الْمَوْؤُودَةُ

الأربعاء 2019/05/01
 لوحة حسين جمعان

تضيق نفسك شيئا فشيئا، ينتابك دوار شديد، تتكئين على حائط المطبخ بيد، وبيدك الأخرى، التي ما زالت ملطخة ببقايا عجينة الخبز، تتحسسين أسفل بطنك الصغيرة المنتفخة في غير أوانها. تترامى إلى مسامعك صيحات الأطفال العائدين من المدرسة وهم مبتهجون فرحون ببداية موسم دراسي جديد، تقفين برهة على هذه الحال، دقات قلبك المتسارعة وأنفاسك المتقاطعة تحدث سمفونية لا يسمعها إلا أنت، والبيت خال إلاّ منك. ينتابك الغثيان من جديد، تسقطين على الأرض متكئة على يديك وركبتيك، تحاولين النهوض، لكن هيهات، فقد خارت قواك وضعفت، والكلّ تخلّى عنك اللحظة، حتى من نفسك أنت، صرت بلا سند، بلا جسد، وحدها أنفاسك المتعالية تؤنس خلوتك، والقيء يفاجئك .. فيغمى عليك..

****

ها أنت تتوسطين زميلاتك وزملاءك، بعد أن طال تدافعكم كي يأخذ كل منكم موقعا يظهر فيه جنب أستاذكم، ضحكاتكم تتعالى فترددها معكم أرجاء القاعة، مزهوّة كنت بلباسك الوردي، حاضنة بذراعيك محفظتك في حنوّ، ووجهك الضحوك يُبِين عن سرور ونشوة بهذه اللحظة. السنة الدراسية تشرف على الانتهاء، لم يبق منها سوى هذه اللحظات التي تقضينها في توديع صديقاتك وأصدقائك، قلبك الصغير امتلأ فرحة وحبّا، تترنّحين في أرجاء الساحة، كيف لا وأنت التي صفق لها الجميع واقفين، متوّجين إيّاك بوسام التفوق، داعين لك بالتوفيق في مسار دراسي ترينه حلمك الأبدي.

تودّعين الكلّ والكلّ يودّعك، على أمل لقاء تَريْنَه قريبا. تتركين أسوار المدرسة خلفك، متجهة رفقة صديقاتك صوب بيتكم الذي لم يبعد إلا بضعة أمتار، تهمسين  في أذن صديقتك أمرا فتضحكان، وبين الفينة والأخرى تختلسين النظر إلى أحد الفتيان الذين يسيرون في الرصيف المقابل. الأمر أشبه بفرحة العيد، كل شيء يبعث على البهجة والسرور، الجوّ كان لطيفا رغم برودة المساء، والشمس تجري لمستقر لها، باعثة آخر أشعتها لهذا اليوم.

*****

تمشين على استحياء، فلا تكادين ترفعين عينيك لرؤية موضع قدميك، متوجهة نحو أمك في أقصى البهو، دون أن تعيري أي اهتمام لباقي الجالسين، تأخذين مكانك جنبها، وتربت هي على كتفك في حنوّ. وأبوك يقول، وشبه تلعثم يأسر لسانه “الخير يا بنيتي .. الخير للمرأة في بيت زوجها، وأنت تعرفين أني ما أريد لك إلا الخير..”، تتوالى الكلمات بين شفتي أبيك الذي ما كنت يوما تتصورين أنه قد يتخلى عنك بهذه الوقاحة، فهو الذي طالما يشجعك على التعلم والدراسة، ويتباهى بك أمام أفراد عائلتكم الكبيرة في كل مناسبة تجتمعون فيها “ابنتي عائشة الله يرضى عليها، حازت كعادتها على المرتبة الأولى هذه السنة، وستتابع دراستها في أرقى الثانويات بجهتنا، أنا أعرف أنها ستصير مهندسة يوما ما، أو شخصية ذات شأن عظيم كوزيرة بفرنسا مثلا”، ويضحك ملء فمه، ويضحك معه الجميع.. وتقاطعين أنت ضحكاتهم وتصرخين في براءة أنك ترغبين في أن تصيري كاتبة مشهورة مثل أحلام مستغانمي أو نوال السعداوي أو إليف شفق اللواتي استهوتك كتاباتهن حتى صرت تحفظين مقاطع منها، وتكون لك كتب كثيرة ويعرفك الجميع..، ترتفع ضحكاتهم مرة أخرى، ويستمرّ أبوك في تباهيه بك مردفا: أليست إحدى وزيرات فرنسا أصلها من الجنوب المغربي، ثم إن ابنتي عائشة ستصير أحسن منها فتذكروا إني معكم من المتذكرين.

 لكنك اليوم ترينه قد نسي وعده، وخانته ذاكرته فلم يعد يرى فيك إلا امرأة لا يحق لها أن تتجاوز عتبة البيت إلا في اتجاه عتبة زوجها، وكلما حاولت إقناعه ينهرك ويتهمك بقلة الحياء، ويردد: أتريدين أن أصير أضحوكة بين الناس ويشمت بي الأعداء، وما أكثرهم، أتريدين أن يقولوا إن ابنة الحاج أحمد تسافر لوحدها بعيدا لسبب تافه هو الدراسة. قولي لي من هذه التي ترينها قد تابعت دراستها خارج البلدة، ثم ماذا أفادت الدراسة شباب البلدة الذين قضوا خلفها سنين لو قضوها في غير ذلك لصاروا اليوم رجالا بحق. إنك ستتزوجين قريبا، فإبراهيم صاحب الدكان سبق أن حدثني في هذا الأمر، إنما طلبت منه أن ينتظر، ريثما تكملين دراستك.

تعقبين عليه في عجلة: لكني يا “بابا” لم أكمل دراستي بعد…

يقاطعك والغضب باد على وجهه: بل قد انتهيتِ، فأنا من يقرر متى ستنتهين منها لا أنت ولا غيرك سيقرر مكاني، لقد قلت ما عندي وكفى.

تتدخل أمك وكأنها تسايره في ما عزم عليه، محاولة ثنيه بلطف: لكن ابن إبراهيم مازال في المدينة ولم يعد منذ ماتت أمه، رحمها الله، كما أنه لم يجد بعد عملا رغم أنه حصل على شهادة، فكيف له أن يفكر بالزواج.

أعرف هذا، فمن قال لك إنه يطلبها لابنه؟

ولمن إذن؟ تسأله في استغراب.

لنفسه هو!

تقاطعه في حيرة: لنفسه!؟ ويحك يا رجل! إنه في سنك، وعائشة ما زالت طفلة لم تبلغ بعد السابعة عشرة من عمرها، أجننت..؟

يتأجج وجه أبيك غضبا، قبل أن تنتهي الكلمات من فم أمك قائلا، والكلمات تنقذف بين شفتيه بكل قوة: أنتنّ هكذا دائما، من يفكر في مصلحتكن فقد جنّ فعلا. ما به إبراهيم؟ أليس برجل؟ بل رجل ونصف، بماله وعمله، فقد مرّت ثلاث سنوات على موت زوجته، وابنه الوحيد قد كبر وهو الآن بمدينة الدار البيضاء لا أحد يعلم سره وجهره، الله وحده يعلم. والرجل يعيش لوحده مدة ليست بالقصيرة، وينوي الزواج الآن، ما العيب في ذلك. هو قد قصدني وما أنا براد لطلبه، ثم إنه صديقي، وعائشة لم تعد صغيرة.. انتهى الكلام.

تنكّسين رأسك، وتتسللين نحو غرفتك، لتطلقي لنفسك عنان البكاء، فتحمرّ عيناك ويبتل خداك، وقلبك الصغير يعتصر ألما وشوقا، ألم على جور أبيك الذي لا أحد يستطيع أن يخلصك منه، وشوق إلى أصدقاء فارقتهم على حين غرة. تراهم الآن يأخذون أماكنهم في فصول الدراسة، يُسِرّون فيما بينهم أحاديث، ويغمز بعضهم بعضا في غفلة من أستاذهم. ومكانك أنت يا عائشة، من يملؤه؟ أيظل شاغرا؟

أنت الآن في بيت زوجك، ربة بيت صغيرة، لزوج كبير، زوج لم تعرفي عنه سوى أنه في سن أبيك وصديق له، وصاحب الدكان الوحيد في بلدتكم، لا تكادين ترينه إلا في آخر الليل، بعد أن يأكل كل أهل البلدة ويشربون ثم ينامون، حينها فقط يغلق دكانه ويحضر إلى البيت في تعب وضجر، تأكلان عشاءكما في عجلة، تسافر يده بين وجهه والخوان، ونظراته ثابتة على شاشة التلفاز، رغم أنه لا يفهم من ذلك إلا ما تظهره الصور، وإن تحدث معك، فلا يعدو أن يكون حديثه توضيحا واستفهاما مقتضبا عمّا لم يفهمه مما يقال ويبث على التلفاز. يمسح يديه ويقف، وأنت ما تزالين تمضغين في تثاقل لقمتك الثانية، يوجه إليك أمرا: أيقظيني باكرا، على الساعة السادسة تحديدا، فقد تأخرت اليوم، والخباز لا ينتظر أحدا. سمعت؟ فتومئين برأسك، وينصرف نحو غرفة نومه. تتابعين أكلك لوحدك، كأن شيئا لم يقع، فقد صار كل شيء معتادا، فلا فرحة تنتابك ولا سرور، ولا حسرة ولا خوف، كل شيء بات عندك سيان، قلبك قد جمدت أحاسيسه وخفتت نبضاته مذ سلب منه الحق في التعبير عن رغبته، وذاكرتك توقفت عن التفكير مذ منعت عن القراءة والكتابة، فلم يبق منها إلا بقايا صور من حلم مضى.

*****

عائشة.. عائشة.. أتسمعين.. بدأت أذناك تميزان بعض الكلمات بين خليط من أحاديث نساء لم تعرفي بعد سبب وجودهن، تفتحين عينيك في تثاقل، فترين أختك الصغيرة قابعة أمامك وعيناها الصغيرتين لا تفارقك في جحوظ، تميلين بعينيك يسرة فإذا بأمك وقد أذبل البكاء والحسرة محياها، تمسح بثوب صغير على جبهتك وتقول “على سلامتك بنيتي”. بدأتِ تدركين أن الوضع لم يكن بالمعتاد، تتحسسين نفسك، مستلقية أنت على ظهرك، ويديك مبسوطتان تحت الغطاء، رأسك عليه عصابة شدت إليه أشياء لم تعرفي سرها، ورجلاك مفتوحتان شيئا ما، تحسين ببرودة.. ترتعشين قليلا، وتطلقين نفسا عميقا مثقلا بآهات. تقترب منك النساء والفتيات، بدأت تتعرفين ملامحهن، تتناثر دعواتهن وتهنئتهن على مسامعك، يتخافت الضجيج شيئا فشيئا، حتى خلت الغرفة إلا من أمك وأختك الصغيرة.

تعود أمك من الغرفة المجاورة والفرحة تعلو محياها، تحملها إليك بين ذراعيها ملاكا قد لَفَّتْه في ثوب أبيض مطرز، تحاولين الاتكاء على الحائط قليلا، تضعها بين يديك، تنظرين إليها في حنو وتبتسمين، تقبلينها في هدوء، تقفز أختك الصغيرة على السرير وتقول “أنا من سأسميها.. سأسميها ماذا؟ إنّي سميتها مريم!”، تبتسمين في وداعة، وتعيدين نظرتك إلى طفلتك الصغيرة التي ترين فيها حلمك الجديد.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.