انفتاح السّرد على الذّات

في رواية "الخلّان" لأمين الزّاوي
الاثنين 2019/07/01
لوحة: أنس سلامة

تسرد رواية “الخلّان”، لأمين الزّاوي، حكاية ثلاث شخصيّات تختلف في الدّيانة وتأتلف في حب الوطن، وهي أفولاي رشدي المسلم وليفي النقاوة زمرمان اليهودي وأوغسطين قيران المسيحي، حيث يقدِّم مُنشِئ النّص سِيَر هذه الشخصيّات بوصفها تمثيلاً لحياة الإنسان الجزائريّ الذي تتعدَّد أصوله العرقيّة وتتراكَب ثقافاته الدّينيّة وتتنوَّع نظراته للعالَم، مُفوِّضاً حكْيَ الأحداث والوقائع والأخبار والمعلومات والتّفاصيل السرديّة، التي تُؤلِّف الحكاية- النّواة المُتمثِّلة في لقاء هذه الشخصيّات جميعاً في فضاء وهران وفي فترة زمنيّة تسبق، بقليلٍ، الثّورة الجزائريّة وتُعاصِرها. والرواية من منشورات “ضفاف، بيروت/الاختلاف، الجزائر”، 2019 .

 ولأنّ الحكاية-النّواة تخصّ ثلاث ذوات، وتتعلّق تفاصيلها الكثيرة بها مُجتمِعةً، فإنّ الراوي أفولاي رشدي لا يحتكر فعلَ سرد وقائعها، ولا يُصادِر حقّ الشّخصيتيْن الأخرييْن في أن تقصّا أجزاء منها، تلك التي تكون طرفاً مُباشِراً فيها؛ فهو يمنحها بعضاً من الحريّة في أنْ تُبديَ رأيها في الشخصيّات التي تُصادِقها أو تُصادِفها، وتعرِضَ المواقف التي تتورّط فيها، وتُعرِبَ عن رؤيتها للواقع. وفضلاً عن سرد الحكاية-النّواة، يقتفي أفولاي رشدي، بتوكيلٍ من مُنْشِئ النّص دائماً، وقائع حكايته الخاصّة، وبعض الأحداث والأخبار التي تُشكِّل ماضي ليفي النقاوة زمرمان وأوغسطين قيران، تلك التي يُفترَض أن تَرِدَ على لسانيْهما، وذلك قبل أن يجمعهم القدَر في ثكنةٍ عسكريّةٍ بمدينة وهران.

 ويصبو أمين الزّاوي، من خلال اعتماد السّرد الذاتي الذي يُهيمِن على قصّ الحكاية-النّواة ويكاد يغلُب على سرد الحكاية الخاصّة بكلّ شخصيّة من الشّخصيات الثّلاث، إلى تذويت التّاريخ؛ فهو يتبنّى منظوراً سردياً ذاتياً يضطلع فيه الرّاوي السيرذاتي (narrateur autobiographique) بتعريف المروي له المُفترَض أو القارئ غير المعلوم بإدراكه الخاصّ لبعض الوقائع والشخصيّات التاريخيّة، مثل رؤية أوغسطين قيران لاتفاقية الاستسلام المُوقَّعة بين الداي حسين والجنرال لويس دو بورمون، ونظرة الهواري سويح للاحتلال الفرنسي للجزائر في أعقاب مجازر الثامن ماي 1945، وتقدير نيكول للأب ليون-إيتيان دوفال. ويجتنب، من ثمّ، المنظور السّردي الموضوعي الذي يتجرَّد فيه الرّاوي الغائب العليم بكلّ شيء أو الرّاوي البريء العارِف بظاهر الأحداث والأعمال من ذاتيته المُفعَمة بالخواطِر والأهواء والأحكام التي يثيرها مشهَد أو خبر ما، نظيرَ موقف ليفي النقاوة زمرمان من مرسوم أدولف كريميو الذي منح اليهود الجزائريّين الجنسية الفرنسية عام 1870، حيث يقول “أنا ابن الأهالي وحفيد الحكيم أبراهام النقاوة. أنا واقِفٌ في المكان الخطأ من التّاريخ، في المُعسكَر الغلط، حُشِرْتُ مع القويّ بحُكْمِ مسارِ تاريخٍ ظالمٍ” [الرّواية، ص 139].

حكاية ثلاث شخصيات مختلفة
حكاية ثلاث شخصيات مختلفة

 وكأنّ مُنْشِئ النّص يدعو، تأسيساً على هذا النّمط من السّرد، الذات الجزائريّة إلى أن تنفتح على نفسها؛ فتنصرف إلى تعرية ماضيها، والبوْح بأسرارها، والإفصاح عن أوجاعها وأفراحها، والكشْف عن أيديولوجيتها، والإبانة عن خلجات صدرها، ومُساءَلة تاريخها، ابتغاء التّصالُح مع ذاتها التي تتّسم بالغيرية والاختلاف اللّذيْن لم يحولا دون إثبات مُواطَنتها وتأكيد وطنيّتها والذود عن عدالة قضيّتها؛ فإذا كان الدّين هو الذي يميِّز بين الشخصيّات الثّلاث، فإنّ الإحساس بالجور والقمع والعنصرية هو ما يُوحِّدها ويُعضِّد لُحمتها. إنّه شعور الانتماء إلى الوطن، لا بل شعور الانتماء إلى الإنسان، وإنسانية الإنسان، ذلك أنّ هوى الإنسانية هو الذي حمل كلّاً من أفولاي رشدي وليفي النقاوة زمرمان وأوغسطين قيران، المُنتسبين إلى الوطن دماً (أفولاي الذي وُلِد لعائلة رشدي، وأوغسطين الذي تجري في عروقه دماء رجلٍ من شمال أفريقيا) أو ولادةً بعد لجوءٍ (ليفي الذي وُلِد في قرية الحناية، والذي احتمى جدّه أبراهام النقاوة بحاضرة تلمسان هرباً من محاكم التّفتيش في الأندلس)، على الالتحاق بالثّورة لمُحارَبة المحتل الفرنسي، كما حمل نيكول الكاثوليكية على الوقوف إلى جانب الأهالي من المسلمين. وهو الهوى عينُه الذي دفع الأب ليون-إيتيان دوفال، حقيقةً وتخييلاً، إلى مساندة الثّورة الجزائريّة، وأحمد زبانة وفرنوند إيفتون وموريس أودان، الذين يعترف أمين الزّاوي بنضالهم فيُكرِمهم في عتبة الإهداء، إلى مُقاوَمة الاستعمار الفرنسي.

 وفضلاً عن وَحدة الهوى (الإنسانية التي لا تتعارض، إطلاقاً، مع الوطنية باعتبارها هي أيضاً هوى، ينبني على قيم كوْنية، من قبيل الخير والمحبة والحرية والعدل والمساواة والتّسامُح والسّلام) الذي يُفضي إلى وَحدة العمل (النّضال بالسّلاح أو الرّأي، والمُساندة، والتّعاطُف)، يصطفي مُنْشِئ النّص مدينة وهران مكاناً تجري فيه أحداث الحكاية-النّواة؛ فيجعلُها فضاءً حميماً، تنسج فيه الشخصيّات علاقات وُدٍّ وخُلَّةٍ وأُلْفةٍ وصداقةٍ وأُنْسٍ، وتختفي في أحيائها العتيقة وأزقَّتها الشّعبية، مثل حيّ المدينة الجديدة وحيّ الدّرب وشارع اللاك دوك، الفوارِق الطبقيَّة والاختلافات العرقيَّة والتبايُنات الدينيَّة؛ فتغدو المدينة، حينئذٍ، مركزاً تفد إليه الشخصيّات من الهوامش والأطراف التي وُلِدت أو عملت فيها، مثل قرية حب-الملوك وقرية الحناية ومدينة تلمسان ومدينة ويسترهام في شمال فرنسا، ووَحدةً تتبدّى فيها أحلامها ومغامراتها، ويتجلّى فيها إقبالها على الحياة، وينكشِف فيها عشقها للفن والجمال. غير أنّ وهران؛ هذا الفضاء الذي يمتلئ تسامُحاً وتثاقُفاً وتوافُقاً، والذي أُغرِم به ابن البلد والوافد إليه، ستتحوّل، مع استفحال العنصرية واستشراء الظّلم وظهور تباشير الثّورة، إلى “مدينة الأحقاد والمُفارَقات والعنف” [الرّواية، ص 203].

 يرتضي أمين الزّاوي، إذاً، هذه الوَحدات الثّلاث (وَحدة الهوى، ووَحدة العمل، ووَحدة المكان) دعائمَ للحكاية-النّواة، وفق استراتيجية نصيَّة يغلُب عليها محكيُّ الأفعال الدّال على الحضور الكثيف للرّاوي السيرذاتي، ومحكيُّ الأفكار الدّال على ذاتية الشخصيّة المُتلفِّظة، بينما يطغى الخطاب المُسرَّد (discours narrativisé)، الذي يُصيِّر فيه الرّاوي الأقوال أفعالاً، على محكيِّ الأقوال قليلِ الحضور أصلاً، وينحو الوصف نحواً تعبيرياً يعمد فيه الرّاوي-الواصِف السيرذاتي إلى تقديم المفردات والعلامات المُنتقاة والمُعرِّفة بالموصوف بإيجاز (وصف أوغسطين قيران لحيّ الدّرب، والشاب خوليو الحلّاق مثلاً).

 وهو ما يحيل إلى شغف مُنْشِئ النّص بالحكاية وولَعه بالتّفاصيل السرديّة وافتتانه بالقصّ، حيث يُعنى أمين الزّاوي، في رواياته، أو بعضها على الأقلّ، تلك التي تيسَّر لنا قراءتها أو مُقارَبتها (الرّعشة، والملكة، وقبل الحب بقليل، وحرّ بن يقظان)، بحبْك أحداث الحكايات المُتضمَّنة في نصوصه الرّوائية التي يُؤلِّفها، مُحتفِياً بالسّرد أكثر من التّمثيل والوصف، ومُفضِّلاً، في أغلب الأحيان، النهايات المُقفَلة التي تُسعِفه على التّعبير عن وجهة نظره الأيديولوجية؛ إذ نُلْفيه، في هذه الرّواية، أدنى إلى الوعي المأساوي، حين يجعل مآل الخلّان هو الموت الذي يلاقيه الخليل على يد خليله؛ فبعد استشهاد ليفي النقاوة زمرمان في إحدى المعارك ضدّ الاحتلال الفرنسي قرب الحدود الجزائريّة المغربيّة، أو اغتياله كما يستشفّ أفولاي رشدي “وافقت القيادة على طلبي لأنّها كانت أيضاً ترغب في تقرير ميداني عن أوضاع المجاهِدين في هذه المنطقة، بل ربما كانت لديْها بعض الشّكوك حول طبيعة استشهاد الرّقيب ليفي النقاوة زمرمان، وكأنّ موته مؤامرة من نيران صديقة” [الرّواية، ص 234]، يأتي دور أوغسطين قيران ليلاقي المصير نفسَه على يد أحبّ النّاس إليه، وهو أفولاي رشدي. ولا شكّ أنّ مثل هذا الفعل سيُكسِب الحكاية-النّواة وَحدة أخرى، هي وَحدة المآل أو المصير، المُتمثِّل في الموت؛ موت ليفي وأوغسطين المادّي وموت الإنسانية في ضمير أفولاي.

لوحة: أنس سلامة
لوحة: أنس سلامة

 وإذا كان أمين الزّاوي يُبرِّر، أيديولوجياً، تحوُّل المحبة التي يُفترَض أنّها كانت تجمع المُجاهدين إلى جفاء، والخُلَّة التي كانت تشمل الأصدقاء الثّلاثة إلى كراهيّة؛ فيعزوه إلى التّعصُّب للدّين وتوظيفه لأغراض سياسية، بحيث يعلو صوت الجماعة على نداء الوطن، وتتغلّب فكرة الانتماء إلى الدّين على منطق الإنسانية، فإنّ هذا التّحوُّل ليس مُبرَّراً على الصّعيد السّردي، ذلك أنّنا نتعرّف، بوصفنا مرويّين لهم غائبين، إلى التّخمينات والإشارات التي تُلمِح إلى إمكانِ اغتيالِ ليفي النقاوة زمرمان من منظور ليفي فقط، ونتلقّف، باعتبارنا قرّاء مُحتمَلين، خبر اغتيال أوغسطين قيران من فم أوغسطين نفسه الذي ينوب عن رشدي أفولاي في سرْد أسباب انقلابه من مجاهدٍ أثناء الثّورة على المستعمِر الفرنسي إلى إرهابيٍّ يصدر الفتاوى ويأمر بتنفيذ الاغتيالات في تسعينات القرن العشرين “لقد عاد إلى الجبل لمُحارَبة الجزائريّين، وقد أخذ على عاتقه ترؤس مجموعة ‘جهنم’ التي أصبح قائدها ومُرشِدها، وهي عبارة عن كتيبة متخصّصة في تصفية النّخبة من المثقفين والفنانين والكُتّاب والصّحفيين والأطباء والنّقابيين من الأصوات الديمقراطية، ولا يُنفَّذ حكمٌ باغتيال واحد من هذه المجموعة المثقفة إلّا بإشارته وبموافقة منه، هو من يصوغ الفتاوى وهو من يضع قائمة المطلوبين والمُلاحَقين من قِبَلِ الميليشيات الإسلاميّة لكتيبة (جهنم)” [الرّواية، ص 245].

 هنا، وعلى الرّغم من مقامنا كقرّاء نموذجيّين، بتعبير أمبرتو إيكو، ينبغي لهم احترام الاستراتيجية النصيّة التي وضعها مُنْشِئ النّص، تتكشّف لنا “لاديمقراطية” أمين الزّاوي في إسنادِ الخطاب الأيديولوجي المُتضمَّن في تلفُّظ الرّواة؛ فقد لمسنا انحيازَه إلى خطاب بعينه ومُبارَكته، أو بالأحرى، توظيفَه ذلك الخطابَ لفائدة رؤيته الأيديولوجية، حين أَجْمَلَ المدّة الزمنيّة الفاصِلة بين نهاية نضال الخليليْن أفولاي رشدي وأوغسطين قيران ضدّ المحتل الفرنسي الذي يُصادِف استقلال الجزائر وحدث اغتيال الأوّل للثاني (مع وجود خللٍ وتذبذبٍ في ضبط زمن بعض الأحداث التي شهدتها هذه المدّة، ممّا يشير إلى تسرّع الرّوائي في إنهاء الحكاية-النّواة، وحرصه على إبراز وجهة نظره الأيديولوجية دون تبرير جماليّ) في إحدى عشرة صفحة، هي عدد صفحات الفصل الأخير الموسوم (في عيادة “القاوري”!!)، مُستعجِلاً موتَ أوغسطين الذي بدا صوته الأيديولوجي تعبيراً صريحاً عن أيديولوجيّة مُنْشِئ النّص التي تتلخّص في مُعارضة مُمارَسات الإسلاميّين ومُخالَفة أيديولوجيتهم وإنكار أهدافهم ورفض التّصالُح معهم؛ أيديولوجية ذات مسحة مأساوية انعكست ولا تزال في كتابات مجموعة من المثقفين الجزائريّين عامّة، والرّوائيين على نحوٍ خاصٍّ، الذين عانوا من العنف والإرهاب المنسوبيْن إلى الإسلاميّين.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.