انتصار‭ ‬المعنى

الخميس 2015/10/01

كنا نعتقد منذ قرون خلت أن الميثيولوجيا، كمرحلة من مراحل البشرية، قد انتهت وخبا ألقها، لكن على ما يبدو أن هذا الاعتقاد محض وهم، لأننا نحياها في واقعنا العربي‭.‬ أكاد أن أرى أن اعظم ميثيولوجيا منذ بدء الخليقة إلى حد هذه اللحظة هو هذا الربيع العربي الذي ظفرنا منه بأدوار هزلية على ركح المسرح الدولي‭.‬

لم يكن جلجامش بمغامرته البطولية أشد بطولة من الشهيد محمد البوعزيزي‭.‬ ولم تكن انتفاضة المهمشين والمنبوذين والمحرومين مماحكة أو تسلية أو رهانا فجاً على الاستئثار بعشبة الأبدية‭.‬ الخروج إلى الشارع لم يكن محايثا لخروج النص عن أدبيته، فلم يكن الخروج إلى الساحات مناطا بنص ما‭.‬ كانت عربة البوعزيزي وحدها النص الذي تلقفه الصحفي في القناة الفضائية، والسياسي المتابع عبر الأثير، ليخطب فينا أو ليزج بالحدث في مرمى أطروحته‭.‬ في حضم هذه الميثيولوجيا التي انبنت على مقولة (فن موت الواقع) نكتب لنهدم قداساتهم ونلقي بتعاليمهم في سلال النفايات‭.‬نكتب لنعيد إلى الأشجار خضرتها، وللينابيع مياهها، وللنجوم أنوارها، وللحياة مذاق عذريتها الأولى‭.‬لسنا أبناء السماء كما يشاع، ولا أنبياء ولا شياطين ولا الهة ولا ملائكة، إنما بشر جبلوا من طين الحلم‭.‬ بشر باجنحة نورانية لا تحلق إلا عاليا وبعيدا في كل اسم وكل شئ وكل فاصلة‭.‬ نكتب لنذكر القتلة المرتزقة من الساسة الحمقى والكتاب الكتبة ‭.‬ القصيدة ليست للتسلية والتنزه‭.‬ ليست ألبوم صور، ولا ديكورا من علامات وإشارات‭.‬ ليست ثلاجة موتى أو قبرا معلقا في السماء بدبوس أو مسمار‭.‬ القصيدة تكمن فيما يمحى منها‭.‬ نكتب بالممحاة، بالمشرط، لا لكي ننال رضاهم فنظفر بالتهاويل والتصفيق والزغاريد، بل لنلعن ونلقى الإقصاء والنسيان والاهمال والشتائم المباركة‭.‬ أن تكون شاعرا هو أن تخلع قلبك باستمرار وتطعمه لفقراء العالم، الذين لا بد أن يزحفوا من الأرض قاطبة في اتجاه وول ستريت‭.‬ لان الخطاب الجمالي يتراجع على وقع أظلاف الخطاب السياسي الذي يحتكر القبح المتجلي في اشكال من الحروب التي لا تحصى‭.‬ ههنا ينهض الخطاب الشعري الجمالي لينتصر للمعنى في زمن الانهيارات الكبرى، للقيم العظمى ينهض، لا ليمتدح أو ليخطب في الناس، وإنما ليكشف ويعري ويفضح‭.‬ ينهض ليشعل الظلام ويسحب البساط من تحت أقدام المرتزقة من فقهاء ورؤساء وساسة ومنظمات‭.‬ الشعر لا ينتصر الا للانسان وقضاياه‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.