لما كنتُ امرأةً مُتَلعْثمة. لما اختبأتُ خلفَ امرأةٍ أخْرى لتخْبرَ قصّتي.
الجميعُ يصِفني بالمُتَلَعْثِمة. ليس فقط بسببِ نطقيَ المتردّد للكلماتِ بلْ أيضاً لأن لديّ مشكلةٌ في إبداءِ الحجةِ وسردِ الأحداثِ مشافهةً.
الأمرُ ليسَ بجديد، بلْ منذُ الطّفولة، منذُ أنْ بدأتْ أنطقُ جملاً مفهومةً وأحاججُ والدتي: “لكنكِ لمْ تسْمعي ما حدث”، “هسْ! اصْمتي فسوْف يسْمعونك؟“.
“واللهِ لمْ أضْربه، لقد أخذَ لعبَتي وحطّم رأْسها بِالحجر في الحديقة الـ”. تضعُ يدَها على فمي، أحاولُ إبعادَ يدِها، فتضغطُ بيدها الأخرى القوية على ساعدي الرفيع، فتمنعني من أنْ أرْفع يدها الكبيرة، آخذُ بالقفزِ محاولةً التفلّتَ من قبْضتِها. تلقّنني بصوتٍ منخفضٍ وحاسِم “احتجاجنا على سلوك أطفالهم في بيتنا سيدفعهم إلى إخبارِ النّاس أننا أقارب غير محترمين، وأنّنا نزعجهم أثناء إقامتهم في بيتنا، وسيسودُّ وجهي بين أفرادِ عائلةِ أبيك”. أحاولُ التملّص منها فتضغط بيدِها على ساعديَّ الاثنين ولكن بقوةٍ أكبر، قوةٌ مؤلمةٌ، أوْقنُ هذه المرّة أنها تعاقبني على محاجِجتي لها واعتراضي على تنْبيهاتها لي، أكثر من كونِها تريدُ إسكاتي. تردِّد وفمها قريبٌ من أذُني فيغدو صوتُها أكبر من جمْجمتي “فهمتي؟ ولا حرف!”.
أنْزوي في الوحْشة، أغنيةُ (ماما ماما يا أنْغاما) التي أدْرُسها في المدرسة لا تعبر عنْ أمّي، الأمّ الّتي تتّفق عليْها التَّعريفات اللغويّة في نصوصِ القراءةِ والدراما والشعرِ وقصائدِ الأطفالِ لا تشبهُ أمّي هذِه، تِلك أمّ تنصِتُ لابْنها أو ابنَتِها، أعيدُ المُحاولةَ لاحقاً لأُخبرها كيفَ جرَتِ الحادثة وحجْم الألَم الّذي يَعتصر قَلبي، لكنّها تغلقُ فمي مرةً أخرى وتتوعّدُني بِعقوبَة الفلفل الحَار. عندَها أصْمتُ صمْتاً مُطْبِقاً وأبكي. أفتقدُ اليومَ ذاكَ البكاء. دموعي لمْ تَعد تنْهمِر بِغزارةٍ كما الْماضي، ربّما لمْ تكُنْ خيبَاتي اللَّاحِقة بِحجْم فجيعَتي منْ عدم تَطابق مفردة أمّي في الكُتب معِ أمّي في الوَاقع.
عندما بتّ أتقنُ الكتابةَ والقراءةَ حرصْتُ على أن يصبحَ خطّيَ جميلاً، فَالكتابة ستكونُ نجَاتي، لقد تعلمتُ كيفَ أَبوح، كيفَ أذرِفُ الكلماتَ على الورَق.. بالطبعِ لمْ أكنْ أفقهُ هذهِ الاستعارة وهذا الرّبطُ بينَ الكتابةِ والألمِ ولكنّني كنتُ أشْعر بِالشّفاءِ أسْرع، فأَكتُبُ نصّاً في ورقةٍ وأخْفيها. المرّة الأولى التي اكتشفتْ فيها أمّي الورَقة وقرأتْها كنتُ أرتجفُ خوْفا، أراقبُ وجْهها وأحدّث نفسي “ماذا لو خيّرتني بين الضرب أو الفلفل الحار؟ سأختار الضربَ!”. لكنها لمْ تقمْ بأيٍّ منَ العقوبتين، أدهشني بكاؤُها واحتضانُها لي. لمْ أكنْ أعلمُ أنها ستتأثّر، مسحتُ دمعَها بكلتا يَديّ حينها، وهمستُ لقلبي أنْ يُسامحَها. أذكرُ يوْمَها أنَّ وجهةَ عدائي تَحوَّلتْ مِنها إِلى أولئكَ الّذينَ يسْكنون بيْتنا ضيوفاً منذُ عاميْن.
في كلِّ مرةٍ تغلِق فَمي وتقول: هسْ، ولا حرْف! أكتب نصاً جديداً أشْرحُ فيه المُشكلةَ منْ وِجْهة نظري وَأخْفي الورَقة فوْق خِزانةِ ثيابِ أمّي، أنتظرُ قراءتَها لَها ثمّ قبْلتها اللذيذة. ناعمة تلك القبلة، لم تكن قبلة حنان فقط، بل قبلة عجائبية لأسبابٍ؛ أوّلها: أنها كانتْ تثني على كتابتي المعبّرة والْتقاطي للتّفاصيلِ الصّغيرة، وثانيها: أنّها تهزّ رَأسها راضيَة، كمَا لوْ أنّني اسْتطعْت إِقناعَها، وثالثها: أنها كانتْ تنظرُ في عيْنَي، فأشعرُ أنّها تواصَلتْ معي. لوْ تعلمُ أمّي كمْ كنتُ أشعرُ بِالامتلاءِ عندما تتواصَل عيْناها معي.
أنْ أَحاولَ أنْ أقولَ أمرا بيْنما الآخرُ لا يُنصت، ويَستمرّ بالحَديث، ولا يتواصَل معَ عيْنَي، أمرٌ لمْ أكُن أعانيهِ معَ أبي، كنتُ أسْتطيعُ مناقشتَه ومحاجَجَته، لمْ أكنْ أتَلعثم، فهو يتيح لي أن أتحدث، لا يمارس منافسة من يرفع صوته أكثر في الجدال ينتصر.
امتدَّ أمرُ تلعْثمي زمنياً ومكانياً، فكلّما احتدّ نقاشي مع آخرٍ ما، وعلا صَوْته، ارتبكتُ وتلعْثمت، لدرجة أنْ أتفقد علاماتِ أصابعِ أمّي تضغط على ساعدي.
تعلمتُ أنّ ترْك المُتناقِشينَ المِساحةَ لبعضِهم أثناء النقاشِ سيمْنحهم المجالَ للتفكيرِ قبْل التّفوّهِ بِالحماقاتِ ومن ثمّ النّدمَ عليها، تعلّمت أن أكثر النقاشات إيلاماً تلك التي تكون مع شخص لا يكترث بما سيُكتب على الأوراق المخفية فوقَ خزانةٍ مَا. تعلَّمْت أيْضاً أنّ عليّ بالصمتِ عندما يرتفع صوتُ الآخر، لأنني سأنطق بكلام غيرِ مُتسلسل، كلام لا أعنيه، فيؤوَّل ويفسّر ممّا يقلِبُ الأمورَ ضدّي. تعلمْتُ أيضاً أنَّ النقاشَ الحادَّ يتطلَّب تواصُلاً بِالعيْنيْنِ وإِلا تحوّل إِلى جَلْسَةِ غَضَبٍ غير مُجدٍ، تأكّدْت أنّ آخرَ عهدي بِالتواصُل بِالعيْنيْن كانَ معَ أمّي.
في هولندا حيثُ أعيش، يُعدُّ التّواصُل بالعينينِ عَلامةَ احْترام المتحادثين لبعضِهم بعضاً. عنْدما كنْت أتحدث مع موظفِ خدمةِ اللاّجئين كنت أنشغل بالنظر للطاولة أو الورقة التي بين يديه، أبتعد كليا عن وجهه وعينيه. في إحْدى المرّات توقف عن متابعة شرحه للإجراءات اللازمة لمعاملتي التي بين يديه، وسألني: هل هناك أيّ مشكلة؟ هل ضايقتك؟ هل آذيتك؟ هل بدرَ منّي ما يسيءُ لكِ؟ أربكتني أسئلته، فلا بد أن هناك سوء تفاهم قد حصل بيننا. يومها، لقّنني الموظف ذاك درساً حولَ أن من أصولِ الحوارِ والخطابِ في بلادهم، النظرُ في عينِ الشخص المقابل لك. أخبرتُه نِصفَ حكايتي؛ وهي أنني امرأة! وأن من أصول حوار المرأة مع الرجلِ في بلادِنا ألا تنظر مباشرة في وجه الرجل أو عينه أثناء المحادثة، لذا من الصعب عليّ أن أغير عادتي بين يوم وليلة ولكنني سأحاول. يبدو أنني استطعت تجاوز الأمر لاحقاً وبتّ أتواصل مع الآخرِ بالنظرِ في عينيه، ولكنّني واجهْت مشْكلةَ عدمِ قدرتي على الوقوف أمَام لجان التوْظيف لأقدم عرضاً لمشروعي، لدرجةِ أنني حصَلت على ملاحظةٍ شبه دائمةٍ من لجانِ التوظيف مفادُها أنّ المشروعَ مقنعٌ ولكنّ المتقدّمة للمشروع غير قادرةٍ على توصيل فكرتِها وشرح مشروعها وهو أمرٌ مربكٌ للجنة، اعتقدت أن التقدم للجنة أونلاين سيكون أفضل حالا. لكنّ يد أمّي كانت لاتزالُ تغلقُ فمي، والأخرى تضْغط على سَاعدي، ومشهدُ عقوبة الفلفلِ الحارِ يلوحُ لي إن تفوهت بما لا يعجبُ لجنةَ التحكيم.
لقد كنتُ طفلةً مؤلمةً لأمي. مؤلمٌ ذلك اللونُ الفاضحُ في كلامي، لا ألوانَ خلاسيةً ولا مائيّة.. كانت تشعرُ بالإهانَة عندما أعتَرضُها بأنّ الأحداثَ حدثَت بشكلٍ مغايرٍ لمَا تتحدّثين به. أمّي الّتي تزوجت منْ أبي بعمرٍ صغير، سمعتها مرةً تردد: طفلٌ يربّي طفلاً!
الفلفلُ الحارقُ عندمَا يتمُّ حشوُه بمؤخّرتِك لنْ تشعرْ بهِ مبَاشرَة، سيتَغلْغَل إليك الإحساسُ بهدوءٍ وتدرّج، ولنْ يغادرَك بسهولَة أوْ فَجأَة، سيطولُ أمدُه، أذكرُ أنَّني كنْتُ أَبْكي بِصَوْت مَسْموع بدايةً ولكن عنْدما أيْقنْت أنّ ارْتفاعَ صَوْتي وشكْواي لنْ ينْفعَانني بِتخفيفِ الألمِ بكيْت نهْنهة، فالألمُ ليسَ خارجيّا كيْ اشْكوه، الألَم في داخلِ أحْشائي، يتفرّع ويتشعّب في حوْضي، هكذا أُحِسّه، حارِقٌ! هذا النوْع منَ الألَم المتمَدّد والممْتد زمنياً شكّل ذاكرتي الْحالية، الذّاكرة الّتي تحْتفظ بالألمِ زمناً طَويْلا. نزيف الدّم الذي يتبعُ تمدّد الْفلفل يصْبح حارقاً أيْضاً، لذا صدَّقتُ أُمي عندَما كانَتْ تقول لي أنّ مَا ينِز منّي ليْس دَماً، بل الْفلفل ذاتُه ولذا من الجيد أنْ يخْرجَ منْ جسدي. لحسنِ حظي أنهُ بعد أن عادَ والدي من سفرهِ واسْتقر بيْننا لم تعدْ أمي تمارس عقوبَة الفلفلِ تلْك.
ها أَنا ذا في سنّ اليَأْس كما يرْغبُ الجميعُ أن يسمّيَه، إلاّ أنّني أسمّيه سنّ الفرَج. فمنذ ثلاثةٍ وثلاثين عاماً باغتتني بقع حمراء واستقرت بلباسي الداخلي، توجّسْت حينَها أن الدمَ ذاكَ سببُه آخرُ عُقوبة فلْفل نلْتها منْذ سنتين. ما زادني ذعْراً أيْضاً هو اعْتقادي بأنّني مُصابة بمرضٍ نتيجةَ عُقوبات الفُلْفُل تلك. خرجت من الحمّامِ هرعةً إلى أُمّي وأَبي شارِحة لهما ما وجدت، إلاّ أن أمّي أخذتْ بِالضّحك وباركَت لوالدي (مبروك، صار لديْنا دجَاجة) ابتسمَ لي والدي وغادَر المَكان، فالأمر حالةٌ نسائيّة بحسب أمّي. كنتُ أحاول أن أرفع صوتي لأُسْمِعَ والدي أنني أنزِف بسببِ فلْفل أمّي، كانتْ أمّي تسْكتني ويدُها على فمي بينما تَضحَك وتُباركُ لي.
أيّ مبَاركةٍ تلْك! ناولتْني قطعة قماشٍ أبيضَ بعدَ أنْ علّمتني كيفَ أضعَها في لباسيَ الدّاخلي، فأجبتُها بأنّني لمْ أنسَ كيفيةَ وضعِها منذُ آخر حفلةِ فلْفل. لمْ تستطعْ تمالكَ نفسِها من الضّحك، الجهْدُ الّذي بذلْته أثْناءَ الضّحك أفْقدَها طاقَتها، فأرْختْ جسَدها على الحائطِ خلْفها وقد تورد وجهها. ما زاد غضبي أنها أخذتْ تقنِعني بِأنَّ بقع الدم تلك ليستْ عقاباً على فعلةٍ فعلتُها، بلْ هيِ نعمةٌ منَ الله. تهْمس “ستتمكنين من الإنجاب”.
يا ربَّ السمواتِ كيف تتحولُ العقوبةُ إلى نعمة، ثم من قالَ لأمّي إنني أنتظرُ هذه النِّعمة. صحيحٌ أنني أمثِّل دوْر الأم للدّمى لارا ورؤى ولكنْ هذا لا يعني أنّني قد اتّخذت قراراً بأنني أريْد أن أصبح أمّا! علقتُ باكيةً: لكنني لمْ أسأل اللهَ أن أصبح أماً؟ حسمت الأمر بأن قالت ردودها بشكل متوالٍ “هذا الحديث حرام، لا يجوز، أنت فتاة، ويجب أن تحمدي الله على هذه النّعمة، هناك فتيات تجاوزن الثمانية عشر من عمرهن وهن يركضن من طبيب إلى طبيب يبحثن عن علاج كي تأتيهن الدورة الشهرية، منذ الآن سيتشكل جسدك، سيصبح خصرك نحيلا وصدرك سوف يكبر، ستتغير ملامح وجهك الطفولية بعد بضعة أعوام، ستصبحين جميلة، الدورة الشهرية هي فلترة للجسد من الأوساخ، فبعد كل دورة ستتجدد خلاياك وستصبحين حيوية أكثر”. قلت لها بهدوء وقد تحسست أنني أفقدتها صبرها: وهل يحصل الرجل على نعمة الفلترة هذه؟ هل هو غير قادر على الشعور بالحيوية؟ لماذا لا يحمل الرجل؟ لماذا لا ينجب؟”.
نظْرَتُها التّائِهة في وجْهي كانت كنظرة من يبحث في عقله عن حل أحجية “الكلمة المفقودة”، ثم عادت للضّحك. قلت لها: أريد أن أمنعَ حدوثَ الدّورة بإغلاقِ تلك المنْطقة، لا أريدُ أنْ أقضيَ عمري في تبديل قطعِ قماشٍ ملوّثة كهذه، سارعتْ لطمْأنتي: سأشتري لكِ فوطاً صحيّة تُستعمل لمرةٍ واحدة، مثل تلك التي أشتريها لي قبلَ أن تأْتيني الدّوْرة.
صفنْت للحْظة، كيفَ لمْ أفكّر في هذا قبْلاً، فأُمّي أنثى أيضاً! وها أنا الآن أعلمُ أنّنا نتَشارَك هذهِ اللّعنة الشّهريّة!
قلت لها: كيف أرفضُ أنْ أصاب بهذا المَرض كلّ شهْر.
قالت “هناك أمورٌ لا تُرْفض، ولا تقْبل، هناك أمورٌ هكذا هي، مثلُ العواصِف والمطَر والرّياح، أمورٌ لا بدّ مِنها”. لم تقنعْني إجابَتها، فالعواصِف تهاجِم كلَّ النَّاس أمّا الدّورة الشّهريّة فتهاجِم النّساءَ فقط.
إدراكيَ أنّ المرأةَ محكومةٌ بشروطٍ بيولوجية، كان مبكراً، شروطٌ تجعل تذمّراً من مثل: (لماذا وُلِدْتُ فتاةً؟!) تذمّراً جهنمياً يدلّ على الكفرِ والاعتراضِ على حكم الله. الشروطُ البيولوجيّة ذاتها الّتي أفْرزت مفهومَ الأمومَة. يوم واحدٌ بالسَّنة للاحتفاء بالأم لمْ يكن كافياً لبناء منظومة أخلاقية تمنع حدوث مشهد ضرْب جدّي لجدّتي أمامَ عيني؛ أخذَ يرْفسها بقدميه لأنها اعترضت على اتهامه لها بأنّها مقصّرة، سردت مهمّاتها اليومية قبالته، كنت أستمع لها تسْرد وتفقّط على أصابعها بينما يجيبها بأنه لمْ يجْبرها على القيام بكل تلك المهمّات فهي التي تحبّ الاستيقاظَ مبكرا، وتحبّ متابعةَ المستأجرين للبيوتِ التي يمتلكونَها، وهي من تحبّ إعدادَ الفطور يومياً في الصّباح وأنه إن طلبَ طبخةً ما فيطلبُها لكلّ أهلِ البيْت. استمرّت بمجادلته فشدّها من جدائلها السود الأنيقة ورَماها جاثيةً على ركْبتيها. قامتهُ الطويلة أكثر من مترين، وأكتافه العريضة، وعيونه الزرقاء التي تقفز من بين حاجبيه الشائبين الكثين، ووجنتاه الحمراوان شكلوا مشهداً مخيفا، تراجعتُ إلى الوراءِ خطْوة، فأومأتْ جدتي لي بيدِها أن أبتعدً أكْثر، ابتعدتُ حتى التصقتُ بجدارِ الغرفةِ الأزْرق، التفّ جدّي حولَها فأخفى جلبابُه الأسودُ الطويل جزءاً كبيراً من المشهد، إلّا أنني كنتُ أسْمع صوتَها جيّدا، لم تستغِث مُطلقا، ربما كانت تعلمُ أنْ لا أحد سوف يغيثُها فهو يُمارس حقّه بتأْديبها، كانت تبْكي وتتأوه، ومن ثمّ تشتمه وتدْعو على يديه بالكسرِ ليزدادَ غضبُه وضربُه لها أكْثر.
أمّي تسردُ فوقَ رأْسي حسَناتِ نعمةِ الأمومَة والأنوثة والدّورة. لا أذْكر أنني تحاورْت مع أمّي حول ضرب جدّي لجدتي، فشكوى جدّتي لبناتها ولومِهن لها لدعائها على يده بالكسر كانت كافية لأدرِك اللّاجدْوى.
أمرٌ غريبٌ لمْ أكن قادرة على فهْمه؛ لماذا تزوجتْ جدتي جدّي؟ لماذا تزوّجت خالتي زوجَها؟ لماذا تزوّجت ابنةُ خالتي طليقَها؟ لماذا؟ لماذا تتزوّج المرأةُ رجلاً ثمّ يضْربها؟ لماذا تنجبُ المرأة من رجلٍ يضْربها؟ لماذا يشاهدُ الطفلُ أمّه تُضرب ولا يحرّك ساكنا؟ لماذا يستمرّ الطفلُ بحبّ والده على الرّغم منْ أنه يضْرب أمّه؟
الشّابّ الوسيمُ الذي تقدّم لخطبتي يوما، حدثتُه عن إشكاليّة جسدِ المرأة ووقوعِها داخلَ إحداثيّات شرْطها البيولوجي، وأنني لو خُيّرتُ قبلَ ولادتي، لَما اخترتُ أن أكونَ امرأةً، بل رجلاً يحمي النِّساء. كل ما تبقى في ذاكرتي عنْ ردّه الغاضب قبل أن يغادر، هوَ صَدى أسْئلته المتَتابِعة “وهلْ تسْأل السيّارةُ نفسَها عن سببِ كوْنها سيّارة؟ هل تتمرّد على كوْنها تنقلُ الرّكاب؟ هل تتمرّد الأبْنيةُ على كوْنها أبنية يسْكنها البشر؟”.