بالونات تتطاير فوق بركا
مَائِدة السَّمَاء
حين غَزَاني الجوع دخلتُ مطعم الأسماك فَشَدَّني مقعد موضوع عليه صورة كبيرة، امتلأتُ رغبة أن أجلس إلى هذه المِنْضَدة؛ حيث أنها كانت الوحيدة التي بها مقعد وحيد عال جداً ولونها مغاير لكل المناضد.
شعرتُ أن عيوناً تَتَرَصَّدني وبدأت حركة قلقة حولي، إذ إنِّي لاحظت أن الرَّجل الجالس وراء المكتب والذي يبدو أنَّه صاحب المطعم انتفض وترك الشِّيشة من يده وخطا نحوي بسرعة.
حين مَدَدْتُ يدي لأرفع الصُّورة لأضعها على الأرض وأجلس، كلبشتْ أصابع الرَّجل يدي وقال بحزم: “لا، محجوز″. ابتسمتُ وقلت: “يمكنه أن يجلس إلى مِنْضَدة أخرى حين يجيء”. قال: “لا، هذا مكانه”.
مِلتُ بوجهي لأرى الصُّورة فوجدته المسيح فابتسمتُ وقلت للرجل: “متى سيأتي؟!”. قال بِجِدِّ صارم: “هو يتناول غذاءه يومياً على هذا المقعد وهو الذي يحدِّد موعد مجيئه”. قلت: “أنا أعرفه”. قال: “إِذَنْ، أترك المِنْضَدة”.
رفعتُ يدي من فوق الصُّورة وتأخرتُ خطوة فانحنى الرَّجل قليلاً واعتذر للصورة وذهبتْ تشنجات وجهه وأجلسني على مائدة مواجهة للمسيح، ولاحظتُ أن كل رواد المطعم يعرفون أن هذا المقعد محجوز، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
جلستُ لآكل طعامي وعيني لم تتحرَّك عن الصُّورة، انتابتني رِعْدَة حين رأيته قادماً من بعيد، حين رآه الرَّجل طَفَت على وجهه فرحة طفولة العَالَم وجرى إليه وقَبَّله ووضع الصُّورة جانباً وظَلَّ يضع له أطباق السَّمك بنفسه والمسيح يبتسم.
ذهبتُ لأدفع حسابي فرفض الرَّجل بشدَّة وقال: “هو دَفَعَ الحساب”. كدتُ أُصِر على دَفْع حسابي، لكن ابتسامة المسيح جعلتني أضع النقود في جيبي وخرجتُ على استحياء وأنا أتأمله وهو يأكل بهدوء الملائكة.
حَلِيب الرَّبّ
ذات يوم أصابني الرَّمد، كنتُ نائماً على السَّرير فسمعتُ أمي تتحدَّث مع أم روماني من النَّافذة وقلبها يقطر حزناً، حَكَتْ لها أمي عن عيني، وبكتْ، انتفضتْ أم روماني وأشارتْ لأمي أنها قادمة.
طرقتْ الباب وأخذتني في حضنها ومسحتْ بنعومة علي عيني وشعري وكل جسدي وأخذتْ تُرَدِّد آيات من الإنجيل، وأمي تنظر وعينها مليئة بالدَّمع، طلبتْ أم روماني ماءً دافئاً وخِرْقَة نظيفة، جاءت بهما أمي وظلَّت أم روماني تمسح على عيني بالْمَاء الدافئ حَتَّى أصابني النُّعاس.
سمعتها من قلب نومي الدافئ وهي تهمس لأمي تطلبُ فنجاناً من القهوة، فتركتني أمي نائماً على رِجْل أم روماني وكدتُ أفتح عيني بصعوبة فمسحتْ عيني برفق فنعستُ ورأيتها تُخرج ثديها الأبيض الشَّمعي الجميل وهي تُرَدِّد: “الله الشافي، الله الشافي”. فَتَحَتْ عيني برفق وقطرتْ قطرات لبن دافئ داخل عيني، وحين شَمَّتْ رائحة القهوة قادمة؛ أدخلتْ ثديها ومسحتْ خيط اللبن السَّائل على خدي وهمستْ في أذني: “هذا حَلِيب الرَّبّ، وهذا سِر، ثِق، لن تصاب بالرَّمد مَرَّة أخرى”.
دخلتْ أمي وأعطتها القهوة، قالت أم روماني وهي تضعني على رِجْل أمي: “الله حارس″. ثُمَّ رَشَفَتْ القهوة فانْفَتَحَتْ عيني وابتسمتْ أمي وقَبَّلتْ أم روماني، وأنا ظللت أنظر لثدي أم روماني؛ أبحثُ عن البياض السَّماوي الجميل، فتهمس لي دون أن تسمع أمي: “هذا سِر”.
طَبَق المَحَبَّة
أم روماني تُحِب أمي وأنا أحب روماني، أذهب إليهم كل أحد، بعد أن يعودوا من الكنيسة يحملون خبزاً طازجاً له رائحة الجَنَّة وطَعْم يُشبه لحم المسيح الحلو، آكله وأستمتع وأرى عين أم روماني تبتسم لي وتحكي لي عن مائدة السَّمَاء ودَم المسيح، فنذهب أنا وروماني نلعب في الشَّارع بِحُرِّيَّة تشبه صعود المسيح إلى السَّمَاء وانطلاقه عند الله حَيَّا.
روماني يأتي إلينا يوم الجمعة، يأكل طعام أمي بلذَّة، يقضم الخبز ويقول: “هل هذا خبز النَّبِي؟”. فتحكي أمي عن صيام الرَّسول وطعامه البسيط، وتضع أمام روماني فاكهة التين والعِنَب، وتقول: “إنَّ الله ذكرهما في القرآن”. فيضع روماني حَبَّة تين كاملة في فمه ويقول: “تين الرَّبّ وعنب الرَّبّ”. تبتسم أمي وتفتح المصحف فنجلس جانبها نستمع لصوتها الحنون ويُرَدِّد روماني مثل نغم أمي وكله خشوع.
سألتُ أمي عن الطَّبَق الأبيض الجميل النَّظيف الصَّافي بلا عكارة والموضوع دائماً علي المِنْضَدة، فقالت أمي إنَّه لأم روماني، وأنَّ الكعك الذي أكلته أنا اليوم هدية من أم روماني، وكان كعكاً لذيذاً جداً ويشبه لحم المسيح.
حين رأيت نفس الطَّبَق عند أم روماني نظيفاً ومُغَطَّى ورأتني أنظر إليه، قالت: “هذا طَبَق المَحَبَّة، بيني وبين أمك، أنا أرسلُ لها فيه ما أحبه من أطعمة وهي تُرسل لي فيه ما تحبه، أنا لا آكل طعاماً لذيذاً إلا إذا أكلتْ منه أمك”.
وأنا أُطِل من النَّافذة، وكان يفصل بين بيتنا وبيت أم روماني جدار وحيد بمساحة طوبة كبيرة، أعطتني أمي الطَّبَق المُغطَّى مليئاً بحلوى مولد النَّبي وقالت: “أعطه لأم روماني”. ناديت على أم روماني فظهر روماني مبتسماً وأخذ الطَّبَق من يدي ودخل، وقبل أن أتحرَّك من النَّافذة، ظهر روماني مَرَّة أخرى وأعطاني نفس الطَّبَق المُغَطَّى فاتفقنا على أن ننزل ونلعب في الشَّارع.
خشيتُ أن أكشف ما في الطَّبَق فدخلتُ لأمي مسرعاً، فأعطتني قطع البسكويت الطَّازجة من قلب الطَّبَق، فتذوقتها وكانت حلوة، ودَسَّتْ في جيبي قطعتين من حلوى مولد النَّبي.
حين رأيتُ روماني أعطيته قطعة الْحَلْوَى فأعطاني البسكويت اللذيذ، ومشينا نأكل في سعادة وهو يتلذَّذ ويقول: “حلاوة النَّبي”. وأنا أردِّد: “بسكويت المسيح”. وأنا أترنَّم وهو يردِّد آيات من القرآن.
في الفصل، جاء مفتش اللغة العربية وسأل عن آية في المنهج وسأل عمن يحفظها.. سكتنا جميعا حَتَّى أُصِيبت الأستاذة بالوجوم والرِعْدة، مَرَّ المفتش وهو يردِّد: “القرآن، ألا يحفظ أحد”.. وظل يردِّد القرآن، القرآن، فرفع روماني يده فكتمنا جميعاً ضحكنا، ونظرتْ الأستاذة لروماني تدعوه بنظرة شديدة لأن يسكت، لكنه ظَلَّ رافعاً يده حَتَّى رآه المفتش، فطلب منه أن يردِّد ما يحفظ.
ظَلَّ روماني يردِّد القرآن بصوت متناغم حَسَّاس يشبه صوت أمي، فاحتضنه المفتش ورفع صوته: “بارك الله فيك”. وخرج، فاتجهتْ إليه الأستاذة فانكمش روماني، لكنها أخذته في حضنها وطبطبت عليه والتففنا جميعاً حَوْله وهو يردَّد آيات القرآن بصوت عذب رقيق خارج من قلب المسيح.
خَمْس رِيشَات
كنا خمسة: أنا وروماني وفَاطِمَة والسيد وطارق، نعود من المدرسة كل يوم سوياً، نسير في الطَّرِيق أيادينا متعانقة، لا يستطيع أن يفصل بين اتحاد أصابعنا شيء حَتَّى عامود الإنارة، نَلِفُّ حَوْله ولا ندعه يفرق بيننا.. الولد حسام البارد الذي يتعمَّد أن يَمر من بيننا، فنرفع أيدينا فيسير من تحت أيدينا ونتضاحك عليه، روماني دائماً جانب فَاطِمَة، يده في يدها، وأنا جانبه يدي في يده وفي نفس الوقت أتشبثُ بيد طارق التي تَنِز العرق في قسوة البرد، فَاطِمَة دائماً إلى يسارنا جميعاً ويدها الصَّغيرة في يد روماني، وأنا أشعر بدِفْء يد روماني الذي يظل طوال الطَّرِيق صامتاً ولا يتكلم إلا حين تترك فَاطِمَة يده وتدخل بيتها.
نتجمَّع عند بوابة المَدْرسة، وننطلق صفاً واحداً بعرض الطَّرِيق، ونتضاحك على ما يحدث في الفصل خصوصاً بَطن الأستاذ عبدالعزيز الذي يَتَدَلَّى من مفرق بنطلونه.
في العصر نتجمَّع فوق سطح بيت فَاطِمَة، نذاكر دروسنا ونأكل الْحَلْوَى التي تمنحها لنا أُم فَاطِمَة، فهي تحبنا جميعاً خصوصاً روماني.. انطلق ديك من عشة فراخ أُم فَاطِمَة فقالت: “امسكوه”. صنعنا من أجسادنا سَدَّاً فقفز الدِّيك فوق رأسي فأمسكتُه فطار، ولم يتبق في يدي غير ريشة وحيدة، قالت فَاطِمَة: “ما رأيكم لو يأتي كل واحد بريشة من عشة الفراخ التي عندهم ونذهب بعد المدرسة نلقيها في التُّرْعَة؟”.
وضعنا حقائبنا على حافة التُّرْعَة الممتدَّة والتي لا نعرف لها نهاية، فقط تحوي طينا لزجا ينبت فيه بعض الطَّحالب الخضراء وتبدو عميقة فيمكنها أن تَبْلَع رجلاً كبيراً، وقفنا صفاً واحداً، قال طارق: “الفائز من ستسبق ريشته ريش الآخرين”. وفي توقيت واحد ألقينا ريشنا جميعاً وقلوبنا ترتجف خوفاً من عمق التُّرْعَة البعيد.
خمس ريشات تسبح جنباً إلى جنب فوق جلد التُّرْعَة، تقاربت الرِّيشات فأصبحتْ كجناح طائر منطلق فوق سطح الْمَاء، ضحكنا وقلنا: “طائر الْمَاء”. قلت: “ريشتي ستسبق ريشكم جميعاً”. انحنينا جميعاً وظللنا ننفخ في الهواء عسى أن يجعل كل واحد منا ريشته تَتَقَدَّم، نفخنا كل الهواء المحبوس في صدورنا وبقيتْ الرِّيشات تعوم صفاً واحداً وكأنها تسير مثلنا، ترفض الفراق. قلت: “تقدَّمي، تقدَّمي”. وأشرتُ لريشتي بكلتا يديَّ كأنِّي أدفعها بقوة فوق سطح الْمَاء، فوجدوا ريشتي تتقدَّم وتسبقهم جميعاً فضربوني حَتَّى استلقيت من الفَرْحة، وقالوا وهم يضحكون: “غداً نتسابق مَرَّة أخرى”.
في الغد تَصَنَّعتُ أني أهمس في قلب ريشتي، فضحكوا وألقينا الرِّيش فنظرتُ لريشتي وقلت: “اسبقي، اسبقي”. فسبقتهم وضربوني على ظهري.
في اليوم الثالث همستُ لريشتي بكلام لا أعرف معناه فنظروا لي باستغراب وكانت أيديهم تَرْتَعِد، وأنا ألقي ريشتي معهم قلت بجديَّة زائدة: “اسبقيهم جميعاً، الآن”. فظلَّت مكانها ولم تتحرَّك ووصل ريشهم جميهاً في وقت واحد ولم يسبق أحدهم وظلَّت ريشتي ساكنة لم تتحرَّك.
قال السيد: “لا بد أن نضع جائزة لمن تسبق ريشته اليوم”. قال طارق: “نشتري له شِكُولَاتة”. قال روماني: “ما رأيكم من يسبق يُقَبِّل خد فَاطِمَة”. قالت فَاطِمَة: “عيب”. قلنا جميعاً: “موافقون”، ورقصنا في دائرة حَتَّى قالت فَاطِمَة: “موافقة”.
انتصبنا صفاً واحداً ننظر لفَاطِمَة وهي تضربنا وتقول: “أنا سأسبق وساعتها سآخذ منكم جميعاً شِكُولَاتة”. قال روماني بثقة غريبة: “أنا سأسبق وأقبِّلك”. رفعنا ريشنا وذُهلنا جميعاً حين رأينا روماني يحتضن ريشته ويمسح بها صدره ويوشوش لها بتوتر ويرفعها يميناً ويساراً ولأعلى وأسفل ثُمَّ ألقى معنا ريشته في نفس التوقيت.
بفرح وقلق وانبهار وتَرَقُب ورغبة في الفوز وقفنا صفاً واحداً نتابع خمس ريشات تعوم على صفحة التُّرْعَة، نظرتُ لروماني، كان مُحْتَقِناً يقول: “اسبقي، اسبقي”. فبقيتْ الخمس ريشات تسبح في تواز غريب، قال روماني: “من أجلي، هيا هيا”. فانطلقتْ ريشتي وسبقتهم بسنتيمترات، ضربَ قدمه في تراب الأرض وقال: “اسبقي، اسبقي”. فتقدَّمتْ ريشته جانب ريشتي وسبقناهم جميعاً، ظَلَّ محتقناً وزاد توتره حين تقدَّمتْ ريشتي سنتيمترات والمسافة الباقية على نهاية السِّباق كانت مترا، فوجدناه يصرخ: “لالالالا”. وقفز ناحية الرِّيش وأمسك ريشته يحاول أنْ يدفعها للأمام كي تسبق، لكنَّه لم يستطع أن يرتفع بجسده فَغَطَسَ وقَبَّ والرِّيشة في يده يُطْبِق عليها كأنها روحه، نظر لفَاطِمَة وقال: “أنا، أنا يا فَاطِمَة”. وغَطَسَ وقَبَّ، ضحكتْ فَاطِمَة وهي مرعوبة وقالت: “اخرج يا روماني اخرج”. غَطَسَ ولم يظهر منه غير يده المستمسكة بالرِّيشة، ظلَّتْ الرِّيشة مرفوعة لثوانٍ وبدأت تنسحب لأسفل قليلاً قليلاً لبطن التُّرْعَة وهو يهمهم: “أنا، أنا يا فَاطِمَة”. ونحن واقفون ننظر في ذهول وانطلقنا نصرخ في الشَّارع: “روماني، روماني”. وتركنا خلفنا خمس حقائب وأربع ريشات تتسابق على سطح التُّرْعَة.
رُومَاني جِرْجِس بُولِس
يلمعُ كمقدَّس، عارياً إلا من بنطلون أزرق، يضخ جسده عرقاً كحبات البلّور، يقف أعلى السُّلَّم بعيداً عني بمقدار عشرين درجة إذ كنت ساعتها أقف وظهري لباب الشَّارع، وهو في الأعلى ظهره لحائط البيت، وإلى يمينه درجات السُّلَّم المؤدِّية إلى شقته مباشرة.
روماني صديقي، يأكل عندنا وآكل عندهم، عندما يقول: “بسم الصَّليب”. أبتسم وأقول: “بسم الله”. فنضحك ونتسابق في التِهَام الطَّعام وقد تأكدنا أن الشَّيطان لن يجرؤ على الاقتراب منا ثُمَّ ننطلق سوياً للشارع نلعب الكُرَة ونعاكس البنات الحلوات فقط، وحين يأتي حسام ليلعب معنا تُصِيبنا الكآبة فننسحب أنا وروماني ونسير معاً على حافة تُرْعَة المحمودية؛ نحصي الأسماك ونقذفها بالحجارة؛ لتفزع من الصَّيَّاد الذي يشتمنا حين تبتعد الأسماك وتنطلق حُرَّة لعمق الْمَاء.
قال لي حسام: “ابتعد عن روماني” فابتعدتُ عن حسام وبقيتُ أنا وروماني نمشي سوياً بجانب التُّرْعَة، أحكي له عن يوسف عليه السلام ويحكي لي عن مريم البتول، وتظل أيدينا متشابكة، لكني لاحظت أن عَرَقاً يَنِز من باطن كفه -في يده التي رُسم فيها الصَّليب- لقلب كفي، رفعتُ يده وقلت له: “ما هذا؟”. قال: “صليب”. قلت: “أعني العَرَق”. قال: “أنا أحب فَاطِمَة وأمي طلبت مني أن أنساها؛ لأني لن أتزوجها”. ضحكتُ وقلتُ: “أنا وأنت واحد، أنا أتزوجها”. لم يبتسم وظَلَّ سائراً ويده تَنْضَح عرقاً.
قال حسام وهو يقف أمامنا عند التُّرْعَة: “يا روماني، الله واحد أم ثلاثة”. قلت: “يا حسام أنا وروماني واحد”. قال روماني: “الله واحد في ثلاثة”. قال حسام: “المسيح حي أم ميت”. قال روماني: “أنت قذر”. قال حسام: “أنت كافر”. وتَرَكَنَا وظلَّ يضحك وسار بعيداً.
خَرَجَتْ فَاطِمَة من البيت فسرنا وراءها أنا وروماني، كان ينظر إليها بشغف وحنان، وكنتُ ألمح في عينيها رضاً وانشراحاً، فقط قال بكل روحه: “يا فَاطِمَة، يا فَاطِمَة”.. التفتتْ وواجهتني وقالت: “عيب عليك، أنت والمسيحي”. قلت: “هو يحبك”. قالت: “أنت ملعون”. تركتنا فَاطِمَة وظلَّ هو ساكناً مذهولاً ينظر لها وهي تبتعد وكأنَّ روحه تنسلخ من قلبه ثُمَّ نظر إليَّ بكل روحه وقال بصوت مجروح: “ابتعد عني”. ودفعني بشدِّة وتركني ومشى ناحية بيته ولم يلتفت لندائي وظَلَّ يسير متشنجاً ودمعة محبوسة في عمق روحه كادت تَنْحَدر لكنه أمسكها وصعد السَّلالم بسرعة ووقف عند آخر درجة وخلع قميصه وبقي أمامي، جسده يلمع كمقدس بيني وبينه عشرون درجة وهو يردِّد: “ابتعد عني، ابتعد”. وأنا واقف أنظر لروح جسده الذي ظَلَّ ينتفض أمامي وكنت أتمنَّي أن أحتضنه وأعتذر له وهو يردِّد: “ابتعد، ابتعد”. وظل يلمعُ كمقدس، يضخ جسده عرقاً كحبات البلّور ويداه تلوحان لي كمسيح مصلوب: ابتعد، ابتعد.
حَوْصَلة فِضْيَّة خَضْرَاء خَالِصَة
لوحة: محمود الداوود
النَّار ثُمَّ النَّار ثُمَّ النَّار وعذاب القبر والثَّعابين والشُّجاع الأقرع وأنا وروماني نتابع العصافير وهي تُحَاوِل جاهدة بكل عزم أن تجد لها مَنْفَذاً في المسجد ليَسْنَح لها بالخروج من إحاطة صوت الشَّيْخ قنديل.
غاصتْ أقدامنا في طين تُرْعَة المحمودية فانخلعتْ أحذيتنا وسمعنا حفيفاً يتابعنا وأحاطتنا أنفاس تطاردنا فلم نلتفت وظللنا نجري، نجري، فانغرستْ أقدامنا في المسامير وقِطَع الزُّجاج المكسور فنز دَمنا مختلطاً بطعم الطِّين وتألمنا ولم نلتفت.
حين رأينا رجلاً قادماً من بعيد يخترق غبشة الفجر اطمأنت قلوبنا وكدنا نلتفت، لكن روماني صرخ: “لا تلتفت”. فشعرتُ أن العصفور سيَبْتَلِعني وجرينا إلى نهاية الطَّرِيق عند بداية شعاع الضَّوْء ومسحنا الدِّماء من بطن أقدامنا.
حين يراني الشَّيْخ علي الزرقاني أدخلُ مع روماني المسجد يوم الجمعة يمسح شعري ويبتسم لروماني، فتمنيتُ أن أقول له إنَّني أذهب يوم الأحد إلى الكنيسة مع روماني لأني أحب الألحان السَّماوية التي تعزفها المجموعة، روماني يحب العصافير الخضراء التي تدخل المسجد يوم الجمعة فقط ثُمَّ تخرج وتختفي في قلب الشَّجَرة الزَّرْقاء التي أمام المسجد مباشرة.
تنبض عروق الشَّجَرة الزَّرْقاء بلون أحمر، وتزدهر أوراقها حين تَحطُّ عليها العصافير الخضراء التي تدخل المسجد يوم الجمعة لتستمع لقرآن الشَّيْخ علي الزرقاني قبل أن يصعد الخطيب المنبر، تظل ساكنة على حوائط المسجد تستمع كأنَّها زخارف سماوية، وتبقى هادئة حَتَّى ينتهي الخطيب من الخطبة ثُمَّ تنطلق في منتصف الصَّلاة، يقول روماني الذي يتابعها ولا يصلي إنَّها تختفي داخل قلب الشَّجَرة.
يوم الخميس، اتفقنا أنا وروماني على أن نستيقظ في الليل بعد أن ينام جميع أهلنا ونجيء للشجرة؛ حَتَّى نعلم من أين تأتي العصافير، استلقينا على ظهورنا تحت الشَّجَرة، وجعلنا السَّمَاء مظَلَّة وبقينا نحدِّق في الشَّجَرة التي ظلَّت ترتجف طوال الليل، ورأيتُ الطَّائر الأزرق الضَّخْم السَّاكن عند قمة الشَّجَرة لا يَرِف. قال روماني: “العصافير تأتي من تحت جناح هذا الطّائر”. قلت: “بل تأتي من قلب الجَنَّة”. وحدَّقنا كثيراً في فروع الشَّجَرة وغَفَوْنا للحظة.
حين فتحتُ عيني ونظرتُ للفجر الذي بدأ يتفتَّح في السَّمَاء كانت الشَّجَرة ممتلئة بالعصافير الخضراء النَّائمة على الورق، الْتَفَتُ لروماني، فأمسك طرف الخيط الذي رَبَطَه في فرع الشَّجَرة قبل أن نغفو، وكانت نهايته في يده وطرفه عند فرع الشَّجَرة، ينام عليه باطمئنان عصفور أخضر، حين شدَّ روماني الخيط، انحنى الفرع ناحيتنا وتدحرج العصفور نائماً على الأرض فاقتربنا منه.
العصفور أخضر رائع، بين كل ريشتين خيط فضي رفيع، ويحيط برقبته ثالوث من دوائر الفضة اللامعة، أما حوصلته ففضة خضراء خالصة، يهتز داخلها شيء ما سِحري، رأينا حركتها وسمعنا الصَّوت ينبعث من داخلها كأن شخصاً حياً شفافاً ونورانياً في الدَّاخل، يقرأ ما يشبه القرآن، ويترنَّم بما يشبه الألحان السَّماوية التي تعزفها المجموعة في الكنيسة.
دقَّقنا النَّظر في حواصل العصافير النَّائمة على الشَّجَرة فكانت جميعها فضة خضراء خالصة، وتَرْجُف نفس الرَّجفة، ويخرج منها نفس أنين القرآن والتَّرانيم، كان العصفور ما يزال نائماً على الأرض وحوصلته تهتز، قال روماني: “بسم الصليب”.. ومَسَحَ حوصلة العصفور وارتجف.
نظرتُ لوجه روماني وهو يشع نوراً أخضر كملاك وقال لي: “أنا سعيد، أنا سعيد”. فمسحتُ على حوصلة العصفور فكدتُ أطير فوق السَّحاب وشملتني راحة الرُّوح ونعمة السَّعادة وكأنِّي عصفور أخضر، ولم أنتبه إلا وروماني يبعد يدي ويقول: “اتركه، اتركه”. فنظرتُ للعصفور فرأيته يتضخم، يتضخم، فأصابتني رجَّة وجريت أنا وروماني فغاصت أقدامنا في طين تُرْعَة المحمودية وانخلعتْ أحذيتنا وسمعنا حفيفاً يتابعنا وأحاطتنا أنفاس تطاردنا فلم نلتفت وظللنا نجري، نجري.
سألني روماني عن الشَّيْخ قنديل فقلت: “أنا لا أحب رائحة عرقه وأكره فمه الغليظ”. قال روماني: “الشَّيْخ قنديل يضربني بالعَصا كلما رآني ويقول لي ستدخل النَّار”. قلت: “ألم تلاحظ أن العصافير تهرب منه فور أن يصعد للمنبر يوم الجمعة”. قال روماني: “لو عَلِمَتْ العصافير بموعد خطبته أظن أنها لم تكن لتدخل المسجد أصلاً”. قلت: “العصافير تحب صوت الشَّيْخ علي الزرقاني وتكره صوت الشَّيْخ قنديل”. قال: “الشَّيْخ قنديل يكره العصافير، لقد رأيته ينظر لها بحقد وهي تغادر المسجد حين يصعد للمنبر”.
سرنا للمسجد نتمنَّى أن لا يخطب الشَّيْخ قنديل في مسجدنا أبداً؛ حَتَّى نظل نستمتع بالعصافير وهي تدور فوق الحوائط.
يوم الجمعة، حين بدأ الشَّيْخ علي الزرقاني قراءة القرآن، دخلتْ العصافير المسجد وظلَّتْ تغرد بحنو روحاني وكأنَّها تردِّد معه الآيات، لمَّا صعد الشَّيْخ قنديل المنبر زامت العصافير، وبدأت تتجمَّع متجهة ناحية باب المسجد فصرخ الشَّيْخ قنديل: “أغلقوا الأبواب بسرعة”. فَبَقِيَتْ العصافير تلفّ وتدور حَوْل المصابيح وبدأ يخطب منتشياً.
النَّار ثُمَّ النَّار ثُمَّ النَّار وعذاب القبر والثَّعابين والشُّجاع الأقرع، وأنا وروماني نتابع العصافير وهي تحَاوِل جاهدة بكل عزم أن تجد لها منفذاً في المسجد ليَسْنَح لها بالخروج من إحاطة صوت الشَّيْخ قنديل، إذ إنَّ العصافير ارتجفت من شُعَل النِّيران الخارجة من فم الشَّيْخ قنديل وظلَّت تَلِفُّ وتدور بلا صوت في سماء المسجد، وبقى هو يبحث عن الدِّيدان والعقارب والحيات وهو ينظر للعصافير سعيداً بأنها لم تستطع الهروب، وظل يُنَدِّد بالعذاب الصَّاعق والحاقة والقارعة، متوعداً بالسَّعير وقعر جهنم، وبقي يُشعل النِّيران ويؤججها وأنا وروماني نشهق حين نرى اختناق العصافير وهي تحَاوِل بيأس أن تخرج فلا تستطيع، فظلَّت تدور في انتظام غريب حَوْل رؤوس المصلين، وتئن بصمت يوازي صراخ الشَّيْخ قنديل، الذي رجَّ جدران المسجد وأعمدته بالنيران التي أجَّجها ولم يترك ثقب إبرة للتنفس الحُر.
تضخَّمتْ العصافير في وقت واحد بنفس الحجم الذي رأيناه أنا وروماني عند الشَّجَرة فَجْر الخميس، تضخَّمتْ حَتَّى صارت كبالونات تتطاير فوق بركان وحُمَم من صهد وسعير ثُمَّ اتجهت ناحية الشَّيْخ قنديل فأصابه الرُّعب وكاد يسقط على الأرض لولا أنَّه صرخ، النَّار ثُمَّ النَّار ثُمَّ النَّار فانكمشتْ العصافير وأصابها الدُّوار وبدأت في التَّساقط واحداً تلو الآخر على رؤوس النَّاس.
جَمَعَ النَّاس العصافير في صمت، فلم نَسْمَع سوى صوت الشَّيْخ علي الزرقاني وهو يُرَتِل آيات عن الشُّهداء، وراح النَّاس يحفرون للعصافير تحت الشَّجَرة الزَّرْقاء أمام المسجد؛ عسى أن تخرج إليهم في الجمعة القادمة تُحلق فوقهم في فرح وانشراح مع صوت القرآن النَّدِي دون أن يُغلقوا الأبواب.
حُزْن مَمْلوء بِبَقَايا الضَّوْء والحَلِيب
ولقد رأيتُ اسمها محفوراً علي جبينه، يضوي، وهو واقف مرفوع اليدين ينظر إليها وقلبه مُعَلَّق باسمها المرفوع عالياً في وجه الشَّمْس.
أمرتنا المُعلمة بأن يُخْرِج كل منا ورقة نظيفة، بيضاء كالحليب، من الوجهين، وأشارتْ إلى ورقة في يديها وقالت: “هنا في المنتصف، ليكتب كل واحد منكم اسمه ثُمَّ يقوم بتفريغه وبعدها سأريكم كيف تَطْبَعون أسماءكم على أي شيء، هيا الآن”.
روماني خَطُّه جميل جداً، وفَاطِمَة تجلس خلف روماني ويدها ترتعد، نظر روماني إليها فحنَّت روحه وهَزَّت رأسها وابتسمتْ فابتسم لها وأنا بدأتُ في كتابة اسمي، دقيقة ووجدتُ روماني يتابع المُعَلِمة بقلق، حين أدارت له ظهرها دَفَعَ الورقة التي بيده لفَاطِمَة ولمحتُ اسم فَاطِمَة مُفَرَّغاً داخل الورقة التي أعطاها لها، أَخَذَتْها فَاطِمَة وابتسمتْ وكانت أمامها ورقة بيضاء فأشارتْ إلى روماني فمدَّ يده وأخذ ورقتها البيضاء، لكنَّه في اللحظة التي كانت يده تنسحب، التفتتْ المُعَلِمة فرأتْ يده، فأمرته بالوقوف ونظرتْ للورقة البيضاء التي في يده وأمرته بأن يذهب إلى السَّبُّورة ويرفع كلتا يديه.
فَاطِمَة احمَّر وجهها ونظرتْ لي فنظرتُ لها في غضب وازداد احمرار وجهها، نظرتُ لروماني وقالت روحي له إنني سأحكي ما حدث لكنه طلب مني السُّكوت فسكتُ.
حين قالت المُعَلِمة: “مَنْ انتهى؟” لم يرفع أحد يده سوى فَاطِمَة، فَصَفَّقوا لها جميعاً، وظللتُ أنظر لروماني وطلبتْ المُعَلِمة أن ترفع فَاطِمَة اسمها عالياً، عالياً.
ضوء الشَّمْس ونور الله وقلب روماني، كل ذلك تجمَّع في الاسم المحفور في الورقة وأضاء، نعم، أضاء اسم فَاطِمَة بكل وضوح علي جبين روماني الواقف عند السَّبُّورة رافعاً كلتا يديه كمسيح مصلوب وقلبه مُعَلَّق بتجويف الاسم.
نظرنا لبعضنا البعض وأصابنا الذُّهول، كأنَّ روماني كَتَبَ اسم فَاطِمَة بحروف الضَّوْء على جبينه، ولم تكن فَاطِمَة ترى ذلك إذ أنَّها كانت تدير لروماني ظهرها وترفع يديها عالياً، عالياً وهي تبتسم.
أنا نظرتُ لاسم فَاطِمَة المكتوب بيد روماني والمطبوع علي جبينه والذي يراه الجميع وكدتُ أصرخ؛ إذ أن ظلال اسمها ارتد منعكساً على قميصي الحليب، عند القلب تماماً، فلم يره أحد غيري ورحتُ في حزن مملوء ببقايا الضَّوْء والحليب أتحسَّس الوخزة التي دَبَّت في قلبي.
سَأَلْعَب
أنا وروماني ومحمد عبدالكريم وسمير عبدالوهاب وميلاد ومحمد فكري خرجنا من المَدْرسة سوياً، وضعنا حقائبنا على أرض الشَّارع وصنعنا منها مَرْمَيين نُسجِّل فيهما الأهداف، وَقَفَ روماني وميلاد حارسين وبدأنا اللعب.
نجري في نشوة ونقفز في سعادة، نطير في الهواء ونلتقط رُوح العَالَم برؤوسنا حين نلمس الكُرَة، يتصبَّب العرق لذيذاً فوق جباهنا وتَحْمرّ وجوهنا ونصبح عصافير الكون، نطير وراء محمد عبدالكريم الذي يقذف الكُرَة بكل قوته ولا يعلم أين ستذهب، لكني أضع رأسي في طريقها فيمسكها روماني بمهارة، يراوغنا سمير عبدالوهاب وينطلق وحيدا بالكُرَة حَتَّى يجد محمد فكري فيعطيها له؛ كي يسدِّد هدفاً، لكن ميلاد يمسك منه الكُرَة بمهارة.
حسام طويل وضخم، يدخل في منتصف الشَّارع الملعب، أَمَسَك الكُرَة وأَصَرّ على أن يلعب معنا وأن يُخرج واحداً منا الآن ويلعب هو كبديل عنه.
نظرنا لبعضنا البعض وللكرة التي في يد حسام، فقال له سمير عبدالوهاب: “العب بعد أن تنتهي المباراة”. قال حسام: “سألعب الآن وسيخرج واحد منكم”. قلت: “بقيت دقائق يا حسام وتنتهي المباراة وسنلعب مباراة جديدة ويمكنك أن تلعب”. قال بإصرار: “سألعب الآن، الكرة معي”.
نظرنا لبعضنا البعض حين غَمَز لنا روماني وقال: “سأخرج أنا”. قال حسام: “لن أقف حارس مرمى مكان روماني، سألعب”. ابتسم روماني وغَمَزَ لمحمد فكري، فقال محمد فكري: “سأخرج أنا”.
ضَرَبَ حسام الكُرَة فوقعتْ في يد روماني، ظَلَّ واقفاً ممسكاً بالكُرَة وهو مبتسم فقال حسام: “العب”. تَجَمَّعنا حَوْل روماني في دائرة وحسام يصرخ: “العب، العب”.
حَمَلْنَا حقائبنا وسِرْنا في طريقنا نبحث عن شارع آخر نكمل فيه المباراة، وتركنا حسام واقفاً وحده ينظر للكرة في يد روماني والحَسْرة تتساقط من ملابسه على أسفلت الشَّارع وهو يصرخ: “سألعب، سألعب”.