بطريق يرفرف قبالة التلفزيون
منذ رأيتُ بصمةَ قدم ابني، مطبوعة على كرت أصفر مغلفة بالنايلون في ملفه الصحيّ في المستشفى، قبل أربع سنوات ونيف، فكرتُ أن أبدأ بالكتابة عنه، أو أن تبدأ كتابتي عنه من حيث رأيت بصمة قدمه. رأيت البصمة وأصابتني الغفلة، ولم أسأل عن سبب أخذها، وان كنت أخمّنُ أنّ ذلك العمل جزء من الروتين الإداري لتمييز الأطفال الرضع عن بعضهم بعضاً في حضانة المستشفى.
لم تكن لديّ أيّ خطّة مسبقة للكتابة، أو تصورٌ محددٌ عما ستؤول إليه فكرتي التي ولدت من مخاض الولادة. كانت هناك حتمية جديدة، أن الولادة ستفرض عليّ نمط حياة جديد، ربما أصطدم بها، بعد سنوات من التيه والهروب من الزواج والتشرّد في أروقة المدينة… كنت أهرب من الزواج، أخاف أن أرى ابني يعيش في التيه كما عشتُ أنا، أو كما أريد لي أن أعيش. في تلك اللحظة التي رأيت قدم ابني، قبل أن أراه، كأن الكتابة كانت بديلاً عن شعوري العاطفي، أو أنظر إلى كل شيء من خلالها، أو أن عاطفتي بقيت في سباتها العميق المارق.
الكتابة أيضاً شيء مارق، أسرتني بحمقها ووهمها وهشاشتها، أو تعلقت بها إلى درجة الحماقة والوهم والإعياء. لم يكن لديّ شعور تجاه الأطفال، طوال السنوات التي عشتها وحيداً في ثنايا المدينة وتيهها، وفي المرة النادرة التي عرضت عليّ زوجة أخي أن أحمل ابنهما وأرى حسنه، تفاديت ذلك. انتابني شعور أني لا أملك الحنان الذي يجعلني أحمل طفلاً رضيعاً بين ذراعي، خفتُ من خشونتي وشعوري الحطبي وربما الترابي والإسمنتي على طراوة الطفل الرضيع، بل كنت مثل لوح جليد، وعقلي في مكان آخر. لم يكن لديّ شعور تجاه ابني حين ولد.
كان مضى نحو ساعة على ولادته حين جلبت لي إحدى الممرضات ملفه الصحيّ، كي أوقّع على بعض الأوراق الاستشفائية والإدارية، ورأيت بصمته. بدا كأني أعيش في الحيز “المحذوف من الحياة” بتعبير لبسام حجار، في حيز الأشياء التي لا نراها إلا في الكتابة. لم يكن لدي ما أقوله غير الصمت والسكوت، لم أعرف ماذا أفعل. هو الشعور نفسه منذ خرج الطبيب من غرفة العمليات، حاملاً طفلاً ملفوفاً بشرشف طبي أزرق، وذهب به باتجاه غرفة أجهل وظيفتها.
كنت جالساً شريد الذهن في ردهة في الطابق الثاني من المستشفى، فيها بعض الزائرين الذين فضلوا الوقوف عند باب غرفة التوليد بدل الجلوس في صالة الانتظار، يتوزعون في الزوايا وعند الدرج وقبالة النافذة المطلّة على جانب حديقة المستشفى والفسحات القليلة في المدينة الصغيرة، لا أعرف إلى متى الترقب الانتظار، وربما لا أفكر بشيء، حين قال الشاب الجالس بقربي، هذا ابنك، هذا ابنك! كأني وطأت أرضاً مكسوّة بالرمل وعالماً مجهول الأثر والمعالم. لم أستوعب قوله.
كنت غريب الدار، أو أجلس على ناصية الطريق، تنظر إليّ السابلة، وما كان في بالي أن زوجتي ستنجب الآن، وقفت في الردهة بقيت في لحظة جفاء مع نفسي، ربما أشبه برجلٍ بلا ملامح أو صفات، صرت أسأل كيف عرف ذلك الشاب أنه ابني، وأنا “مثل الأطرش بالزفة”. ذلك الشاب الذي نبهني كان برفقة زوجته التي دخلتْ جناح الولادة أكثر من مرةّ، عرف من زوجته أن زوجتي قد أنجبت طفلاً.
طوال الوقت، كنت مطمئناً أن زوجتي لن تولد قبل وقت متأخر، وأنها الآن ما زالت في الفحوصات الروتينية، سمعت صراخ امرأة، صراخ امرأة تتألم، يأتي من غرفة مغلقة، بقيت جالساً منتظراً في الردهة الطويلة، أفكر هل أتصل بإخوتي وأهلي وأخبرهم؟ أُرجئ الفكرة، ثم أشرد، ثم يخرج طبيب يحمل طفلاً ويمشي في الردهة، وأنا في غفلتي.
قبل ذلك، كنت أريد أن تتم الفحوصات، ونعود إلى المنزل وأذهب إلى عملي بعدما تأخرت لساعات. في الوقت الذي كان ينبغي فيه أن أذهب إلى العمل، قالت زوجتي إنها مريضة وطلبت مني البقاء إلى جانبها، هذه المرة الأولى التي تطلب مني أن أبقى إلى جانبها لسبب مرضي. وحين اتصلت بطبيبتها الخاصة طلبت منها الذهاب بسرعة إلى المستشفى، فالأمر لا يحتاج تأخراً.
في تلك اللحظة، وأنا أفكر بالذهاب إلى العمل، راود مخيلتي شعور ثقافي سيكولوجي تافه، مثل غريغور سامسا بطل كافكا الذي كان همه الذهاب إلى العمل برغم تقوّص ظهره، وتحوله هامة ضخمة، برغم كل شيء. وعدا التيه النفسي مع الأبوة والزواج والإنجاب، لديّ فوبيا من المستشفيات، كنت منزعجاً بلا سبب من رائحة الأمصال وأكياسها وأنابيبها، من الأسرّة البيض ولعنة الإبر. فأنا طوال حياتي أكره زيارة عيادات الأطباء ودخول المستشفيات، سواء للعلاج أو حتى في زيارات عادية، تصيبني المستشفيات بالإعياء والاكتئاب كما المقابر كما الجنازات كما المهرجانات الحزبية كما الخطابات. لم يصادف أن زرت المستشفى إلا مرات قليلة ونادرة، كانت كافية لمزيد من الاكتئاب.
الطبيب الذي نقل الطفل عاد مستفسراً عني، وحين تكلمت معه، قال لي “مبارك ما جاءكم”، ثم أردف قائلاً “إن الطفل في شهره الثامن، يحتاج كوفيزا، ويلزمه المزيد من العناية والتنفس الاصطناعي لمدة عشرة أيام على الأقل حتى يتخطى وزنه كيلوغرامين ويخرج من دائرة الخطر… قلت له “لا مشكلة، لا مشكلة”، وأنا أجهل ما يمكن أن يكلّفني، ما يمكن أن يحصل في الكوفيز، الذي كنا نسمع عنه نسميه في ضيعتنا المرطبان، وبقينا لسنوات نقول إن جارنا عصام ولد في المرطبان وأصبح رجلاً، كأننا كنا نقول ان المرطبان حياة ثانية. انتابني بعض الخوف من فكرة أن ابني ولد قبل الأوان في شهره الثامن، كنت أسمع من النساء أن الطفل السباعي، عليه الأمان أكثر من الثماني. أعياني خبر أن ابني ولد قبل الأوان، ولم أجد ما أقول، وربما بقيت عديم الشعور، لا أذكر. كنت الغريب عن نفسي وذاتي، المغفل.
لم أكن أتخيل الحاضنة التي تضم وجوها متنوعة من الأطفال الرضع، لكل طفل يومياته وحكايته وحتى مأساته أو ظروفه. انتابني شرود غبيّ بعد كلام الطبيب، انتبهت أني اتصلت متأخراً بعائلتي البعيدة بعد الولادة، زوجتي انتبهتْ أني لم أكن بجانبها لحظة الولادة أيضاً، شعرتْ أنها وحيدة في الجناح المأهول بالممرضات بثيابهن السماوية، وأنا شعرتُ أني وحيدٌ في تلك المدينة البحرية الوادعة… لم أترك زوجتي، لكني أحسب أني أجهل الأبوة، وأجهل الأمومة. زوجتي تألمت من الولادة لدرجة أنها نسيت ابننا ولم تفكر إلا بهدوء ثوران الألم… هي حياة جديدة تربك حياة أخرى، هو الزواج يجعل المرء بأكثر من حياة، وأكثر من تيه… زوجتي شعرتْ بمقت تجاه المستشفى، عندما تركوها في صالون جناح الولادة ممددة على سرير أشبه بلوح خشبي، انتظروا الانتهاء من إكمال أوراقها حتى نقلها إلى غرفة للاستراحة. خرجت من الولادة كأنها تخرج من غرفة تعذيب، أنا شعرت باللاشعور تجاه كل شيء، أو شعرت بالاغتراب عن نفسي.
حين سمحوا لي برؤية ابني في الموعد المخصص لزيارات الحاضنة، وقفت خلف الزجاج، الزجاج الفاصل بين الممر وغرفة العناية، فضلت أن أبقى خلف الزجاج، ولم أرتد ثوب الزيارة ولم أضع على يديّ سائل التنظيف أو المطهر، كأني أعيش نوعاً من إحساس متناقض، إحساس بالخوف على ابني من أي شيء حتى من زيارتي، و الإحساس باللاإحساس. كأني مجرد كائن خشبي مجرد من المشاعر والشعور. ولكن حين رأيت ابني عاريا في حاضنة زجاجية، تبدلت مزاجيتي، كأن ذلك العري كان كافياً ليقلب مزاجيتي، ويعرّي روحي من سباتها، شردت طويلاً في ذلك المشهد، لم أسأل ما الذي يمكن أن أفعله الآن؟ عيناه الغارقتان في وجهه الشاحب المائل إلى الزرقة، وبطنه النحيل قلبا مزاجيتي، شعرت بالرعب والعدم من الوجود.
***
في ذلك المساء الماطر، حين قررت البدء في الكتابة، كان مرّ أربع سنوات وبضعة أشهر، على ولادة ابني، وحين وضعت الأوراق على الطاولة، كان ابني يرفرف بيديه كبطريق قبالة التلفزيون، يقفز قفزات متناغمة حين يسمع موسيقى الإعلانات، ويطلق أصواته “ددا، دي، ما ما” يصفق بيديه، ويعيد التصفيق بشكل عصبي محدقا بعينيه، على ثغره ابتسامة عريضة، كأنه في ذروة السعادة. يرى الكون يبتسم له، كنت أسأل للحظة كيف يمكن تدوين السعادة في حروف وكلمات.
سعيد لسعادته، في مشهد اعتدت أن أراه كل يوم عشرات المرات، من قبل كنت أجهل سرّ سعادته، من سعادته عرفت معنى الحزن الذي صار يزورني في لحظة سرعان ما أنسى حضوره، ليس بسبب قوتي، بل هو الشعور باللاجدوى من الحزن، الاستسلام للإحساس او اللاإحساس لا يغير شيئا في الواقع الذي يتابعني كظلي. في ذلك المساء الماطر كان ابني يتابع مسلسل “ريحانه”، أو يسمع تلاوة قرآنية أو برامج تعلمية، أتوهّم أني قد أفهم بماذا يفكر، ولا أفهم إلا القليل. هذه المرة، وكما في كل مرة، حين أنظر إليه أفكر في كتابة يومياته، وحين أنظر إلى الورقة تعجز يدي عن تدوين عبارة، أغرق في الحيرة والحالة المضنية والكرب الشديد، الذي يجتاحني للحظات سرعان من يختفي، خصوصاً حين أفكر لماذا ابني ليس كالآخرين، لكن سرعان ما أعاند استسلامي وأقول، كل الأولاد هكذا، هذه هي الأبوة والزواج.
كان صعباً عليّ أن أكتب، وربما أخط كلمات مبعثرة سرعان ما أمزق الورقة أو الأوراق، أمزقها وأقول ما لي وله، فليعش حياته بهدوء خارج فذلكة الإعلام والتثاقف. ذات مرة بقيت من ثلاث إلى أربع ساعات أحاول كتابة جملة ولم أصل خاتمة مرجوة.
في ذلك المساء، حتى سقوط المطر، لم يكن كافياً ليحمسني على البدء في الكتابة، ثم سرعان ما شرعت الكلاب بالنباح من فوق السطوح القريبة. في العادة، في الأيام الممطرة، تختبئ تلك الكلاب في بيوتها أو جحورها الخشبية، ويصبح صوت المطر وحده المسموع في غرفتي. لا أدري في ذلك اليوم لماذا بدأت الكلاب النباح بطريقة هستيرية، كأنها رأت ما يزعجها على الهضبة المقابلة، لم أخرج لأعرف سبب الهستيريا، بقيت حيث أنا، أجلس على كرسي الخيزران أمامي صوبيا الغاز، أشعر بذلك الطقس الذي اعتدته، إذ بتّ على قناعة أنّ جلوسي بمفردي هو أمتع لحظات حياتي.
كأني كنت أحب أن أكون وحيداً برفقة كتاب، ذلك الطقس الذي اعتدته من يفاعتي، إذ جعلت القراءة نافذة على العالم، ولديّ فضول لأعرف أسرار الكتب وكواليسها، خصوصاً أنها كانت شبه ضئيلة في مرحلة من المراحل.
من قبل أن يأتي جارنا بكلابه، أكره أصوات الكلاب، وهي التي في الأشهر الأخيرة، لا تتوقف عن إقلاق سكينتي، لجأت إلى إغلاق الشرفة بالستائر حتى لا تراني، كنت أقول إنها تنبح من ضجرها، تمشي جيئة وذهابا، ترفع قوائمها وتقف على شبكة الحظيرة، وحين تشم رائحة صاحبها قادماً على الدرج لإطعامها، تكون أكثر سعادة وتروح تحرك أذنابها.
نبهتُ صاحبها مرّات بأنها مزعجة وعليه تدبير حلّ لها، فكان يجاوب بابتسامة ساذجة “إني أقفل عليها ليلاً”. فكرتُ أن أستعمل بندقية صيد وأقضي عليها، كما قضى لوتريامون على حيتان البحر رأى دمها، لكن عدلت عن الفكرة، لا أريد إقلاق سكينتي أكثر من اللازم.
أكثر من مرة، كنت أخرج من البيت ويبقى نباحها ضاجاً في رأسي، كأنها أصبحت وسواساً. لا أدري إن كان صوتها مزعجاً إلى هذا الحد، أم أنني أكره الكلاب منذ كنت صغيراً، منذ كنت في سنوات المدرسة الأولى رأيت كلباً هائجاً يهاجم قطة وهي تجلس مرعوبة على غصن شجرة لوز معمّرة، كان المشهد مرعباً في الطريق إلى المدرسة، في الطريق الذي يحاذي مقبرة البلدة، حتى في البيت كنت أسمع أمي تتحدث عن نجاسة الكلاب منذ حينها، وبرغم خروجي عن كل التقاليد الاجتماعية والدينية، حين أرى لسان كلب يقشعر بدني، وأتحسس أن أنفاسه تغزو الهواء.