النجم بوصفه سلطانا والنديم بوصفه أسمالاً
هل يمكن لمصطلح “أزلام السلطان” أن يعادل موضوعياً وجدلياً مصطلح “حريم السلطان” من حيث المعنى والدلالة والقيمة والمفهوم؟ وحين يذهب مصطلح “حريم السلطان” نحو الجانب الخدميّ الترفيهيّ الذي يقدّم للسلطان ما يريد وما يرغب وما يهوى، فإنّ مصطلح “أزلام السلطان” على هذا النحو لا يبتعد كثيراً في سياقات أخرى مشابِهة عن سياقات المصطلح النظير، ولا يقتصر مصطلح “السلطان” على أفراد الطبقة الحاكمة التي تسيطر على زمام الأمور في بلد من البلدان التعيسة التي ابتليت بالدكتاتوريين، وتفرض على المحيط أحوالها وحاجاتها ورغباتها ولذائذها، بل تنفتح على كلّ أشكال النجوميّة حين يتحوّل النجم فيها إلى “سلطان” من نوع آخر يتمتّع بفضاء سلطنة النجوميّة والشهرة، سواء أكانت هذه النجوميّة “فنيّة” أو “رياضيّة” وهي الأغلب، أو “أدبيّة” وهي الأندر، أو أنواع أخرى من النجوميّة.
تتساوى الحالة لدى الجميع حين يفرض “السلطان/النجم” قوانينه على المحيط ويسعى إلى استثماره واحتلاله وفرض أجندته عليه، وثمّة من يتكالبون كالجراثيم على الصحون الدسمة ويقدّمون فروض الطاعة والولاء ويسبّحون بحمد سلطانه ويتغنّون بشخصه الاستثنائيّ، وعلى الرغم من أنّ السلطان قد يدرك عدم إخلاص هؤلاء وأنّهم قنّاصو فرص لكنّه يقبلهم لاستكمال “برستيجه” والاستجابه لرغباته، في حين تقتنص هذه الثلّة ما يتاح لها من فرص للكسب واغتنام المناسبات المفيدة وسرقة ما يمكن سرقته من أشياء السلطان الشخصيّة، لتسويقها فيما بعد بوصفها كنوزاً ثمينة لا تقدّر بثمن، بما يجعل المصالح الدفينة “غير السليمة” المتبادَلَة بين الطرفين تمثّل قانون هذه العلاقة الشائكة “غير النظيفة” في طبقة مركزيّة من طبقاتها.
تمتلئ السفوح الوعرة بالمغريات التي تشجع البعض على التسلّق حين يجد أنّ النقص الذي يعيشه قد يحتمي في حومة هذه الوعورة، ولا شكّ في أنّ السفوح الوعرة للمشاهير والنجوم هي أكثر السفوح المعروفة في الحياة والطبيعة والبشر اشتباكاً وغموضاً وخطورةً، ولاسيما حين تكون هدفاً لمن يدركون أنّ ضعف تجاربهم لا يمكنها من تقوية سمعتها إلا بالتوغّل في متاهة هذه السفوح – حقيقةً أم ادّعاءً -، ومحاولة التشبّث بها للفت نظر الآخرين، على أنّ ضعيف التجربة هذا يتوسّل بسمعة النجم المشهور لملء ما لديه من فراغات، والنجم بدوره يستثمر هذا التشبّث لسدّ الشواغر في دائرة حاشيته المحدودة المِلاك عادةً.
ادعاء الحقيقة
ثمّة ما يمكن أن نسمّيَه “ادّعاء الحقيقة” أو “الحقيقة المُدّعاة”، كأنْ يقوم أحدهم بنشر وقائع يضع نفسه مع النجم صاحب السفح الوعر في مقام مشترك يوهِم بالمساواة والمضاهاة والمحايثة، على أساس الصحبة أو المشاركة أو التفاعل بصرف النظر عن قيمة ذلك ودرجة أهميّته لشخصيّة النجم، فالنجم – أيّاً كان – هو بحاجة دائمة لأنماطٍ من متسلّقي السفوح المستعدّين لأنواع الخدمات كافة، كي يقوموا بخدمته وتوفير ما يحتاجه من أُنسٍ وفرفشةٍ في رحلاته وزياراته ونشاطاته وصولاته، وقد يستأنس لهم أحياناً ويهديهم بعضاً من مديحه في لحظات مزاجه الرائق بلا حساب ولا تدقيق أصيل ومسؤول، وقد يصدّق هؤلاء ذلك لأنّهم بأمسّ الحاجة لحشد ما أمكن من نثار مديح النجم لوضع نتفةِ عطاءٍ في سلالهم الفارغة، ووضعها في خزائنهم الخاوية ليومٍ قد تتحوّل فيه إلى ثروة بوسعهم استثمارها والكسب منها.
وحين يغادر النجم الدنيا وتختفي رحلاته وسفراته وفنادقه ومسامراته وحاجاته إلى الأبد، يزيح مدّ البحر “هؤلاء” بدبقهم المزعج على شاطئ فارغ أجرد، وحين يتلمّسون أنفسهم لا يجدون سوى حفنة ذكريات تركها لهم النجم ناشفة بلا ماء، فيجتهدون ما وسعهم ذلك في نفخها علّها تدرّ قطرات ماء من هنا وهناك، كي يؤسطروا كلّ قطرة منها لتصبح نهراً ضيّقاً يعتزمون عبوره بقوارب مثقوبة، في غفلة من الحقيقة التي يستحيل إثباتها في ظلّ غياب النجم، إذ لم يعد من سفوحه التي كانت ملأى بكلّ ما تعرفه الطبيعة من أطايب وجمالات وخضرة وينابيع وسحر سوى قصائد وعرة يصعب تسلّقها، وإذ لا مناص لـ”هولاء” من تسلّقها فإنّ عوراتهم سرعان ما تنكشف للرائين أسفل الجبل.
كان النجم يستخدم “هؤلاء” لأجل استكمالِ لذائذهِ وشهواتهِ ومُتَعِهِ بأشكالها المتنوّعة بحسب المزاج، فلا بدّ من نديمٍ يتمتّع بخصائص الندامة يخضع خضوعاً تماماً للحظات النجم ويذعن إذعاناً مطلقاً لشطحاته وثمالاته، وهو قد أتمّ حفظ ما يحتاجه النجم وما يروق له في كلّ لحظة وآنٍ، ليقدّم خدماته على النحو المطلوب والمشهود له بالإتقان والكفاءة والدقّة، وليقترب خطوة أخرى نحو موطن أسرار النجم ويعرف ما لا يعرف غيره ويحتفظ به كجوهرة تسدّد فاتورة نقصه المُبين فيما بعد، وهو ما يسمح له أن يزعم صداقته للنجم أو قربه منه أو أنّه مركز ثقته الذي لا يدانيه فيه أحد غيره، ومن ثمّ يشرع بتدوين ذكرياته أو أسراره مع صديقه المقرّب يروي فيها كِسَراً من يوميات أو ذكريات أو غيرها، ويسرّب من بين سطورها أخباراً أو ادّعاءات أو محكيّات يحاول فيها أن يرمّم شيئاً من فراغات ذاته، لكنّها تظلّ لأغلب القرّاء صعوداً خائباً على سفوح وعرة لا يمكنها أن تثمر شيئاً أخضر كما يرسم أو يحاول إيهام مجتمع القراءة.
أسمال الظلال
يبقى النجم في الحسابات المعروفة كلّها واحداً في ساحة النجوميّة التي يشتغل فيها، ويتكالب “الآخرون” على أسمال الظلال التي تتناثر منه بحسب قوّة أشعة الشمس وزاوية تأثيرها، غير أنّ الظلال سرعان ما تختفي فينتهي “هؤلاء” وهم يحطبون الليل، وأقدامهم قد تورّمت من وعورة السهول التي لم يعد ينمو فيها سوى الحصى الناتئ والتي تخدش الأقدام وتشوه الأصابع، ولا عزاء بعد ذلك للحفاة وهم لا يتورّعون في ذرع شوارع الحلم بغير سلاحِ كافٍ يضمن سلامة أقدامهم بعد انتهاء الحفل، لكنّهم قبلوا بكلّ ما يعكسه هذا السلوك المشين من انحطاط في شخصيّاتهم حتّى يتبختروا بأكذوبة ثمنها قاسٍ على تاريخهم، إذ استعذبوا المهانة وأذعنوا لمصير قد يمنحهم لذّة مؤقّتة زائفة غير أنّهم بلا مستقبل محترم.
وإذا كانت مقولة “حريم السلطان” تعبّر عن ثقافة استحواذيّة يهيمن فيها السلطان “مع تعدّد وتنوّع صور هذا السلطان، ومنها السلطان الأدبيّ والثقافيّ، على قبيلة من النساء لا همّ لهنّ سوى إرضاء نوازع السلطان ورغباته ودكتاتوريّته وفحولته، فإنّ مقولة “أزلامُ السلطان” حاضرة في بعض مرافق ثقافتنا حيث ينتشر على سفوح هذا السلطان الوعرة منافقون، يبتكرون أصنافاً هجينةً من النفاق لتغذية روح النجوميّة في ذات السلطان/النجم وإرضاء نزواته العابرات، يلعبون دور الدمى العمياء التي تجتهد بكلّ ما أوتيت من حيلة كي يرضى عنها ويبقيها في حاضرته، وهم يخرجون على الملأ ويقدّمون أنفسهم بوصفهم أصدقاء السلطان/النجم، وعلى درجة مناسبة من الكفاءة والتوازن مع شخصيّته، ويدركون كم هم مجرد تَبَع وحاشية وظلال وفضلات لا قيمة حقيقية لهم خارج ما يجتهدون في ابتكاره من خدمات للسيد.
لا يزول الغطاء الحديديّ الضاغط على هاماتهم إلا حين يموت سلطانهم فتظهر حجوم رؤوسهم وألوان شعورهم وعيوبها، وتطفو مضمراتهم على السطح وتبدأ بالتنطّع والادّعاء والخوض في التفاصيل التي لا يعرفها أحد عن النجم الغائب سواهم، وكأنّها أسرار خاصّة أودعهم إياها تعبيراً عن تلك الصداقة التي سيجتهدون في تكبيرها وتوسيعها كما يشتهون، في مزايدات تافهة لا تغنيهم من جوع ولا تنفي نقصهم ولا تملأ فراغهم بشيء، غير أنّهم يستغلّون المناسبة لترويج بضاعتهم من اللحم الميّت وتسويقها بما يشبه السرقة أو الكسب غير المشروع بصفاقة وقلّة ذوق.
يذكر أحدهم مجموعة شذرات ولمحات والتقاطات من سيرة النجم أو جملاً يقولها – جدّاً أو هزلاً – على أنّها لُقى ثمينة لا نظير لها، ثمّ ما يلبث أن يسرّب من تحت الغطاء جملة أو اثنتين مسوّقاً نفسه بدلالة النجم تساوياً أو توازياً أو تناظراً معه على نحوٍ ما، وهي لعبة مكشوفة قليلة الحيلة لا تنطلي على أحد، لأنّ الشمس لا تغطّى بغربال والنملة مهما تمّ نفخها لن تصبح فيلاً، وسرعان ما تهدأ مثل هذه الفرقعات ويهنأ النجم في قبره البعيد ولا يبقى لهؤلاء إلا أوهام الزبد.