النّاقد والشاعر وبلاغة النقد
تنهض هذه الورقة بغية أن تقدّم رجع نظر في كتاب (الرؤى المكبّلة: دراسات نقديّة في الشعر) للناقد الأردنيّ ناصر شبانه، (دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، 2009) ولعله لا ندحة من القول: إنّه ليس هيّنًا وضع الكلام على الكلام فالكلام شائك، لأنه يداخل في بعضه كما يقول أبو حيّانَ التّوحيديّ، غير أنه يغدو أكثر تعقيدًا حين يتصل الأمر بالناقد الشاعر، أو الناقد حين يكون شاعرًا، إذ يبعث ذلك إشكالات كثيرة ليس هذا موضع الإطناب فيها، وتقصّد هذه المراجعة مقاربة كتاب شبانه “الرؤى المكبّلة” خاصة؛ لأنه ينطوي على تجربة نقدية خاصة، بلور خلالها شبانه رؤاه وتصوراته حول عملية النقد، بوصفه ممارسة نقديّة، إذ إنه يسعى سعيا حثيثًا إلى المساهمة في خلخلة مفاهيم الممارسات النقدية العربية القارة، والرازحة منذ سنين طوال خاليات تحت وطأة سلطة المؤلف.
المتن النقدي والمنهجيّة الناظمة: على سبيل التوصيف
تمثل جدليّة الجمالي والموضوعيّ معضلة منهجية عند عامة المنشغلين بالنقد في مُجتليات النّقد العربيّ والغربي الحديث سواءً بسواء، فقد تفرّقوا شِيَعًا في دراسة النّصّوص وفقًا لآليّات متباينة، أمّا الفريق الأوّل فقد ذهب إلى أنّ النقد الأدبي كما تأسس في مراجعه الأصليّة نقدٌ يُعنى بدراسة جماليات النصوص، ومكامن الإبداع بين تلافيفها.
وأما الاتجاهُ الآخرُ فقد نحا منحىً مختلفًا رأى أن على الأدب أن ينخرط في أداء وظيفة تنويريّة، ذلك أن القراءة النقدية عندهم يجب أن تخرج من «تيه النّصيّة» الذي طغى كما عبّر عن ذلك إدوارد سعيد، حين مركزتْ معظم القراءات النقدية خطابها النّقديّ حول النّصّ، وشيّعت مؤلِّفه إلى مثواه الأخير، فكان أن أعلنت موت المؤلف.
ومن اللافت للنظر أن شبانه يقف في هذا النزاع في منزلة بين المنزلتين، فلا هو آخذٌ بموت المؤلف أخذًا تامًا، ولا هو سائرٌ في ركاب الناظرين إلى المعنى دون المبنى، على أنه كما يتبدى في كتابه هذا، يدعو إلى إعادة سلطة القارئ، والثورة على سلطة المؤلّف، فالنص ملكٌ للقارئ، ولعل استعادة سلطة القراءة، جاءت بدعوة من الشاعر العربي الحديث، الذي سلك طرائق جديدة في صياغة القصيدة “وبهذا فقد بات القارئ قادرًا على التعامل مع النص برؤية منفتحة، أكثر رحابة وتحرّرًا، في حين تراجع دور الشاعر وتقلصت سلطاته في النّصّ” (شبانه، ناصر، الرؤى المكبّلة: دراسات نقديّة في الشعر، ص18).
ولعله هذا يتصل بأن شبانه ظلّ على امتداد صفحات هذا الكتاب على وعي بالخط الفاصل بين الشاعر وظله، أو بين الشاعر في قصيدته والشاعر خارج قصيدته، ذلك أن الشاعر لا يكون شاعرًا سوى حين يلوح بدر الإلهام، وتتنزل القصيدة على روح الشاعر وقلبه.
أصل هذا الكتاب أبحاث نشرها الباحث منجّمة في مجلات علميّة محكّمة، وبُعيد ذلك صدرت عن دار فضاءات ببيروت عام 2009م في 266 صفحةً تتوزع على ثلاثة فصول مشفوعة بمقدمة، وجاء الكتاب على هذا النحو:
الفصل الأول (11 – 56): في علاقة القارئ بالنص الشعريّ، ويضم: القارئ في مواجهة النص الشعري من قيود التبعيّة إلى آفاق السّيادة، وتحوّلات القراءة في الشعر الأردنيّ من دلال القراءة إلى ضلالها.
الفصل الثاني(57 – 188): نظرات نقدية في تجارب شعريّة، ويضم: مفاتيح البنية في ديوان “لماذا تركت الحصان وحيدا” لمحمود درويش، والرؤى المكبلة في “المسافر” لعبدالمنعم الرفاعي، والمقدس والمدنس في خزانة الأسف لزياد العناني.
الفصل الثالث(189 – 265) ويضم: واقع الشعر الجديد في البلاد العربية: سمات وملامح، والتناص القرآني في الشعر العماني الحديث.
وفي هذا السياق يحاول شبانه في الفصل الأوّل أن يعيد تشكيل فعل القراءة النقدية، بما هي عليه، أي بوصفها ملكًا خاصًا وخالصًا للقارئ، الذي شيّع المؤلفَ إلى مثواه الأخير، بيد أن شبانه يحترس من مغبات ترك الأمور على هوانها للقارئ، فهو وإن كان قد استعاد سلطة القراءة، فإنه لا يمكن أن يتصدى لقراءة النص دون رقابة، فيتقول على النص، وينسب إليه مما ليس فيه، وهنا يشير شبانه إلى أن المهمة المنوطة بالقارئ يجب أن تدور في فلك القبض على رؤى النص، وبناه، ورصد تحولاتها.
وفي الفصل الثاني يتوخّى شبانه النظر إلى النص الشعري في النصوص المنتخبة من لدنه نظرة تنحاز، والحال هذه، إلى بنى النّصّ، وتحاورها، وتضع يدها على مفاتيح البنية الشعريّة في القصيدة الحديثة، وهذه المفاتيح في مجموعة لماذا تركت الحصان وحيدًا: مفتاح البنية التكراريّة، ويضم: توظيف اللازمة المؤثرة، وتكرار البنى الصرفية، وتقنية الفتح والإغلاق، ومفتاح اللزميات، ومفتاح البنية الإيقاعية.
وفي ديوان “المسافر” لعبدالمنعم الرفاعي يتقصى الناقد تمثيلات الرؤى المكبلة في هذه القصيدة، ذاهبًا إلى أن القراءة التقليدية لم تُنِل شعرية القصيدة عن حظها من المدارسة والقراءة، ولذا فقد قارب الناقد في هذه الدراسة التقسيم، والتكرار، المناسبة، واللغة، وحقول الدلالة، والصورة الفنية… إلخ.
وتغدو قراءة الناقد لجدليات المقدس والمدنس في “خزانة الأسف” لزياد العناني تجلّيًا ظاهرًا لرؤية شبانه حول حقيقة الشاعر، والبون الفارق بين الشاعر في القصيدة والشاعر خارجها، فالشاعر عندما يكتب قصيدته فإنه يرتحل إلى منفى لا يعرف مكانه، ويعود منه إلى حياته الحقيقة عندما يختتم كتابةَ القصيدة، وتنزاح عن عينيه غمائم الوحي الشعري المقدّس.
وفي الفصل الثالث يرصد الناقد واقع الشعر الجديد في البلاد العربية: سمات وملامح، متوقًفا عند فضاءات الرؤية في هذا الشعر، انكسارا ولوذًا بالبديل، وفيه يطرح الناقد رأيه في كثير من الشعر بجراءة وصرامة واضحتين، قبل أن يقفل كتابه بدراسة تجلي التناص القرآني في الشعر العماني الحديث.
حين يكون الناقد شاعرًا: أنظار في بلاغة النقد
يعدُّ الشاعر والناقد الإنكليزيّ ت. س. إليوت (T. S. Eliot) نَقْدَ الشاعرِ الناقدِ النقدَ الحقيقيَّ؛ إذ أنّه ينتقد الشعر من أجل خلقه، ويحاول، على نحوٍ محدّد، أن يدافع عن الشعر الذي يكتبه، الذي ألقى الشاعر بنفسه في ناره، فخبره واكتوى به (ويليك، رينيه، مفاهيم نقدية، ترجمة: محمد عصفور، المجلس الوطني للثقافة، الكويت، 1987م، ص:340)، وعند ناصر شبانه تغدو لغة الشاعر طاغية على لغة الناقد، إذ يمثل الخطاب النقدي عند شبانه في كتابه “الرؤى المكبّلة” خطابًا نقديًا مائزًا ذلك أن شبانه يجنح خلاله إلى استثمار طاقات الشعر في بناء الخطاب النّقديّ، أي أن اللغة النقدية تغدو مشحونة بطاقات شعريّة، يمكن أن تحقق لكتاب ما يمكن أن يوسم بأنه «بلاغة النقد» (العشي، عبدالله، بلاغة النّقد: النّصّ النّقديّ خارج خطابه، مجلة أنساق، تصدر عن كلية العلوم والآداب، جامعة قطر، الدوحة، قطر)، إذ يبدو شبانه في هذا الكتاب متدثرًا بأسمال الشاعر، ذلك أن لغته تجافي سبل اللغة الوظيفيّة، وتترقى في مداريج البيان، بصورة يغدو خلالها الخطاب النقديّ نصًّا من الكتابة الشعريّة على الكتابة الشعريّة!
وتتحقّق شعرية النقد – إن جاز التعبير في مستويات محايثة – في الخطاب النقدي عند شبانه، من خلال شعرية العنوان أولًا، إذ يتزنر الخطاب العتبي عند شبانه في كتابه هذا بشعرية طافحة تحتاج من القارئ مزيدَ تأمّل وتحديقا في سبيل فكّ معمياتها، والقبض على إشارياتها، ومنها على سبيل التمثيل: “تحولات القارئ محاولة للعبور”، و”موت المؤلف والوريث الوحيد”، و”انتقال الصلاحيات والحمولة الزائدة”… إلى غير ذلك من هذه العنوانات المنزرة بسحر الشعر وسره، إذ تبدو هذه العناوين شِفريّة؛ بمعنى أنها تخلّق في نفس المتلقي/القارئ ضربًا من الدهشة والتسآل المعرفي.
ولعلّ في ذلك صورة من صور وعي شبانه بوظيفة العنوان، إذ لا محيص من القول: إنّ العتبات النّصيّة، بوصفها فواتحَ أولى، يمكن أن يُتَّكَأَ إليها في قراءته للنص النقديّ، فهي لا ريب تمثل، والحال هذه، صوىً تكشف للمتلقي المنهجية التي تنتظم الخطاب النقدي (قطّوس، بسّام، سيمياء العنوان، منشورات وزارة الثقافة، عمان، الأردن ط1، 2001م، ص57).
وتتبدى أمائر شعريّة النقد في لغة شبانه النقديّة، وإذا كانت اللغة النقديّة تنطوي من منظور بلاغة النقد على مستويات مختلفة، فإن لغة شبانه تجيء في مستويات ثلاثة (العشي، عبدالله، بلاغة النّقد: النّصّ النّقديّ خارج خطابه، (م.س)، ص 56 وما بعدها)، مستوى وظيفيّ، نقدي متداول، ومستوى بلاغي ويبدو هذا المستوى أنه تكاد تذوب فيه الحدود بين لغة الشعر السماوية اليانعة، ولغة النقد الترابية الجافة، ومستوى نقدي خاص، تتبدى أمائره في طريقة الكاتب في صوغ خطابه النقديّ، بيد أن المستوى البلاغيّ في كتاب شبانه يغدو مرتكز اللغة، وأمثلة ذلك كثيرة: “شيع الشاعر إلى مثواه الأخير” (شبانه، ناصر، الرؤى المكبّلة: دراسات نقديّة في الشعر، (م. س)، ص21)، و”أشبه بالدستور الذي سيدير الناقد إمبراطورتيه من خلاله”( المرجع السابق، ص21)، و”نار الشعر” ( المرجع السابق، ص21)، و”أجمل القصائد تلك التي تأتي دونما موعد مسبق كما تأتي العاصفة على جناح غمامة” (المرجع السابق، ص21)، و”ويبدو النص وهو يقوده شيطانه” ( المرجع السابق، ص21)، و”إثم اللغة” (المرجع السابق، ص21)، و”المس الرفيق بالنص” (المرجع السابق، ص21).
ولعلّ مبعث العجب يتمثل في أن لغة شبانه تتناص مع القرآن الكريم والأسطورة اليونانية… إلخ، إذ يتناص النص النقدي عند شبانه مع القرآن الكريم في غير ما موضع، أضرب مثلا، بقوله “بل لأن عليه أن يطمئهنم إلى الكيفية الجديدة التي يتصرف من خلالها برفات النص من أجل إعادة تشكيلها بشرًا سويّا” (شبانه، ناصر، الرؤى المكبّلة: دراسات نقديّة في الشعر، (م.س)، ص28)، وهذه الجملة تتناص مع قوله تعالى “فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا” ( سورة مريم، الآية رقم17).
وتغدو لغة الأسطورة منسربة إلى لغة شبانه حين يقول “عندما فكّر القارئ بسرقة شيء من نار الآلهة…” (شبانه، ناصر، الرؤى المكبّلة: دراسات نقديّة في الشعر، (م.س)، ص 28) إذ تحيل هذه الجملة إلى أسطورة بروميثيوس(Prometheus) اليونانية حول خلق البشر، وعليه فإن لغة شبانه تنطوي على ما في المكنة بأن يتسمّى بـ”قراءة المُتعة” إذ تنجدلُ في أتونها لغة الشاعر بلغة الناقد، بصورة يغدو أمر الفصل بينهما أمرًا صعبًا، بل شائكًا.
تركيب
وبعد فلا مريةَ في أنّ الطرح المنهجي الذي يشكّل متن هذا الكتاب يتكشف عن سيماء ناقد مثقّف، مجدّد، يمتلك معجما نقديّا خاصًّا، فضلا عن أنه ينطوي على قراءة جديدة وجادة لنماذج من الشعر العربيّ الحديث، وهي قراءات جديرة بالمحاورة والاشتباك مع مقولاتها، وإرجاع النظر في متونها مرة بعد أخرى، خاصة أنها تمتلك خصوصية يكاد حضورها يستحيلَ في ظلال القراءات المتعددة التي انبرت لقراءة الشعر العربي وقد تشابكتْ مع حقولٍ معرفية أخرى في مسعاها الطويل إلى القصيدة الحديثة.
ولا ريب أنّ هذه الأقانيم النصية والمفاتح البنائية التي تسبر أغوارها قراءة النّاقد شبانه وفق منطق القراءة النصية، وبلاغة النقد، تحقق للقارئ – في كتابه هذا – معاني لذّة القراءة كما يقول رولان بارت؛ فقراءات الناقد تولّد معنى الجدة، ولا تركن إلى المكرور، وتحفّز على متابعة القراءة، وتستثمر بلاغة النقد استثمارا مائزًا، يعدّ السالكون في فجاجه من الأقلاء عددًا.