النظام الاجتماعي في القصيدة
وفي هذا السياق، تبرز أهمية تأصيل القضية الشِّعرية، وَوَضْع الأسسِ المعرفية للنظام الاجتماعي في القصيدة، وترسيخ جُذور عِلْم اجتماع القصيدة، وإظهار العلاقات المتشابكة في المأزق الاجتماعي للثقافة، وإبراز معالم فلسفة الشِّعر. وكلُّ هذه المحاولات الحثيثة هي شرارة معرفية، أو عملية رمي حَجَر في الماء الراكد.
ولا يخفَى أن الإيمان بالقضايا الكبرى هو المنطلق الحقيقي لأنسنةِ السلوك الاجتماعي، وتوضيحِ القيم العاطفية الثورية. وقد آن الأوان لإرجاع الأدب إلى إنسانية المجتمع المتحرك في ماديةٍ عمياء شرسة. ويمكن القول إِن الأدبَ هو القوةُ الفاعلة في حياة الفرد، والمحرِّكُ الحقيقي للجماعة. فهو المعبِّر عن الطموحات الكبرى، والآمالِ العريضة، والتاريخِ الحضاري. وإِنَّ إقصاءه من الحياة العامة من شأنه توسيع الفَجْوة بين الإنسان وإنسانيته، وقتل الهوية الجماعية للحضارة البشرية، وتحويل الإنسان إلى وحش.
ومن خلال هذا المنظور الكُلِّي، يَبْرز النظامُ الاجتماعي في القصيدة كحالة معرفية شاملة، وتَبْرز -كذلك- القوةُ الضاربة لهذا النظام، ألا وهي «عِلْم اجتماع القصيدة». فالنظامُ الاجتماعي في القصيدة بمثابة حاسة البصر، وعِلْم اجتماع القصيدة بمثابة عملية النَّظر. وبالتالي، فهما كيان واحد متكامل لا مكان فيه للانفصال أو التعارض. و»عِلْم اجتماع القصيدة» هو العِلْم الذي يَدْرس القصيدةَ على أنها مجتمعٌ متحركٌ ذهنياً وواقعياً، ويقومُ بتشريحه إلى أنويته الأساسية انطلاقاً من فكرة الانبعاث المتجدِّد، ويُحدِّد قيمَ الاندماجِ والتمايزِ والحقيقةِ والمجازِ في بؤرة الْحُلْم الشِّعري.
و»عِلْمُ اجتماع القصيدة» إذا لم تُرافقه نزعةٌ إنسانية تضع يدَها على أحاسيس الكائنات الحية، فَسَوْف يغدو عِلْماً فلسفياً غارقاً في التنظير والتجريد والعُقم والملل. والتعويلُ في هذا السياق إِنما هو على اللغة الشِّعرية، والرِّهانُ الحقيقي يَكون على فلسفة اللغة. فاللغةُ تؤسس عِلْمَ اقتصاد خاصاً بها، حيث يتمُّ وَضْعُ الألفاظ في ذاكرة المعاني، وَوَضْعُ المعاني في فضاء الألفاظ، وَوَضْعُ الألفاظِ والمعاني في أقصى مدى ممكن. ويمكن القول إِن اللغةَ هي اقتصادُ الوعي، واختزالُ الذِّهن. وهذان المفهومان يَضَعَان الذاكرةَ الإنسانية في أقصى مداها الشِّعري.
وكلُّ الفلسفات الذهنية التثويرية كامنةٌ في اللغة، فاللغةُ هي العوالِمُ الملموسة، والعوالِمُ المتخيَّلة في آنٍ معاً. ونحن -عِندما نتعامل مع رمزية اللغة- لا نَهْرب من واقعية الأنساق الواقعية، ولا نَخترع لحظاتِ صِدام بين اللفظ والمعنى، وإِنما نَقْذف ذواتنا في فوهة الكلمة من أجل تشكيل المشاعرِ الإنسانية والعناصرِ الطبيعية على صورة ثورات معرفية مستمرة. وهذا التثويرُ المتواصل يَحْقِنُ القصيدةَ بالحراكِ الاجتماعي وانفجاراتِ الأبجدية. ومهما يكن من أمر فالكتابةُ الشِّعرية ستظل واقعيةَ الوجود البشري الذي يتحرك باتجاه حُلْمٍ لا تأكله إحباطاتُ السياسة، وانهياراتُ العناصر الاجتماعية، ومَوْروثُ الوهمِ، وميراثُ القمع. وسَوْفَ تظل اللغةُ نداءَ غريزةِ البقاء في تضاريس الْحُلْم الاجتماعي الكُلِّي. وفي ظل هذا الزخم الفكري، سيصبح جسدُ القصيدةِ تجسيداً للمعرفة الإنسانية، وصورةً حيَّة للمعنى المتمركز في مدارات الوجود الحالم. وهذا يَمنع نشوءَ عداوة بين الشاعر ولُغته.
تخطيط: حسين جمعان
والقصيدةُ هي الثورة الذهنية الواقعية الأكثر قدرة على استشراف الواقع المتخيَّل، ذلك الواقع المعجون بالطموح الإنساني الواعي. وحريٌّ بنا أن نَدْرس القصيدةَ بوصْفها كائناً حَيَّاً يَسْتشرف أحلامَ المستقبَل، ويُحوِّلها إلى مسارٍ فكري وطريقةٍ معرفية لفهم تحولات الذات الإنسانية، والغَوْصِ في أعماقها الشِّعرية. والقصيدةُ كَيْنونةُ شُعورية قائمة بذاتها، تَجْمع قِيَمَ الموتِ والحياةِ، ولَيست مَعنيةً بتأريخ الوقائع الاجتماعية. فهذه مهمةُ المؤرِّخ لا الشاعر. فالشاعرُ يَسعى -بكل ما أُوتِيَ من مهارة وثقافة- إلى إعادةِ تشكيل الواقع وَفق منظور سِحري، وصناعةِ القصيدة (السَّبيكة الوجودية المتميِّزة) باعتبارها ظاهرةً شُمولية تعتمد على صياغة الأبعاد المعرفية في قوالب كاسرة للقَوْلبة والتقليدية. وهكذا، يُوضَع النَّصُّ الشِّعري في أقصى مداه الإنساني، فيُصبح من الصعب اجتثاثُ الطموحِ الفردي أو اقتلاعُ الْحُلْمِ الجماعي. ولا بُدَّ من كسر الحواجز التي تُوضَع بين الشاعر وجنينه الشِّعري، وبين الشاعر والمتلقّي، وبين الجنين الشِّعري والمتلقي. وهذا لا يتأتى إلا بالعمل الجاد من أجل صناعة منظور فكري يَسْتلهم الأبعادَ الرمزية للحضارةِ واللغةِ. والقصيدةُ هي ثورةُ المجتمع المثالي العابرة لحدود الزمكان (الزمان-المكان). وحِين يتمُّ بناءُ الفلسفة الشِّعرية على رمزية اللغة، فإِن النَّص سَوْف يُسيطر على مفاصل المجتمع شُعورياً وواقعياً. وهذا ليس غريباً، فالشِّعرُ كيمياء خاصة. والفلسفةُ الشِّعرية قائمة على اللغة، واللغةُ هي المرجعية الفلسفية للشِّعر.
إِن القصيدةَ تَحْفظ شبابَ اللغة، وتؤسس مجتمعاً كلماتياً خاصاً بها. وهذا المجتمعُ يُمثِّل فِعلاً اجتماعياً يُزاوج بين الرمزِ اللغوي والتاريخِ الحضاري للإنسان. والقصيدةُ تَموت في ولادة الشاعر، وتُولَد مِن مَوْتها كي تحيا حاملةً معها حياةَ العناصر. كما أن الكتابةَ الشِّعريةَ مَوْتٌ مُتتابِع لكي يُولَد المعنى. أمَّا العاطفةُ الشِّعرية فهي حفلة زواج بين الزمان والمكان. وفي ظل هذه المعطيات، تَظْهر حقائق أساسية تتعلق بمسار القصيدة ومصيرها، من أبرزها: القصيدةُ هي الوعاء الإنساني الأكثر قدرةً على تجسيد بَراعةِ اللغة ولمعانِها الصاعق. والقصيدةُ هي انتقام الضحية من الجلاد، وهي تعويضٌ معنوي للمظلومين في عالَم ظالم. والقصيدةُ وطنُ مَن لا وطن له. وكما هو معلوم، لا تُوجَد معركة من أجل المعركة، وكذلك، لا توجد قصيدة من أجل القصيدة.