النص الزائر
• فرانسواز جيرو (Françoise Giroud)
بات “جون بول” يعاني الأرق منذ تخلّت عنه حبيبته “ماريات”. ارتاد قاعات السينما، تسكّع مع أصدقائه، تدبر أمره ليخرج للسهر كلّ ليلة، لكن، ينتهي به الحال دائما وحيدا في منزله متدثّرا بالغطاء الورديّ الذي ما زال يعبق بعطر خليلته، يتقلّب على فراشه عاجزا عن مصالحة النوم المصرّ على الجفاء.
جرّب كلّ شيء لحلّ المعضلة، تحمّل حمّاما باردا، استرخى في حوض الماء الساخن، ابتلع الحبّات المنوّمة غير أنّها تجعله في حالة سيّئة صباحا ويبقى ذاهلا، وهو أمر غير محمود لمهندس إعلاميّة مثله، وغير منصوح به لأيّ شخص، والأسوأ أنّ الأقراص الأشدّ فعاليّة تتلف الذاكرة، وهو ما أكّده الكاتب الأميركي “وليام ستيرون” مقرّا أنّ إدمانه عليها صيّره مجنونا.
ضاعت جهوده هباء كي يغفو!
قادته أعصابه المتيقّظة، في تلك الليلة، إلى تشغيل الراديو الموضوع إلى جانب سريره، فبلغه صوت نسائي شدّ انتباهه بجدّيته.. صوت مخمليّ يداعب الأحاسيس وهو يحاور المستمعين والمستمعات. أرواح وحيدة تبثّ شكواها، ذاقت أغلبها صنوفا من شرور الحبّ والصوت يجيبها بلين. أصغى برهة وحصلت المعجزة.. لقد غفا!
في الغد، هام في المحطّات الإذاعيّة باحثا عن الصوت، اعترضته جميع أنواع الموسيقى الإيطالية والإنجليزية والألمانية، لكن، لم ينل مراده، وهو يجهل القناة التي يعثر في تردّدها على ضالّته، وأمضى ليلته المجرّدة من النوم ساخطا.
حين هلّ الصباح وذهب إلى عمله، سارع بتكليف سكرتيرته المدهوشة من طلبه بشراء الصحف التي تستعرض البرامج الإذاعيّة لكلّ قناة على مدار الأسبوع، غائصا في تصفّحها مساء دون جدوى.
في الساعة الثانية بعد منتصف الليل، بحث بدقّة في الموجات القصيرة والمتوسّطة والطويلة وانتهى إلى بلوغ ما ينشده، وأنصت إلى ذاك الصوت السماويّ.
بين ردّين، يتمّ التذكير برقم الهاتف الذي يجب الاتّصال به للتفاعل بين الساعة الواحدة والثالثة صباحا، دوّنه في الحال وشعر بالراحة غير أنّ بحثه المحموم الذي سبق ذلك وتّره، فاضطرّ إلى تناول حبّة مهدّئة لينال نصيبا من الراحة.
في الليالي الموالية، استمتع بلذّة الإصغاء لينام بسهولة أكبر، فالصوت يريحه ويهدهده. يا لرقّة هذه المرأة! يا لحنوّها وشدّها العطوف على الأكفّ الممدودة نحوها! يا لسعة معرفتها بخبايا القلب البشريّ وبالحب وشراسته! ترى من تكون؟ مختصّة في التحليل النفسيّ؟ ممثّلة كوميدية بنبرة صوت ذهبيّة؟ امرأة عركت الحياة؟.. في جميع حالاتها، لا ريب أنّها أحبّت كثيرا!
ليست فتاة حمقاء مثل عشيقته “ماريات” التي اكتشف أنّ تفكيره فيها بدأ بالانحسار.. هي جميلة، بل فائقة الحسن بثدييها الصغيرين، لكنّها، سيئة وشرّيرة وجاحدة بعد أن بالغ في تدليلها.
غسل اللحاف ليتوقّف عطرها عن ملاحقة ذاكرته، ومزّق صورها عملا بنصيحة الصوت الإذاعي، حين اتّصل به، فأجابه مؤكّدا “اخْلِ طاولة الماضي وهيّء نفسك للقاء جديد!”.
أمسى اتّصاله يوميّا مع خشية أن يتمّ تأنيبه، لكنه، تجرّأ مرّة وأخبرها عن رغبته في التعرّف عليها، فضحكت – آه! يا لهذه الضحكة اللؤلئيّة! – وأجابت أن الضرورة تحتّم ألّا يعرفها أحد فهي أحجية ولا يجب محاولة كشفها ومن يتجاسر سيُعاقب.
تصوّر ملمحها مستندا على صوتها وتخيّلها شبيهة الفنّانة الفرنسيّة “جيان مورو” في شبابها، لم تؤيّد وجهة نظره ولم تنفها. مع مرور الأيّام، أصبح مهووسا بصوتها.. لكن، كيف ينجح في إغوائها؟
تمكّن من الحصول على عنوان القناة التي تشتغل فيها، وأرسل إليها إحدى عشرة وردة حمراء مرفقة برسالة حمّل سطورها مشاعره المتّقدة، وهدّد بغزو قاعة البثّ إذا أمعنت في رفض عرضه المتمثّل في موعد بسيط.. موعد واحد لا غير!
اعتادت المذيعة على مواقف شبيهة بيد أنّ أمرا شدّها إلى هذا الرجل بالذات.. هشاشة ما.. لذلك قرّرت حسم الحكاية بجعلها تتّخذ وجهة معيّنة. ضبطت موعد اللقاء في مقهى صغير، وأوصته بالإمساك بجريدة “Libération” كي تتمكّن من الاهتداء إليه.
في اليوم المحدّد، انتظرها وقد تملّكه الاضطراب حاملا صحيفته حارصا أن يبقي عنوانها جليّا، متفحصا النساء اللاتي يدخلن المقهى.
اقتربت منه إحداهنّ وحدّقت فيه مليّا قائلة:
-“طاب يومك.. هل تأخّرت عليك؟”.
حملق فيها، شعر أنّ مسامه تنزّ عرقا باردا.. إنّها صاحبة ذاك الصوت.. إنّها حدباء!