امرأة النور وغلام زمان

الخميس 2016/09/01
لوحة: بشرى مصطفى

ما الذي فاتني؟ الطفولة؟ إنها أكذوبة الشعر.

لما كبرت وقرأت هذا الكلام، وتأكدت يومها أنه محتاج لمراجعة، لأنني عرفت في لحظة زمن، وكنت يومها بين الصحو والمنام، أن الطفل أب الرجل، وكان عليّ يومها أن أقطع الزمن وأعود إلى هناك.

جميزة تمد فروعها للماء. أمّ وأنا ابنها. وقت بارد من يناير. ونهر صغير يحمل جثث الغرقى، رجالًا ونساء، وفقر دكر يشبه تلك الأيام من أربعينات قرن مضى.

أضيق، وأصرخ وأنا كبير: ارفعوا عن صدري ثقل الأيام وما فات، فأنا غدوت كهلًا، ولا قدرة على الحمول.

والطفل الذي حمّلوه اسمي جاء إلى الدنيا بعد موت حاشد، لذا أطلقوا عليه في الدار «ابن موت».

أطفال ماتوا تباعًا، موتًا عجبًا، وصغار السن. حصدهم الموت مثل شنابر الخيار، ووارتهم أم محزونة كانت تحمل اسم أمّ النبي عليه السلام، وتشد رأسها بطرف طرحة سوداء وتطلق ذلك العديد حتى رزقها الله بولد حمل اسمي، وملامحي، وحظي من الدنيا.

أمّ ولا كلّ الأمهات. سماحة وطيبة وجدعنة مئة رجل.

وارت في التراب سبعة صبيان، وبنات ثلاثا، وأنت جئت مسك الختام. من يومها عرفت اللعنة، وغيروا عتبة الدار بدار أخرى، خائفين من السحر، وحسد الجارة، واشتعلت التعازيم والرقى، سخطوني بنتًا، وألبسوني ثوب البنات، وحكموا على أمي أن تغادر الدار لدار ثانية، وألبسوني ثوب البنات، وأطلقوا عليّ اسم «سعيدة». أتممت عامين وأنا في شكل بنت حتى جاءت صاحبة لأمّي ومدت يدها دون أن تحسب حسابًا ولامست شيئي الصغير، عندها صرخت الجارة: يا نهار أسود، البنت لها بتاع.

ضجت الدار بالضحك، وانهتك سري، وتحولت بقدرة قادر من سعيدة لسعيد، ومن بنت بخصلة شعر سوداء، ولمعة عين رباني، وبسمة تنور مثل شمس الصباح إلى ولد ذكر، فصيح اللسان، خفيف الدم.

كنت أجلس على شجرة أيامها، شجرة جميز عتيقة أرتل آيات الذكر الحكيم، وكانت جدتي «هانم» يسحبها الصوت حتى الجميزة فتصيح بأعلى صوتها: – لبنى يقرأ المصحف.

ثم تسحبني حتى الغيطان وتلقنني أول المعارف، وأول الحكم، وأسمع صوتها مثل جريان الماء: لولا النور ما كان الظلام، هي حكمة ربك نعرف الحلو من الوحش، وتحدق في عيني وتقول: الرحمة بين الناس عدل والحياة أخرتها الموت، وتواصل: اعتمد على فطرتك في فهم الأمور والزرع في الأجاويد يشيل بعضه.

نذرت أمي لكي تبعد عين الشر عني، وحتى لا ألحق بأخواتي فرضت على الدار نذرها لسيدي «إبراهيم الدسوقي» ذلك الذي أمر التمساح أن يعيد الغلام الذي خطفه من شاطئ بحر النيل، فأعاده.

وهكذا في كل مولد يأخذوني للزيارة والتبريك عند سيدي صاحب المولد الشهير بالزحمة والبهجة.

كان أيامها عندي 8 سنين، أسير يدي في كف عمي، وزحمة المولد مثل يوم الحشر. جلابيب بلدي وجلابيب أفرنجي، طواقي وعمم وشيلان وتلافيع وأناشيد ومواويل تصدح بالورد والشفاعة، ونسوة مكبوسات بالرحمة ورائحة الشهوة تكبس الأنفاس، والأصوات تأتي من بعيد:

مدد يا دسوقي مدد.. مدد على طول المدد.

الليل بلا آخر، تنورة كهارب النور، والإنشاد حتى عنان السماء.

فجأة وجدت نفسي وحيدًا، لا أعرف كيف انفلتّ من كف عمي؟

رأيت نفسي في ساحة بلا أخ، ولعل المولد ليس بدليل، وأنا ضائع في زحمة الخلق مثل غريب، والخيام شبه واحد.

بكيت عجزي وقلة حيلتي، والميدان يضحك بالموسيقى، وصخب الأصوات، والكهارب تحيل الليل إلى نهار.

كأنني أطل على حلم، أو آتي من الجنة!

جاء رجل على مسرح وصاح في الجميع: – قرب قرب.. شاهد وشوف.. مرة واحدة في حياتك.. ست النور.. ست البهجة.. ملها سن مثيل.. ست بتنور لوحدها.. بتنور ببركة الدسوقي.

شدني الكلام وقربت. ورأيتها تخرج من وراء الستارة كملاك، مثل بدر 14، كان عريها حرًا، وبدنها الأبيض مثل فلقة القمر، وضع الرجل المصابيح على جسدها فأنارت الدنيا بنور تاهت مني مصادره، كأنها معجزة وأنا أخرج من متاهة الوقت وأتبع حتى خط آخر العمر، وأسمع صدح الموسيقى حتى أصبحت هذا الكهل أشيب الشعر الذي قرأ يومًا عن الرجل الذي اقترح على نفسه مهمة رسم العالم فرسم الفضاء بصور الممالك والجبال والخلجان والسفن والأسماك والمنازل والأدوات والكواكب والخيول والنمور، وقبل أن يقضي نحبه اكتشف الرجل متاهة الخطوط الصبور التي دأب رسمها إنما كانت هي وجهه.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.