الهوية‭ ‬الطفولية والنزعة‭ ‬الارتكاسية

الأحد 2016/05/01
لوحة: عمار النحاس

في هذا‭ ‬المساق‭ ‬الذي‭ ‬نهتدي‭ ‬بمعالمه‭ ‬المستعارة،‭ ‬إيماناً‭ ‬منّا‭ ‬بأنّ‭ ‬الفكر‭ ‬هو‭ ‬الجسر‭ ‬أو‭ ‬الفضاء‭ ‬الذي‭ ‬نتدرّب‭ ‬فيه‭ ‬وعبره‭ ‬ومن‭ ‬خلاله‭ ‬للارتقاء‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬التفكر‭ ‬العقلي،‭ ‬بغية‭ ‬التطلع‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬نظام‭ ‬عقلي‭ ‬عربي‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬ذاته‭ ‬وتأثيث‭ ‬بيته‭ ‬وإنتاج‭ ‬مفرداته‭ ‬وتعبيد‭ ‬دربه‭ ‬المخصوص،‭ ‬ومنفتح‭ ‬في‭ ‬ذات‭ ‬التمشي‭ ‬على‭ ‬منجزات‭ ‬الآخر،‭ ‬لأنّه‭ ‬لم‭ ‬يستطع‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬يستنبت‭ ‬إشكاله‭ ‬التأويلي‭ ‬الخاص‭ ‬به،‭ ‬أو‭ ‬أن‭ ‬يطرح‭ ‬الأسئلة‭ ‬الجذرية‭ ‬المأمولة‭ ‬لتثوير‭ ‬الفكر‭ ‬العربي‭ ‬وإعادة‭ ‬بعثه‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وإدخاله‭ ‬إلى‭ ‬نادي‭ ‬الفلسفة‭ ‬الإنساني،‭ ‬كي‭ ‬يتمكّن‭ ‬من‭ ‬بناء‭ ‬إحداثيات‭ ‬لتفكيره‭ ‬بعيدا‭ ‬عن‭ ‬التعالي‭ ‬والاستبداد‭ ‬والشعور‭ ‬بالدونية‭ ‬أمام‭ ‬الآخر‭.‬

بهذا‭ ‬سنجتهد‭ ‬في‭ ‬مقاربة‭ ‬مسألة‭ ‬الهوية،‭ ‬وهي‭ ‬مسألة‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬عالية‭ ‬من‭ ‬الخطورة‭ ‬والثراء،‭ ‬بكلّ‭ ‬تعقيداتها‭ ‬وملابساتها،‭ ‬وتصالباتها‭ ‬مع‭ ‬ظروف‭ ‬تاريخية‭ ‬وشروط‭ ‬سياسية‭ ‬وعُقد‭ ‬دينية،‭ ‬إنّ‭ ‬الأمر‭ ‬هنا‭ ‬لا‭ ‬يدلّ‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬اقترابنا‭ ‬من‭ ‬حقل‭ ‬متعدد‭ ‬في‭ ‬معناه‭ ‬وسياقاته،‭ ‬وإنّما‭ ‬يرمز‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬إعادة‭ ‬تنشيط‭ ‬الحدث‭ ‬البابلي،‭ ‬وسحبه‭ ‬من‭ ‬غياهب‭ ‬الجب‭ ‬الذي‭ ‬رمي‭ ‬فيه‭ ‬إلى‭ ‬فضاء‭ ‬المعاصرة؛‭ ‬أي‭ ‬أنّ‭ ‬الهوية‭ ‬مشهد‭ ‬بابلي‭ ‬بامتياز‭.‬

إن‭ ‬العُسر‭ ‬هنا‭ ‬يزداد‭ ‬تعقيداً‭ ‬عندما‭ ‬تنزل‭ ‬علينا‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬ونحن‭ ‬نتحرك‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬معرفي‭ ‬يقرأ‭ ‬نصوص‭ ‬الآخر‭ ‬ويُسائل‭ ‬ذاته‭ ‬متكئاً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬استنتجه‭ ‬منها،‭ ‬عُسر‭ ‬يقابله‭ ‬بصورة‭ ‬دراماتيكية‭ ‬المآلات‭ ‬البابلية‭ ‬لمعنى‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬تاريخنا‭ ‬المعاصر،‭ ‬وقد‭ ‬نجد‭ ‬في‭ ‬عبارة‭ ‬الأديب‭ ‬اللبناني‭ ‬أمين‭ ‬معلوف‭ ‬نوعا‭ ‬من‭ ‬الأمل‭ ‬المستقبلي‭ ‬في‭ ‬إمكانية‭ ‬تخطّينا‭ ‬لهذا‭ ‬المشهد‭ ‬حيث‭ ‬يقول‭ ‬“حين‭ ‬يصل‭ ‬الكاتب‭ ‬عادة‭ ‬إلى‭ ‬الصفحة‭ ‬الأخيرة،‭ ‬تكون‭ ‬أغلى‭ ‬أمنية‭ ‬لديه‭ ‬أن‭ ‬يقرأ‭ ‬الناس‭ ‬كتابه‭ ‬بعد‭ ‬مئة‭ ‬أو‭ ‬مئتي‭ ‬عام. ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬التكهن‭ ‬بذلك،‭ ‬فهناك‭ ‬كتب‭ ‬أراد‭ ‬لها‭ ‬مؤلفوها‭ ‬الخلود‭ ‬ثم‭ ‬انطفأت‭ ‬غداة‭ ‬صدورها،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬أنّ‭ ‬كتاباً‭ ‬قد‭ ‬يبقى،‭ ‬وكنّا‭ ‬نخاله‭ ‬مجرد‭ ‬ترفيه‭ ‬لتلامذة‭ ‬المدارس. ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬الأمل‭ ‬لا‭ ‬يفارقنا‭. ‬أمّا‭ ‬هذا‭ ‬الكتاب‭ ‬الذي‭ ‬ليس‭ ‬ترفيها‭ ‬ولا‭ ‬عملاً‭ ‬أدبياً،‭ ‬فسوف‭ ‬أتمنى‭ ‬بشأنه‭ ‬عكس‭ ‬ذلك: ‬أن‭ ‬يكتشفه‭ ‬حفيدي‭ ‬يوما،‭ ‬وقد‭ ‬أصبح‭ ‬راشدا،‭ ‬بالصدفة‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬العائلة،‭ ‬فيتصفحه‭ ‬ويقرأ‭ ‬بعض‭ ‬صفحاته،‭ ‬ثم‭ ‬يعيده‭ ‬فوراً‭ ‬إلى‭ ‬الرف‭ ‬المليء‭ ‬بالغبار‭ ‬حيث‭ ‬تناوله،‭ ‬مستخفاً‭ ‬ومندهشاً‭ ‬للحاجة‭ ‬إلى‭ ‬قول‭ ‬هذه‭ ‬الأمور‭ ‬في‭ ‬الزمن‭ ‬الذي‭ ‬عاش‭ ‬فيه‭ ‬جده”‭(‬‭ ‬أمين‭ ‬معلوف،‭ ‬الهويات‭ ‬القاتلة،‭ ‬ص‭ ‬ص‭ ‬228‭ ‬،229‭)‬‭.‬

إنّ‭ ‬فهم‭ ‬هذه‭ ‬المسألة‭ ‬يقتضي‭ ‬منّا‭ ‬الاحتكام‭ ‬إلى‭ ‬منطق‭ ‬السرد‭ ‬التاريخي،‭ ‬مقتنعين‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬المنحى‭ ‬قد‭ ‬يسعفنا‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬دائرة‭ ‬فهمنا‭ ‬وإدراكنا‭ ‬لها،‭ ‬فالهوية‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬نشأتها‭ ‬ترتدّ‭ ‬إلى‭ ‬عديد‭ ‬من‭ ‬المفاعيل‭ ‬البنيوية،‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬رأساً‭ ‬بما‭ ‬نثره‭ ‬أفلاطون‭ ‬من‭ ‬بذور‭ ‬فكرية‭ ‬في‭ ‬سماء‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬الغربي،‭ ‬حيث‭ ‬قسّم‭ ‬الوجود‭ ‬إلى‭ ‬قسمين‭ ‬جاعلا‭ ‬من‭ ‬موضع‭ ‬المُثل‭ ‬الفضاء‭ ‬الأفضل‭ ‬لجميع‭ ‬الحقائق‭ ‬المطلقة‭ ‬والثابتة،‭ ‬ومن‭ ‬عالم‭ ‬الحسّ‭ ‬الفضاء‭ ‬السفلي‭ ‬الذي‭ ‬ترتع‭ ‬فيه‭ ‬كلّ‭ ‬النسخ‭ ‬التي‭ ‬ترغب‭ ‬في‭ ‬محاكاة‭ ‬مُثلها،‭ ‬فالهوية‭ ‬بحسبانها‭ ‬مثالاً‭ ‬أعلى‭ ‬تسكن‭ ‬الموضع‭ ‬العلوي‭ ‬من‭ ‬الوجود،‭ ‬فعنده‭ ‬تكون‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬مؤسسة‭ ‬على‭ ‬شرط‭ ‬مفصلي‭ ‬يُعبّر‭ ‬عنه‭ ‬بالصيغة‭ ‬التالية‭ ‬“أنا‭ ‬أدرك‭ ‬طبيعتي‭ ‬الحقيقية‭ ‬كروح‭ ‬فوق‭ ‬حسّية،‭ ‬عندما‭ ‬أنظر‭ ‬إلى‭ ‬الأشياء‭ ‬فوق‭ ‬الحسّية،‭ ‬الخالدة‭ ‬والتي‭ ‬لا‭ ‬تتبدَّل‭. ‬وهذا‭ ‬النظر‭ ‬سوف‭ ‬يشتمل،‭ ‬من‭ ‬دون‭ ‬شك،‭ ‬على‭ ‬رؤيتي‭ ‬وفهمي‭ ‬الأشياء‭ ‬المحيطة‭ ‬بي‭ ‬بوصفها‭ ‬تشترك‭ ‬بالمُثُل‭ ‬التي‭ ‬أوجدتها‭.‬”‭ ‬‭(‬‭ ‬تشارلز‭ ‬تايلر،‭ ‬منابع‭ ‬الذات،‭ ‬تكون‭ ‬الهُويَّة‭ ‬الحديثة،‭ ‬ص228‭)‬‭.‬ ومنه‭ ‬يكون‭ ‬السؤال‭ ‬عنها‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬اعتبارها‭ ‬مثالاً‭ ‬قائما‭ ‬بصورة‭ ‬قبلية‭ ‬في‭ ‬موضع‭ ‬المثل،‭ ‬منتشرة‭ ‬فيه،‭ ‬تحوز‭ ‬على‭ ‬وجود‭ ‬سابق‭ ‬لكلّ‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬حسي‭ ‬واقعي،‭ ‬بمعنى‭ ‬أنّ‭ ‬هدا‭ ‬التمثل‭ ‬الفكري‭ ‬نشأ‭ ‬من‭ ‬“الافتراض‭ ‬التالي‭: ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬تساءلنا‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬‭(‬س‭)‬؟،‭ ‬فإنّنا‭ ‬نفترض‭ ‬بأنّ‭ ‬‭(‬س‭)‬‭ ‬شيء‭ ‬مـا”‭ ‬‭(‬ميشال‭ ‬ماير،‭ ‬نحو‭ ‬قراءة‭ ‬جديدة‭ ‬لتاريخ‭ ‬الفلسفة،‭ ‬ص‭ ‬12‭)‬‭. ‬وبالرغم‭ ‬من‭ ‬الاعتراضات‭ ‬التي‭ ‬انتصبت‭ ‬في‭ ‬وجه‭ ‬هذا‭ ‬الطرح،‭ ‬إلاّ‭ ‬أنّ‭ ‬أرسطو‭ ‬اجتهد‭ ‬في‭ ‬إدماج‭ ‬الكثرة‭ ‬والعوارض‭ ‬في‭ ‬منطق‭ ‬قضوي‭ ‬صارم،‭ ‬بحيث‭ ‬نكون‭ ‬“أمام‭ ‬قضية‭ ‬واحدة‭ ‬ووحيدة،‭ ‬‭(‬ق‭)‬‭ ‬و‭(‬لاق‭)‬‭ ‬يمكنهما‭ ‬أم‭ ‬يكونا‭ ‬عبارة‭ ‬عن‭ ‬محمولات‭ ‬قابلة‭ ‬للتطبيق‭ ‬على‭ ‬الموضوع‮…‬‭ ‬فسقراط‭ ‬أصلع‭ ‬أو‭ ‬أصلع،‭ ‬شاب‭ ‬أو‭ ‬غير‭ ‬شاب‭ ‬إلخ،‭ ‬لكن‭ ‬سقراط‭ ‬سيبقى‭ ‬هو‭ ‬سقراط”‭ ‬‭(‬ميشال‭ ‬ماير،‭ ‬ص‭ ‬20‭)‬‭.‬

من‭ ‬صُلب‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬اليونانية‭ ‬انبنى‭ ‬اللوغوس‭ ‬على‭ ‬فكرة‭ ‬الهوية‭ ‬الثابتة‭ ‬التي‭ ‬طفقت‭ ‬تعبّر‭ ‬عن‭ ‬ذاتها‭ ‬سياسياً‭ ‬في‭ ‬الدولة‭/‬الجمهورية‭ ‬عند‭ ‬أفلاطون،‭ ‬ولدى‭ ‬أرسطو‭ ‬في‭ ‬تصوره‭ ‬للدولة‭ ‬الطبيعية،‭ ‬وفي‭ ‬قراءة‭ ‬النزعة‭ ‬الرواقية‭ ‬للطبيعة‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬القدرية،‭ ‬انسجاما‭ ‬مع‭ ‬قانونها‭ ‬الحديدي‭ ‬“عش‭ ‬في‭ ‬وفاق‭ ‬مع‭ ‬الطبيعة”‭. ‬أمّا‭ ‬المرحلة‭ ‬الحديثة،‭ ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬الديكارتية‭ ‬المُعبّر‭ ‬الحقيقي‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬العصر‭ ‬فكريا،‭ ‬إذ‭ ‬أعلن‭ ‬ديكارت،‭ ‬قائلاً‭ ‬“من‭ ‬المؤكد‭ ‬أنّي‭ ‬لا‭ ‬أستطيع‭ ‬أن‭ ‬أحوز‭ ‬على‭ ‬معرفة‭ ‬بما‭ ‬هو‭ ‬خارجي‭ ‬إلّا‭ ‬بواسطة‭ ‬أفكار‭ ‬في‭ ‬داخلي”‭ ‬‭(‬تشارلز‭ ‬تايلر،‭ ‬ص‭ ‬227‭)‬‭. ‬مدعوماً‭ ‬برؤية‭ ‬كانطية‭ ‬تؤسس‭ ‬لمنجز‭ ‬النقد‭ ‬بحسبانه‭ ‬محكمة‭ ‬داخلية‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تخضع‭ ‬لها‭ ‬جميع‭ ‬الأنساق‭ ‬بما‭ ‬فيها‭ ‬الدين،‭ ‬ومسار‭ ‬هيجلي‭ ‬انخرط‭ ‬في‭ ‬الطرح‭ ‬الجدلي‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬اعتراف‭ ‬جواني‭ ‬بذات‭ ‬انتصرت‭ ‬على‭ ‬الآخر‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬الرّجة‭ ‬التي‭ ‬تلقتها‭ ‬الديكارتية‭ ‬في‭ ‬عقر‭ ‬دارها‭ ‬جاءت‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الفيلسوف‭ ‬باسكال‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬يهضم‭ ‬“الثقة‭ ‬الديكارتية‭ ‬بقوى‭ ‬الإنسان‭ ‬الخاصة‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬الخير”‭ ‬‭(‬تشارلز‭ ‬تايلر،‭ ‬ص‭ ‬521‭)‬،‭ ‬لأنّها‭ ‬“تـظلّ‭ ‬هناك،‭ ‬ودائما،‭ ‬بعض‭ ‬الأعماق‭ ‬في‭ ‬داخلنا‭ ‬بعض‭ ‬الجذور‭ ‬التي‭ ‬تظلّ‭ ‬مجهولة،‭ ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬النفوذ‭ ‬إليها‭ ‬في‭ ‬حياتنا”‭ ‬‭(‬تشارلز‭ ‬تايلر،‭ ‬ص‭ ‬521‭)‬‭.‬

هذه‭ ‬الأعماق‭ ‬التي‭ ‬نبش‭ ‬عنها‭ ‬لفيف‭ ‬من‭ ‬فلاسفة‭ ‬الظنة،‭ ‬وفق‭ ‬التوصيف‭ ‬الرائع‭ ‬لبول‭ ‬ريكور،‭ ‬بدءا‭ ‬بشوبنهاور،‭ ‬وماركس،‭ ‬وفرويد،‭ ‬ونيتشه،‭ ‬هذا‭ ‬الأخير‭ ‬الذي‭ ‬سبق‭ ‬له‭ ‬أن‭ ‬“سبر‭ ‬ذلك‭ ‬الفكر‭ ‬المشوَّش‭ ‬المفيد‭ ‬أنّ‭ ‬الذات‭ ‬قد‭ ‬لا‭ ‬تتمتَّع‭ ‬بوحدة‭ ‬قبليّة‭ ‬مضمونة”‭ ‬‭(‬تشارلز‭ ‬تايلر،‭ ‬ص‭ ‬664‭)‬‭. ‬وقد‭ ‬تزامن‭ ‬ذلك‭ ‬مع‭ ‬هجوم‭ ‬على‭ ‬مفهوم‭ ‬الذات،‭ ‬حيث‭ ‬“أصبحت‭ ‬الحاجة‭ ‬إلى‭ ‬الهرب‭ ‬من‭ ‬قيود‭ ‬الذات‭ ‬الموحَّدة‭ ‬موضوعا‭ ‬أساسياً‭ ‬مهمّاً‭ ‬ومتكرراً،‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬القرن،‭ ‬وتزايد‭ ‬فيما‭ ‬صار‭ ‬يُشار‭ ‬إليه،‭ ‬‘بما‭ ‬بعد‭ ‬الحداثة’‭ ‬كما‭ ‬نرى‭ ‬شكلاً‭ ‬من‭ ‬أشكاله‭ ‬في‭ ‬مهاجمة‭ ‬فوكو‭ ‬الذات‭ ‬المنظَّمة‭ ‬أو‭ ‬المعترفة،‭ ‬وفي‭ ‬شكل‭ ‬آخر‭ ‬عند‭ ‬ليوتار”‭ ‬‭(‬تشارلز‭ ‬تايلر،‭ ‬ص‭ ‬664‭)‬،‭ ‬إنّها‭ ‬أعماق‭ ‬قد‭ ‬أدّت‭ ‬إلى‭ ‬حدوث‭ ‬هزات‭ ‬زلزالية‭ ‬أصابت‭ ‬الذات‭ ‬المزهوّة‭ ‬بانتصاراتها‭ ‬العلمية‭ ‬والاقتصادية‭ ‬والجغرافية،‭ ‬ودفعتها‭ ‬إلى‭ ‬الانسحاب‭ ‬إلى‭ ‬داخلها‭ ‬تفتّش‭ ‬عن‭ ‬ذاتها،‭ ‬ويمكننا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة‭ ‬الفلسفية‭ ‬الفارقة‭ ‬والمُنعرجية‭ ‬الخطيرة‭ ‬أن‭ ‬نضع‭ ‬سؤال‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬أفقه‭ ‬الفكري،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬نستبعد‭ ‬من‭ ‬هذا‭ ‬الأفق‭ ‬الجديد،‭ ‬المفاعيل‭ ‬الأخرى‭ ‬التي‭ ‬طالتنا‭ ‬نحن‭ ‬سكان‭ ‬جنوب‭ ‬الحداثة،‭ ‬من‭ ‬كولونيالية‭ ‬واستعمار‭ ‬واستغلال‭ ‬واستبداد‭ ‬شمولي‭ ‬خانق‭.‬

أخذت‭ ‬مسألة‭ ‬الذات‭/‬الهوية‭ ‬حيزا‭ ‬معرفياً‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬نقاشات‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬نتيجة‭ ‬الاستئناس‭ ‬بسؤال‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الإنسان؟‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬وفياً‭ ‬للمسار‭ ‬الأفلاطوني‭ ‬خاصة‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬أفلاطون‭ ‬مفهوم‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬التفكر‭ ‬الفلسفي

هناك‭ ‬استعمال‭ ‬ملتبس‭ ‬للفظي‭ ‬الذات‭ ‬والهوية‭ ‬معاً،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يثير‭ ‬ذلك‭ ‬إشكالا‭ ‬فلسفياً‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬المصطلح،‭ ‬وإنّما‭ ‬هو‭ ‬إشكال‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬التنظير‭ ‬الفلسفي،‭ ‬فقد‭ ‬كان‭ ‬رهان‭ ‬الفلسفة‭ ‬الغربية‭ ‬منذ‭ ‬البدء‭ ‬الأفلاطوني‭ ‬إلى‭ ‬غاية‭ ‬زمن‭ ‬الحداثة‭ ‬هو‭ ‬تأسيس‭ ‬ذات‭ ‬سياسية‭ ‬وأخلاقية‭ ‬وناقدة‭ ‬وعارفة‭ ‬ومالكة‭ ‬للوجود‭ ‬الحقيقي،‭ ‬أي‭ ‬أنّها‭ ‬تحمل‭ ‬في‭ ‬طياتها‭ ‬هوية‭ ‬ما‭ ‬زالت‭ ‬وفيّة‭ ‬للسؤال‭ ‬الذي‭ ‬دشّنه‭ ‬أفلاطون‭ ‬حول‭ ‬الجوهر‭ ‬أو‭ ‬الماهية،‭ ‬بصيغته‭ ‬الجلية: ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الإنسان؟‭ ‬والذي‭ ‬نجد‭ ‬صداه‭ ‬مفروشا‭ ‬في‭ ‬النص‭ ‬الكانطي‭ ‬نقد‭ ‬العقل‭ ‬العملي‭.‬

غير‭ ‬أنّ‭ ‬المفكر‭ ‬العربي‭ ‬فتحي‭ ‬المسكيني‭ ‬يطرح‭ ‬رؤية‭ ‬مغايرة‭ ‬مبنية‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬“رهان‭ ‬الحداثة‭ ‬الخفي‭ ‬هو: ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬حدّ‭ ‬يمكن‭ ‬للفيلسوف‭ ‬أن‭ ‬يفكّر‭ ‬في‭ ‬الذات‭ ‬بلا‭ ‬هوية؟‭ ‬وعلى‭ ‬ذلك‭ ‬فإنّ‭ ‬الأوان‭ ‬قد‭ ‬آن‭ ‬أيضّا‭ ‬لأن‭ ‬تسأل‭: ‬إلى‭ ‬أيّ‭ ‬مدى‭ ‬استطاعت‭ ‬الفلسفة‭ ‬المعاصرة،‭ ‬في‭ ‬سعيها‭ ‬الدائب‭ ‬إلى‭ ‬التحرّر‭ ‬من‭ ‬براديغم‭ ‬الوعي،‭ ‬أن‭ ‬تتحرّر‭ ‬من‭ ‬صناعة‭ ‬الهوية‭ ‬الحديثة؟‭ ‬ومن‭ ‬ثمّ‭ ‬أن‭ ‬تقترح‭ ‬علينا‭ ‬ذاتا‭ ‬بلا‭ ‬رواسب‭ ‬هووية‭ ‬لا‭ ‬شفاء‭ ‬منها؟”‭ ‬‭(‬فتحي‭ ‬المسكيني،‭ ‬الهوية‭ ‬والحرية،‭ ‬نحو‭ ‬أنوار‭ ‬جديدة،‭ ‬ص‭ ‬12‭)‬،‭ ‬ويستمرّ‭ ‬كاشفا‭ ‬عن‭ ‬إشكاله‭ ‬بصورة‭ ‬أكثر‭ ‬تأسيساً‭ ‬قائلا‭ ‬“نحن‭ ‬نفترض‭ ‬أنّ‭ ‬الفلسفة‭ ‬المعاصرة‭ ‬من‭ ‬هيغل‭ ‬إلى‭ ‬ريكور‭ ‬قد‭ ‬فشلت‭ ‬في‭ ‬الإيفاء‭ ‬بهذا‭ ‬الوعد‭. ‬إنّها‭ ‬لم‭ ‬تفعل‭ ‬غير‭ ‬الاستعاضة‭ ‬عن‭ ‬تأسيس‭ ‬الذات‭ ‬بإرساء‭ ‬أكثر‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬من‭ ‬قصص‭ ‬الهوية”‭ ‬‭(‬فتحي‭ ‬المسكيني،‭ ‬ص12‭)‬‭.‬

لقد‭ ‬أخذت‭ ‬مسألة‭ ‬الذات‭/‬الهوية‭ ‬حيزا‭ ‬معرفياً‭ ‬كبيرا‭ ‬في‭ ‬نقاشات‭ ‬الفلاسفة،‭ ‬نتيجة‭ ‬الاستئناس‭ ‬بسؤال‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬الإنسان؟‭ ‬الذي‭ ‬ما‭ ‬زال‭ ‬وفياً‭ ‬للمسار‭ ‬الأفلاطوني‭ ‬خاصة‭ ‬منذ‭ ‬أن‭ ‬أدخل‭ ‬أفلاطون‭ ‬مفهوم‭ ‬الإنسان‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬التفكر‭ ‬الفلسفي،‭ ‬ذلك‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬السؤال‭ ‬بقي‭ ‬ملتصقاً‭ ‬بكلّ‭ ‬هذا‭ ‬المخزون‭ ‬الأنثروبولوجي‭ ‬بحثا‭ ‬عن‭ ‬البواعث‭ ‬الحقيقية‭ ‬للفعل‭ ‬الإنساني،‭ ‬أو‭ ‬سعياً‭ ‬للامساك‭ ‬بجميع‭ ‬الصفات‭ ‬التي‭ ‬تحدد‭ ‬للذات‭ ‬هويتها‭ ‬من‭ ‬عقل‭ ‬وكلام‭ ‬وسياسة‭ ‬واجتماع،‭ ‬وصولاً‭ ‬إلى‭ ‬وصفه‭ ‬بأنّه‭ ‬براديغم‭ ‬أو‭ ‬متحد‭ ‬اجتماعي‭ ‬ينظم‭ ‬جميع‭ ‬ضروب‭ ‬التفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬ويخترق‭ ‬كلّ‭ ‬الفلسفات‭ ‬التي‭ ‬حافظت‭ ‬على‭ ‬فكرتها‭ ‬المركزية‭ ‬التي‭ ‬تدور‭ ‬وجودا‭ ‬أو‭ ‬عدماً‭ ‬مع‭ ‬الذات‭/‬الهوية،‭ ‬بغضّ‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬توصيفات‭ ‬الذات،‭ ‬غير‭ ‬أنّ‭ ‬المنعطف‭ ‬الذي‭ ‬ميّز‭ ‬الفكر‭ ‬الفلسفي‭ ‬الحديث‭ ‬والمعاصر،‭ ‬بفعل‭ ‬المطرقة‭ ‬النيتشوية،‭ ‬حينما‭ ‬اجترح‭ ‬نيتشه‭ ‬سؤالا‭ ‬خطيرا‭ ‬في‭ ‬أفق‭ ‬الحداثة،‭ ‬وهو‭ ‬سؤال‭ ‬“من؟”،‭ ‬أو‭ ‬“من‭ ‬نحن؟”،‭ ‬ومن‭ ‬يكون،‭ ‬وبالتالي‭ ‬“الخروج‭ ‬من‭ ‬طور‭ ‬الفحص‭ ‬الأنثربولوجي‭ ‬في‭ ‬الهوية‭ ‬identité‭ ‬إلى‭ ‬طور‭ ‬المساءلة‭ ‬لسؤال‭ ‬“من‭ ‬نحن؟”‭ ‬بوصفه‭ ‬أمارة‭ ‬فينومينولوجية‭ ‬عن‭ ‬سؤال‭ ‬أنطولوجي‭ ‬لم‭ ‬يأت‭ ‬إليه‭ ‬الفلاسفة‭ ‬المعاصرون‭ ‬إلا‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أخذوا‭ ‬في‭ ‬التحرر‭ ‬شيئا‭ ‬فشيئاً‭ ‬من‭ ‬براديغم‭ ‬الذات‭ ‬الديكارتية‭ ‬ونعني‭ ‬سؤال‭ ‬“من؟”‭ ‬بعامة،‭ ‬الذي‭ ‬صرنا‭ ‬نشير‭ ‬إليه‭ ‬بعد‭ ‬هيدغر‭ ‬‭(‬1927‭)‬‭ ‬وريكور‭ ‬‭(‬1990‭)‬‭ ‬بمصطلح‭ ‬الهُوية‭ ‬ipséité‭, ‬selbstheit”‭ ‬‭(‬فتحي‭ ‬المسكيني،‭ ‬الهوية‭ ‬والزمان،‭ ‬تأويلات‭ ‬فينومينولوجية‭ ‬لمسألة‭ ‬“النحن”،‭ ‬ص‭ ‬9‭)‬‭.‬

وهو‭ ‬هنا‭ ‬يقترب‭ ‬كثيرا‭ ‬من‭ ‬تحديد‭ ‬المسار‭ ‬الفلسفي‭ ‬لإشكالية‭ ‬الهوية،‭ ‬فجذورها‭ ‬توجد‭ ‬عند‭ ‬“نيتشه‭ ‬وهيدغر‭ ‬وأرندت‭ ‬وفوكو‭ ‬الأخير،‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬يبلغ‭ ‬مرتبة‭ ‬الإشكالية‭ ‬القائمة‭ ‬بنفسها‭ ‬إلاّ‭ ‬لدى‭ ‬ريكور‭ ‬ورورتي،‭ ‬نعني‭ ‬إشكالية‭ ‬‘الُهو’‭ ‬das‭ ‬selbst‭ ‬وذلك‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬ما‭ ‬هي‭ ‬سبيل‭ ‬في‭ ‬البحث‭ ‬تتخذ‭ ‬من‭ ‬سؤال‭ ‬من‭ ‬die‭ ‬wer-fregela‭ ‬question‭ ‬qui‭ ‬‮ ‬بعامة‭ ‬خيطاً‭ ‬هادياً‭ ‬لها”‭ ‬‭(‬فتحي‭ ‬المسكيني،‭ ‬الهوية‭ ‬والزمان،‭ ‬تأويلات‭ ‬فينومينولوجية‭ ‬لمسألة‭ ‬“النحن”،‭ ‬ص‭ ‬20‭)‬‭.‬

ويمكن‭ ‬أن‭ ‬نؤكد‭ ‬على‭ ‬“ضياع‭ ‬مركزية‭ ‬الذات‭ ‬فعلاً،‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬جعلت‭ ‬منها‭ ‬الفلسفة‭ ‬الكلاسيكية‭ ‬محور‭ ‬الوجود‭ ‬والفكر‭ ‬‭(‬‭ ‬فتحي‭ ‬التريكي،‭ ‬فلسفة‭ ‬الحياة‭ ‬اليومية،‭ ‬ص‭ ‬47‭)‬،‭ ‬وتصالب‭ ‬هذا‭ ‬الضياع‭ ‬مع‭ ‬تزايد‭ ‬الحديث‭ ‬عن‭ ‬أزمة‭ ‬المعنى‭ ‬ومأساة‭ ‬الكوجيطو‭ ‬المكسور‭ ‬أو‭ ‬المجروح‭ ‬بلغة‭ ‬ريكور،‭ ‬وانبثاق‭ ‬عهد‭ ‬نهاية‭ ‬السرديات‭ ‬الكبرى. ‬إنّ‭ ‬هذا‭ ‬التمشي‭ ‬الفلسفي‭ ‬يسعفنا‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬في‭ ‬تحديد‭ ‬مسار‭ ‬تفكّرنا‭ ‬في‭ ‬هكذا‭ ‬مسألة‭ ‬متشابكة‭ ‬ومتداخلة‭ ‬إلى‭ ‬درجة‭ ‬التعقيد‭ ‬الخطير‭ ‬الذي‭ ‬يشي‭ ‬بقدوم‭ ‬مَهمة‭ ‬فلسفية‭ ‬عسيرة‭ ‬في‭ ‬منطلقاتها،‭ ‬هي‭ ‬مهمة‭ ‬فهم‭ ‬تفكيك‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الطفولية،‭ ‬في‭ ‬الأفق‭ ‬الفكري‭ ‬العربي،‭ ‬استئناساً‭ ‬بما‭ ‬عرفناه‭ ‬من‭ ‬نصوص‭ ‬غربية،‭ ‬منحت‭ ‬لنا‭ ‬ضوءاً‭ ‬يهدينا‭ ‬إلى‭ ‬مستقرّ‭ ‬معرفي‭ ‬قد‭ ‬يصبح‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬مرتبة‭ ‬المنزل‭ ‬الذي‭ ‬نُنزل‭ ‬فيه‭ ‬عتادنا‭ ‬التحليلي‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقديم‭ ‬مقاربة‭ ‬لهذه‭ ‬المسألة‭.‬

ربّما‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬المربع‭ ‬المعرفي‭ ‬الذي‭ ‬وضعنا‭ ‬فيه‭ ‬الأديب‭ ‬اللبناني‭ ‬أمين‭ ‬معلوف،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬الهويات‭ ‬القاتلة‭ ‬يعلمنا‭ ‬أنّ‭ ‬الخطر‭ ‬الأكبر‭ ‬يأتينا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬وتحديدا‭ ‬من‭ ‬الكلمات،‭ ‬فقد‭ ‬علّمته‭ ‬الحياة‭ ‬درسا‭ ‬قاسياً‭ ‬في‭ ‬أن‭ ‬يرتاب‭ ‬منها،‭ ‬فـ”أكثرها‭ ‬شفافية‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬يكون‭ ‬أكثرها‭ ‬خيانة‭. ‬وإحدى‭ ‬هذه‭ ‬الكلمات‭ ‬المضلّلة‭ ‬هي‭ ‬كلمة‭ ‬‘هوية’‭ ‬تحديداً. ‬فنحن‭ ‬جميعاً‭ ‬نعتقد‭ ‬بأنّنا‭ ‬ندرك‭ ‬دلالتها،‭ ‬ونستمر‭ ‬في‭ ‬الوثوق‭ ‬بها‭ ‬وإن‭ ‬راحت‭ ‬تعني‭ ‬نقيضها‭ ‬بصورة‭ ‬خبيثة”‭ ‬‭(‬أمين‭ ‬معلوف،‭ ‬ص17‭)‬‭. ‬وهو‭ ‬بذلك‭ ‬يلتزم‭ ‬معرفياً‭ ‬على‭ ‬الأقل‭ ‬بوصية‭ ‬مارتن‭ ‬هيدغر‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬علاقة‭ ‬اللغة‭ ‬بالفكر،‭ ‬إذ‭ ‬ينهمم‭ ‬بالتفكر‭ ‬في‭ ‬أدوات‭ ‬اللغة‭ ‬لأنّها‭ ‬هي‭ ‬بالأساس‭ ‬أدوات‭ ‬الفكر،‭ ‬فمن‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬لم‭ ‬يفكر‭ ‬أبداً‭. ‬وعليه،‭ ‬يضع‭ ‬علينا‭ ‬بقوة‭ ‬التاريخ،‭ ‬سؤالاً‭ ‬راهنا‭ ‬ومربكاً‭ ‬هو‭ ‬“محاولة‭ ‬فهم‭ ‬الأسباب‭ ‬التي‭ ‬تدعو‭ ‬الكثيرين‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬القتل‭ ‬باسم‭ ‬هويتهم‭ ‬الدينية‭ ‬والإثنية‭ ‬والقومية‭ ‬أو‭ ‬غيرها”‭ ‬‭(‬أمين‭ ‬معلوف،‭ ‬ص‭ ‬ص‭ ‬17‭/‬18‭)‬،‭ ‬وهي‭ ‬ثمرة‭ ‬جملة‭ ‬من‭ ‬العلل‭ ‬المتساكنة‭ ‬داخل‭ ‬قفص‭ ‬الفُهوم‭ ‬المريبة‭ ‬والمرعبة‭ ‬في‭ ‬أحكامها،‭ ‬فهي‭ ‬“تساعد‭ ‬على‭ ‬ترسيخ‭ ‬الآراء‭ ‬المسبقة‭ ‬التي‭ ‬تكشفت‭ ‬عبر‭ ‬التاريخ‭ ‬عن‭ ‬فسادها‭ ‬وإجرامها”‭ ‬‭(‬أمين‭ ‬معلوف،‭ ‬ص‭ ‬36‭)‬،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬“أنّ‭ ‬الفوضى‭ ‬المفهومية،‭ ‬لا‭ ‬النوايا‭ ‬السيئة‭ ‬فقط،‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يسهم‭ ‬بشكل‭ ‬كبير‭ ‬في‭ ‬الاضطراب‭ ‬والبربرية‭ ‬اللتين‭ ‬نراهما‭ ‬حولنا”‭ ‬‭(‬أمارتيا‭ ‬سين،‭ ‬الهوية‭ ‬والعنف،‭ ‬وهم‭ ‬القدر،‭ ‬ص‭ ‬23‭)‬‭. ‬حيث‭ ‬يمكن‭ ‬لهذا‭ ‬النوع‭ ‬الطفولي‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬أن‭ ‬يفعّل‭ ‬جملة‭ ‬الضغائن‭ ‬و”يمكن‭ ‬للأحقاد‭ ‬المدفوعة‭ ‬طائفيَّاً‭ ‬أن‭ ‬تنتشر‭ ‬انتشار‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬الهشيم،‭ ‬كما‭ ‬شاهدنا‭ ‬مؤخراً‭ ‬في‭ ‬كوسوفو‭ ‬والبوسنة‭ ‬ورواندا‭ ‬وتيمور.. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬يحوّل‭ ‬حسُّ‭ ‬هوية‭ ‬معزَّز‭ ‬معه‭ ‬جماعة‭ ‬معينة‭ ‬من‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬سلاح‭ ‬قوي‭ ‬بوحشية‭ ‬مع‭ ‬جماعة‭ ‬أخرى”‭. ‬‭(‬أ‭. ‬سين،‭ ‬ص‭ ‬25‭)‬،‭ ‬والسبب‭ ‬يتجلى‭ ‬في‭ ‬“استحضار‭ ‬القوة‭ ‬السحرية‭ ‬لهوية‭ ‬شاملة‭ ‬مزعومة‭ ‬تحجب‭ ‬الانتماءات‭ ‬الأخرى‭.. ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬النتيجة‭ ‬عنفاً‭ ‬محليَّاً‭ ‬بسيطاً،‭ ‬أو‭ ‬عنفاً‭ ‬وإرهاباً‭ ‬عالميين‭ ‬بالغي‭ ‬التعقيد”‭ ‬‭(‬أ‭.‬سين،‭ ‬ص‭ ‬25‭)‬‭.‬

العودة‭ ‬إلى‭ ‬المربع‭ ‬المعرفي‭ ‬الذي‭ ‬وضعنا‭ ‬فيه‭ ‬الأديب‭ ‬اللبناني‭ ‬أمين‭ ‬معلوف،‭ ‬خاصة‭ ‬في‭ ‬حديثه‭ ‬عن‭ ‬الهويات‭ ‬القاتلة‭ ‬يعلمنا‭ ‬أنّ‭ ‬الخطر‭ ‬الأكبر‭ ‬يأتينا‭ ‬من‭ ‬اللغة‭ ‬وتحديدا‭ ‬من‭ ‬الكلمات

وعليه‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نتحدث‭ ‬عن‭ ‬“هوية‭ ‬طفولية”‭ ‬تتمظهر‭ ‬في‭ ‬صور‭ ‬عديدة‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬يتصل‭ ‬بالجنس‭ ‬أو‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬المعطى‭ ‬الطبيعي‭ ‬الأوّل،‭ ‬ومنها‭ ‬ما‭ ‬يرتبط‭ ‬باللون،‭ ‬وهي‭ ‬أقذرها،‭ ‬وفي‭ ‬صورتها‭ ‬الإثنية‭ ‬المخيفة‭ ‬مثل‭ ‬الانتماءات‭ ‬القبيلية‭ ‬والعشائرية‭ ‬المنتشرة‭ ‬في‭ ‬أفريقيا‭ ‬كالزولو‭ ‬والتوتسي‭ ‬والهوتو،‭ ‬وعشيرة‭ ‬الهاوسا،‭ ‬أو‭ ‬الصور‭ ‬الأخرى‭ ‬للانتماء‭ ‬الطائفي‭ ‬مثل: ‬السنة،‭ ‬الشيعة،‭ ‬الموارنة،‭ ‬الدروز،‭ ‬الأمازيغ،‭ ‬الطوارق،‭ ‬وجميع‭ ‬هذه‭ ‬الأصناف‭ ‬تحوي‭ ‬في‭ ‬جوفها‭ ‬على‭ ‬رؤية‭ ‬معادية‭ ‬للآخر‭ ‬واستعلائية‭ ‬عليه،‭ ‬تنتظر‭ ‬فقط‭ ‬الاستفزاز،‭ ‬ويمكن‭ ‬أن‭ ‬تؤدي‭ ‬إلى‭ ‬حرب‭ ‬بين‭ ‬هذه‭ ‬القطاعات‭ ‬المُسيجة‭ ‬بدوغمائيات‭ ‬خطيرة،‭ ‬أو‭ ‬إلى‭ ‬نزاعات‭ ‬مُضللة‭ ‬وجودياً‭ ‬تحول‭ ‬بينهم‭ ‬وبين‭ ‬أفق‭ ‬الحداثة‭ ‬المضيء،‭ ‬فلقد‭ ‬أنشأت‭ ‬محاكم‭ ‬التفتيش‭ ‬تحت‭ ‬ضغط‭ ‬ديني،‭ ‬ومارست‭ ‬طالبان‭ ‬صنوفا‭ ‬من‭ ‬الإرهاب‭ ‬المفرط‭ ‬في‭ ‬عنفه،‭ ‬ولا‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬ننسى‭ ‬“حرب‭ ‬الأفيون”‭ ‬المفروضة‭ ‬على‭ ‬الصين،‭ ‬الدنيئة‭ ‬باسم‭ ‬حرية‭ ‬التجارة‭ ‬كما‭ ‬وصفها‭ ‬أمين‭ ‬معلوف‭.‬

ويكاد‭ ‬الأمر‭ ‬يستوي‭ ‬في‭ ‬مقاربتنا‭ ‬لمعنى‭ ‬الهوية،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬صورتها‭ ‬الطفولية،‭ ‬بحسبانها‭ ‬رؤية‭ ‬ساذجة‭ ‬وسطحية‭ ‬ومتسرعة‭ ‬ومنفعلة‭ ‬في‭ ‬حكمها‭ ‬وقرارها،‭ ‬فالذي‭ ‬“ينزع‭ ‬إلى‭ ‬رفض‭ ‬كلّ‭ ‬شيء‭ ‬دفعة‭ ‬واحدة‭ ‬والتقوقع‭ ‬داخل‭ ‬‘هويتهم’‭ ‬مطلقين‭ ‬اللعنات‭ ‬المثيرة‭ ‬للشفقة‭ ‬ضدّ‭ ‬العولمة‭ ‬والكوكبة‭ ‬والغرب‭ ‬المتفوق‭ ‬أو‭ ‬أمريكا‭ ‬التي‭ ‬لا‭ ‬تطاق”‭ ‬‭(‬أ‭.‬معلوف،‭ ‬ص‭ ‬ص‭ ‬141،‭ ‬142‭)‬،‭ ‬فهو‭ ‬يعبر‭ ‬عن‭ ‬تمظهر‭ ‬مقزّز‮ ‬‭ ‬للهوية‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الطفولية،‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعي‭ ‬بطبيعة‭ ‬موقفه‭ ‬ولا‭ ‬بعقابيله‭ ‬الكارثية‭ ‬على‭ ‬ذاته‭ ‬وهويته‭ ‬الهشة،‭ ‬والتي‭ ‬تتمثل‭ ‬مثلا‭ ‬في‭ ‬أسلوب‭ ‬الاحتقار‭ ‬“الذي‭ ‬يستخدم‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إثارة‭ ‬العنف‭ ‬ضدّ‭ ‬الشخص‭ ‬المحتقر”. ‬وقد‭ ‬جادل‭ ‬جون‭ ‬بول‭ ‬سارتر‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“صورة‭ ‬اليهودي‭ ‬معادي‭ ‬السامية”‭ ‬Portrait‭ ‬of‭ ‬the‭ ‬Anti-Semiste‭ ‬أن‭ ‬“اليهودي‭ ‬إنسان‭ ‬ينظر‭ ‬إليه‭ ‬الآخرون‭ ‬على‭ ‬أنّه‭ ‬يهودي،‭.. ‬إنّ‭ ‬المعادي‭ ‬للسامية‭ ‬هو‭ ‬الذي‭ ‬يصنع‭ ‬اليهودي”‭ ‬‭(‬أ‭.‬سين،‭ ‬ص‭ ‬39‭)‬،‭ ‬أمّا‭ ‬البعض‭ ‬الآخر‭ ‬فهم‭ ‬على‭ ‬أتمّ‭ ‬الاستعداد‭ ‬“لتقبل‭ ‬و”ابتلاع″‭ ‬كلّ‭ ‬شيء،‭ ‬دون‭ ‬تمييز،‭ ‬بحيث‭ ‬لا‭ ‬يعودوا‭ ‬يعرفون‭ ‬من‭ ‬هم،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬هم‭ ‬سائرون،‭ ‬ولا‭ ‬إلى‭ ‬أين‭ ‬يسير‭ ‬العالم”‭ ‬‭(‬أ‭.‬معلوف،‭ ‬ص،‭ ‬142‭)‬،‭ ‬أو‭ ‬بصورة‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحاً،‭ ‬قد‭ ‬يكون‭ ‬“التصنيف‭ ‬الديني‭ ‬مصدر‭ ‬للتشويه‭ ‬العدائي‭ ‬كذلك،‭ ‬بالطبع‭. ‬فيمكن‭ ‬مثلاً‭ ‬أن‭ ‬يتّخذ‭ ‬شكلّ‭ ‬الاعتقادات‭ ‬الفجة‭ ‬التي‭ ‬عبرت‭ ‬عنها‭ ‬ملحوظة‭ ‬الجنرال‭ ‬الأمريكي‭ ‬وليم‭ ‬بوبكين‭ ‬المدوّية،‭ ‬التي‭ ‬يعرفها‭ ‬الناس‭ ‬جميعاً،‭ ‬في‭ ‬وصفه‭ ‬لمعركته‭ ‬ضد‭ ‬المسلمين‭ ‬بشكل‭ ‬فج‭ ‬“لقد‭ ‬عرفت‭ ‬أنّ‭ ‬ربي‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬ربّه”،‭ ‬و”أن‭ ‬ربّ‭ ‬المسيحية‭ ‬كان‭ ‬الربّ‭ ‬الحق،‭ ‬وأن‭ ‬ربّ‭ ‬‭[‬المسلمين‭]‬‭ ‬ليس‭ ‬إلاّ‭ ‬وثنا”‭ ‬‭(‬أ‭.‬سين،‭ ‬ص‭ ‬48‭)‬‭.‬

وليس‭ ‬ببعيد‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القراءة،‭ ‬يمكن‭ ‬لنا‭ ‬أن‭ ‬نرصد‭ ‬أشكالا‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬“الهوية‭ ‬الطفولية”‭ ‬في‭ ‬المتن‭ ‬الفكري‭ ‬الذي‭ ‬قدمه‭ ‬أمارتيا‭ ‬سن،‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬“الهوية‭ ‬والعنف،‭ ‬وهمّ‭ ‬القدر”،‭ ‬حيث‭ ‬يشير‭ ‬إلى‭ ‬مسألة‭ ‬كؤودة‭ ‬تقف‭ ‬كحجر‭ ‬عثرة‭ ‬أمام‭ ‬مسيرتنا‭ ‬نحو‭ ‬بلوغ‭ ‬“الهوية‭ ‬الراشدة”،‭ ‬وهي‭ ‬مسألة‭ ‬“الاختزالية”‭ ‬reductionism،‭ ‬التي‭ ‬تتجلى‭ ‬أولاً‭ ‬في‭ ‬“تجاهل‭ ‬الهوية”،‭ ‬وهي‭ ‬“تأتي‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬تجاهل‭ ‬تأثير‭ ‬أيّ‭ ‬معنى‭ ‬للتماهي‭ ‬مع‭ ‬الآخرين،‭ ‬أو‭ ‬إهماله‭ ‬تماماً،‭ ‬فيما‭ ‬يتعلق‭ ‬بما‭ ‬نثمّنه‭ ‬أو‭ ‬بالكيفية‭ ‬التي‭ ‬نتصرف‭ ‬بها”‭ ‬‭(‬أ‭.‬سين،‭ ‬ص‭ ‬55‭)‬،‭ ‬وتتمظر‭ ‬الاختزالية‭ ‬ثانياً‭ ‬في‭ ‬“الولاء‭ ‬المفرّد”،‭ ‬الذي‭ ‬“يأخذ‭ ‬شكلّ‭ ‬افتراض‭ ‬مفاده‭ ‬أنَّ‭ ‬كلَّ‭ ‬شخص‭ ‬ينتمي‭ ‬بشكل‭ ‬رئيس،‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬الأغراض‭ ‬كلّها،‭ ‬إلى‭ ‬مجموعة‭ ‬واحدة‭ ‬فقط‭ ‬لا‭ ‬أقل‭ ‬ولا‭ ‬أكثر”‭ ‬‭(‬‭ ‬أ‭.‬سين،‭ ‬ص‭ ‬55‭)‬‭.‬

يُقرأ‭ ‬ذلك،‭ ‬وبمنظار‭ ‬متعاكس،‭ ‬على‭ ‬أنّ‭ ‬الاختزالية‭ ‬التي‭ ‬“تتجاهل‭ ‬الهوية”،‭ ‬ولا‭ ‬تكترث‭ ‬بالأبعاد‭ ‬المختلفة‭ ‬للإنسان،‭ ‬وفق‭ ‬منطق‭ ‬“الولاء‭ ‬المفرد”،‭ ‬تستحق‭ ‬منّا‭ ‬كلّ‭ ‬الاهتمام‭. ‬ولم‭ ‬يستبعد‭ ‬أمارتيا‭ ‬سين‭ ‬من‭ ‬رؤيته‭ ‬ما‭ ‬قدمه‭ ‬المنظر‭ ‬الأميركي‭ ‬صموئيل‭ ‬هنتنغتون‭ ‬الذي‭ ‬تحدث‭ ‬عن‭ ‬صراع‭ ‬الحضارات‭ ‬انطلاقا‭ ‬من‭ ‬افتراض‭ ‬مفاده‭ ‬أنّ‭ ‬“الناس‭ ‬الذين‭ ‬يصنّفون‭ ‬داخل‮ ‬‭ ‬أقفاص‭ ‬من‭ ‬الحضارات‭ ‬متضادين‭ ‬شيئاً‭ ‬ما،‭ ‬أي‭ ‬أنّ‭ ‬الحضارات‭ ‬التي‭ ‬ينتمون‭ ‬إليها‭ ‬يعادي‭ ‬بعضُها‭ ‬بعضاً. ‬ويكمن‭ ‬وراء‭ ‬فرضية‭ ‬الصدام‭ ‬الحضاري‭ ‬فكرة‭ ‬أكثر‭ ‬عمومية‭ ‬تقضي‭ ‬باحتمال‭ ‬أن‭ ‬يُنظر‭ ‬إلى‭ ‬الناس‭ ‬على‭ ‬أنّهم‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬حضارة‭ ‬واحدة”‭ ‬‭(‬أ‭.‬سين،‭ ‬ص‭ ‬84‭)‬،‭ ‬وهذا‭ ‬هو‭ ‬عين‭ ‬الاختزال‭ ‬المقيت‭ ‬في‭ ‬نظر‭ ‬أمارتيا‭ ‬سين،‭ ‬لأنّ‭ ‬الأمور‭ ‬ترتدّ‭ ‬إلى‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬المفاعيل‭ ‬منها‭ ‬ما‭ ‬هو‭ ‬سياسي‭ ‬خالص،.. ‬إذ‭ ‬أنّ‭ ‬المعركة‭ ‬الحاسمة‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬تعلن‭ ‬ضدّ‭ ‬تسييس‭ ‬الدين،‭ ‬الذي‭ ‬“لا‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬النمو‭ ‬السريع‭ ‬للإسلام‭ ‬السياسي‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يتمثل‭ ‬كذلك‭ ‬في‭ ‬النشاط‭ ‬العارم‭ ‬الذي‭ ‬يعمل‭ ‬به‭ ‬تسييسُ‭ ‬الأديان‭ ‬الأخرى‭ ‬‭(‬كما‭ ‬هي‭ ‬الحال‭ ‬في‭ ‬توسيع‭ ‬المدى‭ ‬السياسي‭ ‬للمسيحية‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬المولودون‭ ‬الجدد،‭ ‬والتطرف‭ ‬اليهودي،‭ ‬أو‭ ‬في‭ ‬حركة‭ ‬هندوتفا‭ ‬الهندوسية‭)‬‭.. ‬ومن‭ ‬ذلك‭ ‬مثلاً‭ ‬“زحف‭ ‬التحول‭ ‬إلى‭ ‬الشريعة‭ ‬في‭ ‬إندونيسيا”،‭ ‬كما‭ ‬وصفه‭ ‬العالم‭ ‬الإندونيسي‭ ‬شافعي‭ ‬أنور‭ ‬بصورة‭ ‬تدعو‭ ‬إلى‭ ‬الفَزَع،‭ ‬ليس‭ ‬تطوراً‭ ‬للممارسة‭ ‬الدينية‭ ‬فقط،‭ ‬بل‭ ‬يدخل‭ ‬فيه‭ ‬انتشار‭ ‬لتطلعات‭ ‬اجتماعية‭ ‬وسياسية‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬كبيرة‭ ‬من‭ ‬التشدد‭ ‬في‭ ‬بلد‭ ‬اشتُهر‭ ‬تقليدياً‭ ‬بالتسامح،‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬التنوع‭ ‬الثقافي‭ ‬الغني”‭ ‬‭(‬إ‭.‬سين،‭ ‬ص‭ ‬123‭)‬‭.‬

فـ”كلّ‭ ‬الأشياء‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬واحد‭. ‬هناك،‭ ‬كنّا‭ ‬نتفرج‭ ‬على‭ ‬تكامل‭ ‬الوعي‭ ‬الإنساني،‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬العصور‭ ‬الحجرية‭ ‬وحتى‭ ‬مكاسب‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭. ‬كلها‭ ‬كنا‭ ‬نعاينها‭ ‬مرصوفة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬بعضها

ويعتبر‭ ‬أمارتيا‭ ‬سين‭ ‬أنّ‭ ‬تجاوز‭ ‬هذه‭ ‬الاختزالية‭ ‬الخانقة‭ ‬لإشراقات‭ ‬طمستها‭ ‬القوى‭ ‬المتعددة‭ ‬التي‭ ‬تسكن‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الأشكال‭ ‬والضروب‭ ‬ينبني‭ ‬على‭ ‬إرادة‭ ‬ثقافية‭ ‬قوية‭ ‬تستطيع‭ ‬أن‭ ‬تعبد‭ ‬طريقها‭ ‬برؤية‭ ‬تستمد‭ ‬قوتها‭ ‬من‭ ‬الحرية‭ ‬المسؤولة،‭ ‬والنقد‭ ‬الذاتي،‭ ‬والإيمان‭ ‬بأنّ‭ ‬الهوية‭ ‬ليست‭ ‬مشروعا‭ ‬ناجزا‭ ‬ومكتملاً‭ ‬ينزل‭ ‬علينا‭ ‬من‭ ‬علٍ،‭ ‬وإنما‭ ‬هو‭ ‬صناعة‭ ‬مستقبلية‭ ‬بامتياز‭.‬

يحدونا‭ ‬الأمل‭ ‬حسب‭ ‬منطق‭ ‬أمارتيا‭ ‬سين‭ ‬في‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬هذه‭ ‬الهوية‭ ‬الطفولية‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬تنضج‭ ‬بعد،‭ ‬ولم‭ ‬يستو‭ ‬عودها،‭ ‬في‭ ‬ظلّ‭ ‬عولمة‭ ‬قاهرة‭ ‬وعابرة‭ ‬للزمن،‭ ‬وفي‭ ‬ظلّ‭ ‬شركات‭ ‬متعددة‭ ‬الجنسيات‭ ‬يحكمها‭ ‬منطق‭ ‬حديدي‭ ‬لا‭ ‬يلتقط‭ ‬غير‭ ‬ذبذبات‭ ‬إذاعات‭ ‬وفضائيات‭ ‬الوثن‭ ‬الجديد‭ ‬“المال”‭.‬

على‭ ‬هدي‭ ‬هذا‭ ‬التمشي،‭ ‬يسعى‭ ‬المفكر‭ ‬الإيراني‭ ‬الأصل‭ ‬“داريوش‭ ‬شايغان”‭ ‬إلى‭ ‬معالجة‭ ‬مسألة‭ ‬الهوية‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬العصر،‭ ‬من‭ ‬جهة‭ ‬كونها‭ ‬حاضرة‭ ‬فيه‭ ‬بقوة‭ ‬التاريخ،‭ ‬فـ”كلّ‭ ‬الأشياء‭ ‬كانت‭ ‬حاضرة‭ ‬في‭ ‬زمن‭ ‬واحد‭. ‬هناك،‭ ‬كنّا‭ ‬نتفرج‭ ‬على‭ ‬تكامل‭ ‬الوعي‭ ‬الإنساني،‭ ‬من‭ ‬وعي‭ ‬العصور‭ ‬الحجرية‭ ‬وحتى‭ ‬مكاسب‭ ‬القرن‭ ‬الحادي‭ ‬والعشرين‭. ‬كلها‭ ‬كنا‭ ‬نعاينها‭ ‬مرصوفة‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬بعضها،‭ ‬وكأنّ‭ ‬روح‭ ‬الحداثة‭ ‬استعادت‭ ‬كافة‭ ‬أطوار‭ ‬الوعي‭ ‬البشري‭ ‬في‭ ‬ذاكرة‭ ‬أقرب‭ ‬ما‭ ‬تكون‭ ‬إلى‭ ‬الملحمة‭ ‬العظمى‭. ‬‭(‬داريوششايغان،‭ ‬تزامن‭ ‬الثقافات‭ ‬المتنوعة،‭ ‬فوضى‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬هوية،‭ ‬مجلة‭ ‬قضايا‭ ‬إسلامية‭ ‬معاصرة،‭ ‬ص103‭)‬‭.‬

غير‭ ‬أنّ‭ ‬هذا‭ ‬الشكل‭ ‬من‭ ‬الهوية‭ ‬معرض‭ ‬كذلك‭ ‬إلى‭ ‬هزات‭ ‬من‭ ‬داخله،‭ ‬تعتمل‭ ‬فيه‭ ‬مشكلة‭ ‬قوى‭ ‬جوانية‭ ‬تتسرب‭ ‬إليه‭ ‬من‭ ‬“نواقص‭ ‬عديدة‭. ‬لهذه‭ ‬الحضارة‭ ‬تصدّعات‭ ‬وأخاديد‭ ‬تتربص‭ ‬فيها‭ ‬مخلوقات‭ ‬شيطانية‭. ‬الافتقار‭ ‬إلى‭ ‬الوجد‭ ‬والحيوية،‭ ‬والانسلاخ‭ ‬عن‭ ‬العواطف‭ ‬الدينية‭ ‬التقليدية،‭ ‬حالات‭ ‬توطّئ‭ ‬الأرضية‭ ‬للخيال‭ ‬كي‭ ‬يصول‭ ‬ويجول‭ ‬بأغرب‭ ‬صور‭ ‬وأكثرها‭ ‬وهماً”‭ ‬‭(‬‭ ‬داريوششايغان،‭ ‬ص‭ ‬107‭)‬‭. ‬وهي‭ ‬صفات‭ ‬منتشرة‭ ‬في‭ ‬فضاء‭ ‬هذه‭ ‬الحضارة،‭ ‬إنّها‭ ‬“الحضارة‭ ‬الجديدة‭ ‬الفارغة‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬خيال‭ ‬أخلاقي،‭ ‬ومن‭ ‬أيّ‭ ‬قفزة‭ ‬شعورية‭ ‬أو‭ ‬قيم‭ ‬جديدة،‭ ‬بوسعها‭ ‬قلب‭ ‬معنى‭ ‬الوجود‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب”‭ ‬‭(‬داريوششايغان،‭ ‬الهوية‭ ‬المركبة،‭ ‬هوية‭ ‬بأربعين‭ ‬بعدا،‭ ‬ص‭ ‬113‭)‬‭.‬

استئناساً‭ ‬بهذه‭ ‬الرؤى‭ ‬المختلفة‭ ‬التي‭ ‬ننظر‭ ‬إليها‭ ‬بحسبانها‭ ‬في‭ ‬نصوص‭ ‬نتكئ‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬تقديم‭ ‬قراءة‭ ‬جديدة‭ ‬لمفهوم‭ ‬الهوية‭ ‬كمنحى‭ ‬فلسفي‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يقطع‭ ‬مع‭ ‬سؤال‭ ‬“ما‭ ‬هو؟”‭ ‬بحمولته‭ ‬الأنثروبولوجية،‭ ‬وتحت‭ ‬مظلة‭ ‬براديغم‭ ‬الذات‭ ‬الواعية‭ ‬والناقدة‭ ‬والتاريخية،‭ ‬والارتباط‭ ‬بسؤال‭ ‬“من‭ ‬هو؟”‭ ‬بمنعه‭ ‬الفلسفي‭ ‬المتصل‭ ‬ببراديغم‭ ‬اللغة‭ ‬الذي‭ ‬فتحت‭ ‬الأبواب‭ ‬جهة‭ ‬التأويل‭ ‬بمكاسبه‭ ‬الرمزية،‭ ‬والمكسب‭ ‬الأكبر‮ ‬‭ ‬يتمثل‭ ‬في‭ ‬إزاحة‭ ‬السؤال‭ ‬من‭ ‬مجال‭ ‬الماضي‭ ‬إلى‭ ‬أفق‭ ‬المستقبل. ‬ربَّ‭ ‬إزاحة‭ ‬قد‭ ‬نكتشف‭ ‬فيها‭ ‬مدى‭ ‬هشاشة‭ ‬هويتنا‭ ‬بالنظر‭ ‬إلى‭ ‬المنسوب‭ ‬العالي‭ ‬من‭ ‬كمية‭ ‬الطفولة‭ ‬التي‭ ‬تحوزها،‭ ‬ولكي‭ ‬نصل‭ ‬إلى‭ ‬مرتبة‭ ‬الرشد،‭ ‬لعلنا‭ ‬نبدأ‭ ‬في‭ ‬التخلص‭ ‬من‭ ‬العنف،‭ ‬والكره،‭ ‬والاضطغان،‭ ‬والاختزالية‭.. ‬وغيرها‭ ‬من‭ ‬مثالب‭ ‬الهوية‭ ‬الطفولية‭..‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.