انغلاق وانفلات
الحديث الصاخب والدائرة رحاه دائماً عن “الثقافة والفكر”، وخطاب تجديدهما في الوطن العربي، ومدى مكانتهما ودرجة إشكاليتهما، يظل لا قيمة له ولا معنى، إذا لم يسبقه رصد حقيقي لمفردات المشهد الثقافي والفكري ككل ..يحدد ما مدى المكانة التي وصلت إليها الثقافة والفكر العربي، وما هو هذا الخطاب الثقافي والفكري الذي ينبغي تجديده؟
والحقائق التي ينبغي أن تكون واضحة في البداية، هي أن الثقافة والفكر في أي مجتمع من المجتمعات العربية مهمتهما الحفاظ على الموروث والمخزون الحضاري، وعلى الهوية العربية الشاملة ..كما أن هويتنا الثقافية كعرب تقوم على الحقائق التالية: تاريخياً نحن جزء من الثقافات والحضارات المتنوعة التي نبتت وترعرعت ببلادنا عبر العصور ..وجغرافياً نحن أيضاً جزء من ثقافة وحضارة العالم المحيط بنا.
ومن ثم علينا الاعتراف بتعدّد وتنوع الخطابات الثقافية والفكرية في المشهد الثقافي العربي، ذلك المشهد الذي يضم ثقافات تبدو متنافرة متناحرة، تتأرجح بين ثقافة تقليدية محافظة إلى حد الانغلاق، وثقافة حداثية متغربة إلى حد الانفلات.
وبين هذين القطبين تنوع ثقافي هائل لا خوف منه ..إنما كل الخوف من افتقاد الحوار بين هاتين الثقافتين.
ولكن إذا نظرنا إلى الثقافة والفكر بمعناهما الشامل في المجتمع العربي، سوف نجد عدة فجوات تعوق تقدم المسار الحضاري به.
أولاً: الفجوة الثقافية بين الوعود والخطاب الثقافي من ناحية، وبين المتحقق القليل جداً من هذا الخطاب على أرض الواقع.
ثانياً: الهوة أو الاختلال بين البيروقراطية الثقافية والفكرية المتسلطة والمتعالية، وبين خدماتها للوفاء باحتياجات الجماهير مما يؤدي إلى حالة من الاغتراب وعدم المشاركة.
ثالثاً: انتهازية بعض المثقفين الذين تمتد أعناقهم وطموحاتهم إلى المناصب التنفيذية العُليا والوزارات، وبالتالي أصبح هناك تطلع دائم لمسايرة السُلطة وتبرير بعض أخطائها كنوع من التملق والنفاق لتحقيق المراد.
كل ذلك وأكثر أدى إلى وضع مُهين للثقافة والمثقفين في أغلب البُلدان العربية، بسبب علاقتهم بالنُظم السياسية التي يمارسون من خلالها أعمالهم الثقافية والفكرية، ومن ثم لا يستطيعون النهوض ومواكبة الحركة الثقافية العالمية، لأن تلك النُظم السياسية غلبت فيها السلطوية والشُّمولية على النُظم الليبرالية.
لذا ..لا بد من توافر نوع من التوازن السياسي والاجتماعي، لضمان استقرار الأوضاع وبالتالي القدرة على التواصل والتفاعل بين كل التيارات والحركات الثقافية، ومد الجسور للتغلب على العقبات والانكسارات، وأن تؤمن النُخب الثقافية والفكرية أن تجديد الخطابين الثقافي والفكري لمواكبة كل جديد وعقلاني بات أمراً عاجلاً.
ولكن المؤسف أن غالبية الوزارات والمراكز الثقافية والفكرية في الوطن العربي تعزف منفردة كلٍ على حدة، لا اهتمام بالتواصل وتحديد الرّؤى مع الآخر، أو حتى بالمهتمين بالشأن الثقافي والفكري ذاته! ولا تبالي بتجديد خطابها الثقافي والفكري الشامل لكي ينفتح على العالم.
لذا أضحت الثقافة العربية الأقل تأثيرا في الحياة الفكرية والروحية والإنسانية لدى المهتمين بها في الأمة العربية والعالم أجمع.
إن استقراء عمل وزارات الثقافة في الوطن العربي، يؤكد على انقسامها إلى قسمين: وزارات ثقافية لنخبة ملتحقة في معظمها بالثقافة الغربية، تحت غطاء العصرية والتنوير ..وخطابها ليبرالي منفتح على الثقافات الأخرى، لكنه بعيد عن رجل الشارع، لبعده عن مسارات الحياة اليومية للمواطن العربي البسيط، فلا هي بسّطت من خطابها الأكاديمي للمهمشين، ولا آمنت بأن الصراع ليس صراعاً أيديولوجياً قحطاً بين معسكر علماني والآخر ديني كما يصوره البعض، بل هو صراع بين العلم والجهل، بين الإبداع والاجتهاد والتخلّف والجمود.
ووزارات ثقافية أخرى تغلغل وتأصل فيها المد الأصولي وسيطر على عقول أغلب من فيها، خطابها ديني يتأرجح بين التشدد والمحافظة أحياناً يدعوا إلى الانغلاق بهدف الحفاظ على الهوية الدينية ..وتتناحر دائماً من خلال العقائد والمذاهب و… والخ .فلا هي آمنت بالتنوير الحقيقي والإبداع والتحليق خارج السرب، والطرح الثقافي الجيد الشامل ..ولا هي أفسحت الدروب للباحثين عن شعاع نور وأمل في إيجاد وبعث مشروع نهضوي يرتقي بالعقل الجمعي للأمة العربية.
وعلى ضوء ما سبق فالقضية في حقيقتها قضية ثقافية شاملة ..فكراً وعلماً وقيماً روحية وعاطفية وأخلاقية، وعلاقات اجتماعية وعدالة وحرية.
والشيء بالشيء يذكر ..إن افتقاد الحوار بين الثقافات المتنوّعة، داخل الأمة الواحدة ..يحرمها من اكتشاف المساحات المشتركة بينهم، ويقتل التنوع في الوقت ذاته، ومن ثم عدم الاعتراف بالآخر، واتهامه بالجهل والتخلف وعندئذ تشتعل الحرب الأهلية الثقافية بين المتناحرين.
وعلى سبيل الذكر عندما اشتعلت الحرب الثقافية والفكرية في مصر في نهاية حقبة التسعينات من القرن الماضي، بين مؤسستين ثقافيتين مختلفتين لا حوار ثقافيّ أو فكريّ بينهما على الإطلاق، بسبب نشر رواية ” وليمة لأعشاب البحر ” للكاتب السوري حيدر حيدر ..الأولى مؤسسة ثقافية متحررة هي وزارة الثقافة، والثانية مؤسسة ثقافية دينية محافظة هي الأزهر الشريف، لم تسع أو تبحث أيّ من المؤسستين على نقاط تلاق يمكن من خلالها الكف عن المهاترات والهرطقات التي حدثت آنذاك، أو مد الجسور لبناء حوار وخطاب ثقافي مستنير وتنويري يقرّب وجهات النظر ..ويبتعد عن التمسح في عباءة الدين، أو اتهام الآخر بالانفلات والتحرر والعمالة والخيانة.
إنما أدى ذلك الصراع الثقافي والفكري وقتها إلى خروج بعض طُلاّب الجامعات الأزهرية في مظُاهرات ومُصادمات ضد النظام الحاكم في مصر ..أعطى ذلك الحُجّة إلى قيام النظام الحاكم بتجميد حزب العمل الاشتراكي آنذاك برئاسة المرحوم المهندس إبراهيم شكري، وإلى غلق جريدة “الشعب” لسان عام الحزب، بسبب مقال محمد عباس بالجريدة بعنوان “من يبايعني على الموت” ضد الرواية، وبسبب سيطرة الإسلاميين عليهما (الحزب والجريدة) ..مما ضرب الحياة الحزبية بكل ما فيها في مقتل.
خُلاصة القول، على الجميع أهل الثقافة والمثقفين إدراك المشكلة والكارثة الكبرى ..وهي أن الحوار يكاد يصبح مستحيلاً بين الثقافتين، ثقافة منغلقة ومغموسة في أضابير الماضي، والأخرى منفتحة على العالم بكل آلياتها إلى أبعد مدى، ممّا أدى إلى أن أضحت الثقافة والفكر الشامل في أكثر المجتمعات العربية في معزل عن أيّ مشروع نهضوي حقيقي، ولم يعودا قادران على صياغة وعي الأمة، وتجديد خطابهما المزعوم والذي بلغ من الهشاشة والتحلل والتنابز ما لا يمكن تحمله، أو استيعابه لأنه بلا جوهر حقيقي، أو سعي حثيث ودائم لبناء جسور من التلاقي، والنقد العقلي يؤتي ثماره الإيجابية من خلال الإيمان بحتمية التعايش بين الثقافات المختلفة، للوصول إلى الثقافة الإنسانية الشاملة ككل.