بغداد الحاضرة في اللحظة العصيبة
وأنا أودّع بغداد الممزقّة بجدران الـ”صبّات”، المُرتّقة بالمحبّة، المطرّزة بالفرح، الكاتمة أحزانها، الخازنة تاريخها، المشرئبّة بعنقها نحو الأمل، المتعالية فوق سخام الردّة، انتابني شعور عابر مفاده بأن تلك المدينة العظيمة أصبح قدرها النهوض من كبوتها المتعاقبة على مر الزمان، ولم تحل يوما أيّ غربان سود، مهما حاولت، دون نهوضها المؤكد، كما لو كان الأمر ضرورة أو حتمية تاريخية، لكن السؤال المعذّب: متى سيحدث ذلك وكم سيستغرق الأمر؟
مطار بغداد: الصدمة الأولى
ما إن تحطّ في مطار بغداد، حتى تدرك الإهمال والتردي وتراجع مستوى الخدمات وعدم حدوث أيّ تطويرات أو إضافات منذ إنشائه أواخر سبعينات القرن الماضي، ولولا الترميمات التي أجرتها القوات الأميركية للمدرجات ومسارب الطائرات لحاجتها الماسّة لاستخدامها في عملياتها اللوجستية، بعد أن تضررت بفعل القصف، لكانت حالته يرثى لها، بينما بقيت صالات استقبال المسافرين ومنافذ الوصول والمغادرة على حالها واعتلت الرطوبة الجدران وأكل الصدأ المنحوتات النحاسية التي كانت تتصدر قاعة الوصول وتمثّل مراحل من حضارة وادي الرافدين.
وثمّة مؤشرات صغيرة قد تشكل في مجملها الانطباع الأول الذي يمكن أن يخرج به الزائر أوّل مرّة، تتمثل بالمستوى المتدني للنظافة وعدم استخدام التقنيات الحديثة في الحمّامات وسلوكيات موظفي الاستقبال ورجال الأمن وسذاجة التصاميم الداخلية والديكورات وغيرها الكثير، ولا يعدم الزائر الغريب أسباب الانطباع السلبي منذ الوهلة الأولى والإحساس المربك الذي يوحي له بأنّه يزور بلدًا من بلدان العالم الثالث أو بلدًا متخلفًا في الحقيقة، فالأزياء المتفاوتة الألوان والتصميم لرجال الشرطة وتدخلاتهم الفجة في عملية استلام الأمتعة واختراقهم صفوف المسافرين مع أقاربهم للتوسط لهم ومناداتهم على بعضهم بالصياح أو الزعيق وكثرة الموظفات المسنّات اللواتي يرتدين أزياء شعبية سوداء مع أغطية رأس عشوائية، جميعها مؤشرات سلبية توصل على الفور رسالة مباشرة إلى الزائر مفادها أنّه يدخل عالمًا ثالثا متخلفًا من الطراز الأوّل.
وإذا ما أضفنا إلى ذلك كثرة النداءات الداخلية وأصوات الموظفات اللواتي يتلون تلك النداءات وإنكليزيتهنّ المضحكة، يكون الانطباع قد اكتمل تمامًا في الواقع.
شركات أمنية
لقد سيطرت شركات وأشخاص ومجاميع تابعة لأحد الأحزاب الإسلامية على عمل المطار والشركات الرديفة العاملة فيه، ضمن عملية توزيع الحصص واقتسام المغانم بين تلك الأحزاب، فكان الوضع كارثيا بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، إذ امتلأ المطار بأنصاف الأميين وتردت الخدامات وأبعدت أغلب الكفاءات والمتخصصين الذين لا يدينون بالولاء للجهة السياسية التي تهيمن عليه، وفرضت الأتاوات بواسطة الكثير من المشاريع المشبوهة مثل تاكسي المطار وشركة فلاي بغداد الخاصة المملوكة لبعض المتنفذين، بينما سجل مستوى الطيران ودرجة الأمان لدى الخطوط الجوية العراقية انخفاضا مريعا أدى في المحصلة لمنع دخول طائرات الخطوط الجوية العراقية الأجواء الأوربية قبل عام.
وعلى الرغم من البنى التحتية الممتازة التي أنشئت في مرحلة التأسيس، من طرق التفافية وصالات استقبال ومغادرة وتعدد مستويات المباني والطريق العام الذي يربط المطار بالعاصمة بغداد، إلّا أن تلك البنى التحتية أصبحت خارج الخدمة الآن بسبب النظام الأمني الغريب والمعقد الذي ابتكره الأميركان عندما كانوا يسيطرون على المطار، قبل أن يغادروا ويسلموا تلك المواقع لشركات الحماية الأمنية الخاصّة التي سرعان ما تحولت إلى شركات أمنية تابعة للجهات السياسية المهيمنة ظلت تسير وفق نهج سابقاتها الأميركية، فاقترحوا ما يسمى بـ”ساحة عباس بن فرناس″ وهي محطة عشوائية تتوسط الطريق الرابط بين بغداد والمطار، يُجبر المسافرون على النزول فيها ليتعرضوا لشتى أنواع الاستغلال البشع والتفتيش المذل الذي يبدأ بإخضاع الأمتعة لأجهزة الكشف ولا ينتهي بفحصها من قبل الكلاب البوليسية، قبل أن يُجبر المسافرون من جديد على إعادة رزم حقائبهم في السيارات بطريقة معذبة، وعند الوصول إلى المطار تخضع الحقائب نفسها للتفتيش ثانية وثالثة بأجهزة الكشف الإلكترونية وتعريضها للكلاب البوليسية مجددًا، وقبل الدخول إلى صالة المغادرة يتعرض الركاب وحقائبهم لآلية التفتيش نفسها وبطريقة معقدة ومذلة، حتى يكفر المسافر بالساعة التي أنتوى فيها السفر عن طريق مطار بغداد.
ويعود تاريخ إنشاء المطار إلى عامي 1979 و1982، بواسطة شركات فرنسية وبريطانية، وكلّف إنشاؤه أكثر من 900 مليون دولار، وكان مصممًا للاستخدام المدني والعسكري، وعقب حرب الخليج الثانية، توقفت نشاطات المطار بصورة كلية باستثناء بعض الرحلات المحلية والرحلات الخيرية لنقل الأدوية والغذاء.
وأثناء غزو العراق في العام 2003 تمكّنت القوات الأميركية في 3 أبريل من احتلال المطار بعد معارك ضارية استمرت ثلاثة أيّام، وبحلول منتصف 2003 تحول المطار إلى معسكر للجيش الأميركي يضم ما يقارب 10 آلاف جندي.
قبل أن يسمح للطيران المدني بالعمل فيه، لكنه تعرض بصورة متكررة إلى هجمات صاروخية من قبل الجماعات المسلحة، فتم إغلاقه في 8 نوفمبر 2004 بأوامر من رئيس الوزراء في الحكومة العراقية المؤقتة آنذاك إياد علاوي في أعقاب أحداث الفلوجة، قبل أن يتم افتتاحه من جديد.
تقطيع أوصال المدينة
في الطريق من مطار بغداد إلى قلب العاصمة يصادفك الطريق الدولي الذي صرفت عليه مئات الملايين من الدولارات من أجل إعادة تأهيله، لكنّه بقي في المحصلة طريقًا تملأه الحفر والمطبّات واللافتات العملاقة لبعض السياسيين مثبتة بطريقة عشوائية، لكنه مع ذلك يوحي للقادمين الجدد إلى بغداد بالراحة النسبية، لا سيّما منظر النخل الحميم الذي أخذ ينمو على جانبي الطريق وفي الجزرة الوسطية الفسيحة للغاية، لكن ما إن تصل مشارف المدينة الكبيرة حتى تأخذك الطريق إلى متاهة معقدة تتخللها نقاط التفتيش وكتل الكونكريت التي تقطّع أوصال بغداد.
كان سائق سيّارة الأجرة يشكو طول الوقت من كثرة المواكب والسرادقات التي بدأ البعض بنصبها لتتوسط الطرق العامة وتقطعها أمام السيارات، الأمر الذي يضطر السائقين إلى الالتفاف والبحث عن طرق سالكة قد توصل المسافر إلى غايته.
وصلت فندق عشتار شيراتون في الساعة العاشرة صباحا حسب الحجز المسبق الذي يفترض ترتيبه بواسطة اللجنة المنظمة لمعرض بغداد الدولي للكتاب، لكن موظف الاستقبال أخبرني بعدم وجود حجز باسمي، ونظرا إلى كوني متعبا وأعاني من ارهاق رحلة طويلة امتدت من أمستردام إلى دبي ثم إلى بغداد، فقد طلبت منه حجز غرفة لليلة واحدة ريثما أتأكد من الحجز لاحقا.
دفعت ورقة مئة دولار للموظف واستلمت غرفتي التي لم تكن مجرّد غرفة في الحقيقة بل جناح كبير فيه صالة مناسبة وغرفة نوم وحمّام واسع، فأخذت دوشًا مريحا ثم عملت لنفسي فنجان قهوة نسكافيه ورحت أتأمل بغداد تحت شمس الظهيرة القائظة ودجلة بمياهه البنيَّة يسير متهاديا نحو الجنوب، ومن بعيد لمحت المنطقة الخضراء وأبنيتها الكبيرة عبر النهر ثم استدرت يسارًا لأكحّل عينيّ بمنظر المنائر والنخيل المتطاول الذي بدا في تلك اللحظة غير عابئ بما حوله، يحتضن حماماته وطلعه الخجول ويتسامى وسط الهجير، وما أن دخّنت سيجارتي في الشرفة عدت للغرفة المكيفة وتمددت على السرير محاولا النوم وتعويض الإجهاد، لكن النوم جافاني وراحت صور بغداد تضغط على مخيلتي، وما إن غفوت لبرهة، حتى رن جرس الهاتف الداخلي ليخبرني موظف الاستقبال بوجود صحافية ترغب بإجراء حوار معي.
أمنيات العاشقين
كان فندق عشتار شيراتون في الثمانينات من القرن الماضي أحد عجائب بغداد المدهشة بمصعده الزجاجي الذي يطلّ على المدينة من الطوابق العليا بمشهد ساحر، لكنّه الآن فقد بريقه وتردت الخدمات فيه وانخلعت أرضياته وبات مصعده العتيد يرتج كما لو كان عربة قطار هرم، لكن نافورة المياه الرقراقة ما زالت تنبثق تحت أقدام عشتار النحاسية التي تتوسط باحة الفندق ذات السقوف الزجاجية الشاهقة.
وفي الصباح الباكر لم يبخل المطعم في توفير شتّى أنواع الأطعمة التي أفتقد أغلبها في منفاي، فصحوت في الساعة السادسة صباحا ونزلت لتناول الفطور قبل أن أمضي في جولة صباحية باتّجاه حدائق شارع أبو نؤاس، إذ طالما أحرص على عدم تفويت صباحات بغداد الرائقة قرب نهر دجلة حيث ترسم طيور الفواخت أقواسها الآسرة ويهدهد هديلها المهادن الروح الملتاعة.
ففي تلك اللحظات أصغي لرقرقة المياه في السواقي الصغيرة وأشمّ رائحة التربة المنداة وأقرأ على لحاء الأشجار الهرمة أمنيات العاشقين. وقبل أن تتوسط الشمس قبّة السماء وترتفع درجات الحرارة، أعود أدراجي إلى الفندق لأخذ حمامي الصباحي واحتسي قهوتي وأدخّن سيجارتي الأولى.
في بغداد تجتمع النقائض كما لم تجتمع في أيّ مدينة في الدنيا، ففي الوقت الذي منعت فيه السلطات تعاطي المشروبات الروحية داخل الفندق، تصدح الموسيقى الشعبية وتهتز خصور الراقصات حتى الصباح في النوادي الليلية التي تتكاثر في منطقة الفنادق الكبرى، تلك النوادي التي تزدحم بالمسؤولين الذين يسوّقون أنفسهم في النهار كأعضاء في الأحزاب الإسلامية ويتمثلون الورع والإيمان ويسمون جباههم بعلامات السجود، لكنّهم في الليل يقرعون الكأس ويعلّقون أوراق الدولار على خصور الراقصات وصدورهن، بينما يقف أفراد حماياتهم خارجًا يحرسون سيّاراتهم الخاصة خوفًا من تفخيخها، ويحرص أسيادهم على إرسال أطباق الطعام والشراب لهم من المطاعم الملحقة بتلك النوادي، وأحيانًا يرسلون الأراجيل كي لا يشعروا بالسأم.
وليس بعيدا عن هذا المشهد، يفترش الصبيّة وبعض الفتيات المشردات الأرض خلف الجدران الكونكريتية العملاقة طمعا في بقايا الطعام المتبقي من فضلات السواق وسط حدائق الفنادق يلاحقهم عمال الخدمة النبغلاديشيون بالعصي خوف أن يُفسد منظرهم المهلهل متعة الزبائن المهمين عندما يخرجون من سهرتهم.
مظاهر سريالية
في شارع السعدون، ليس بعيدا عن منطقة الفنادق الكبرى، تنتشر محلات بيع المشروبات الروحية، حيث يجد المرء شتى الأنواع والأصناف النادرة، لكن أبواب تلك المحلات مغلقة بالحديد الصلد بينما يكتفي الباعة في التعامل مع زبائنهم من كوى صغيرة بالكاد تكفي لتمرير قناني البيرة وغيرها، بعد أن شهدت تلك المحلات الكثير من الهجمات المسلحة على أيدي أفراد الميليشيات المتشدّدة أدت لقتل الكثير من الباعة الذي غالبيتهم من المسيحيين والإيزيديين، بينما ينتشر بائعو المازات بعرباتهم الخشبية المنارة بالأضوية قرب تلك المحلات عارضين بضاعتهم من الباقلاء المسلوقة والحمص والمخلل والليمون.
في شارع السعدون الشهير ما إن يحلّ الليل، حتى ينتشر بائعو الأكباد واللحوم المشوية فوق الأرصفة ناشرين طاولاتهم وكراسيهم البلاستيكية، وإلى الأمام قليلاً يخرجن بعض فتيات الليل فزعات بملابس الرقص من أحد الملاهي فيتناهبهنّ سائقو سيارات الأجرة الذين يفرّون بهن مسرعين، بعد حدوث مداهمة من إحدى الميليشيات الإسلامية للملهى الذي لم يدفع صاحبه الأتاوة لهم في تلك الليلة على ما يبدو، وفي الشارع الموازي ينشغل بعض الشباب بنصب سرادق عزاء كبير استعدادا لمواكب الزائرين الذين سيأتون مشيا من ضواحي المدينة باتّجاه مرقد الإمام الكاظم، وهو الإمام موسى بن جعفر بن محمد، الإمام السابع عند الشيعة الإثني عشرية، قضى ردحا طويلا من حياته في سجون الخليفة العباسي هارون الرشيد حتى مات تحت التعذيب، ويقع مرقده الفخم في منطقة الكاظمية التي سميت باسمه شمال بغداد بعد أن لُقب بالإمام الكاظم لقوة صبره وزهده وقدرته على كظم الغيظ.
في الصباح تختفي مظاهر حياة الليل تماما وتُغلق محلات بيع الخمور وتتكاثر السرادق الكبيرة التي يضع الرجال أمامها طاولات الطعام والمشاوي وأباريق الشاي وأحواض المياه المعدنية المثلجة بانتظار الـ”مشاية” أو الزائرين الذي يسعون مشيا إلى منطقة الكاظمية، بينما يحرس الكثير من رجال الأمن والشرطة المحلية مسار تلك الجموع بحرص شديد خوفًا من التفجيرات التي طالما استهدفتهم في السنوات الماضية، ويجد سكان الأزقة الخلفية في منطقة البتاوين القريبة الغارقة في أكوام الأزبال التي لم ترفع منذ سنوات بروائحها العطنة، ضالتهم للتمتع بالأكل والشراب المجاني في تلك السرداقات الكبيرة التي تمتد على مدى أسبوع كامل، فيحظون بوجبات الأرز ومرق القيمة وبعض المشاوي والخبز الحار والشاي المعطّر والماء البارد.
حصار الطرق المقطّعة
في بغداد يستطيع أيّ كان قطع الطرقات الرئيسة وعرقلة السير والتسبب بالازدحامات الخانقة، بمجرد نصب موكب أو سرادق عزاء، بل ويحظى بحماية رجال الأمن الذين يعملون بتوصيات مباشرة من وزير الداخلية قاسم الأعرجي الذي ينتمي إلى منظمة بدر، إذ يحرص هذا الأخير بشخصه على توفير كافة وسائل الراحة والأمان للزائرين، حتى وإن أدى ذلك إلى شلّ الحركة في بغداد وتعطل الدوائر على مدى أسبوع كامل، بينما يكتم أصحاب المحال والمصالح وسائقو سيارات الأجرة تذمرهم خوفًا من العقاب أو الاتهام بعدم حبّ آل البيت، وهي تهمة تكفي لزج صاحبها في السجن إن لم تؤدّ إلى قتله وإباحة دمه، لهذا يميل أغلب سكان بغداد لقضاء تلك الأيام في بيوتهم بعد أن يستعدوا للتسوق بما يكفي لبضعة أيام تحسبًا لقطع الطرقات وشحّة المواد الغذائية أو انعدامها، إذ يشلّ قطع الطريق المدينة الكبيرة ويقسمها إلى نصفين لا يمكن التواصل بينهما، ويبدأ القطع من أقصى جنوب بغداد وحزامها وينتهي في أقصى شمالها، مرورًا في أبرز شوارعها الرئيسة كالكرادة والسعدون والجمهوري والوزيرية والأعظمية وغيرها.
مجازر النخيل
شهدت بغداد في العقدين الأخيرين انحسارًا مهولاً للمساحات الخضراء، وخلت الشوارع تقريبا من الأشجار الوارفة التي كانت تسهم إلى حدٍ كبير بتلطيف الجو في الصيف، بينما امتدت الأحياء السكنية على بساتين النخيل التي كانت تحيط المدينة، وعندما ألقيتُ نظرة كاشفة من أعلى مبنى أمانة العاصمة، هالني اللون البني ـ الترابي الذي طغى على الشوارع والبنايات، وبدت بعض البنايات الكبيرة ومقارّ الوزارات مثل فيلة كسيحة وسط بحر من الغبرة الموحشة، ولم تنجُ من مذبحة الأشجار والنخيل تلك سوى أشجار شارع أبو نؤاس الشهير، بعد أن تصدت مجاميع من الشباب الناشطين في التيارات المدنية لمحاولة قطعها وتحويل شواطئ دحلة إلى ساحات لوقوف السيارات في حومة الاستثمار الهوجاء، وبدل روائح ورود الرازقي والشبوا الشهيرة التي كانت تملأ الساحات والحدائق العامّة وتطل من خلف سياجات البيوت البغدادية، انتشرت روائح القمامة العطنة المنتشرة في جميع الأحياء السكنية، بينما شهد شارع الرشيد العريق بمعماره التراثي المتميز إهمالاً متعمدًا واعترى الوهن بناياته وشناشيله المطلّة وتحولت محلاته إلى مخازن تجارية عشوائية.
وعلى الرغم من كل هذه الترديات يشهد البغداديون إقبالاً على المراكز التجارية الكبيرة والمولات إثر فسحة أمنية نسبية أدت إلى انتشار المطاعم الفخمة ومراكز اللهو بطريقة تدلل على النزعة الاستهلاكية، بعد أن تحولت الدولة برمتها إلى كيان ريعي غير منتج يعتمد بالدرجة الأساس على مبيعات النفط وتوزيعها على شكل رواتب وجرايات تقاعدية، إذ بلغ أعداد الموظفين في الدولة العراقية حسب اعتراف بيانات مجلس الوزراء أكثر من أربعة ملايين موظف غير منتج ومن دون أيّ خدمات يمكن أن يقدمها هؤلاء للدولة، الأمر الذي رسخ ثقافة العطلات الكثيرة بمناسبة أو من دونها، طالما أن المصانع الكبيرة والمزارع المنتجة معطلة والقطاع الخاص مشلول تمامًا والحركة الاقتصادية في البلاد تعتمد على الاستيراد بالدرجة الأساس، بدءًا من الطماطم وانتهاءً بالسيارات الإيرانية والصينية ذات الجودة المتدنية، مرورًا بالأجهزة الاستهلاكية والمواد الغذائية الأخرى والفواكه والسجائر والمشروبات، بل حتى التمر الذي بات يستورد من إيران والسعودية بعد أن كان العراق من اكبر المصدرين في العالم لهذه السلعة الحيوية، وإذا ما أضفنا إلى هذا الخليط المحبط كلّه انقطاع التيار الكهربائي في الصيف الحار وعدم صلاحية مياه الإسالة للشرب وانعدام خدمات الإنترنت الأرضية ـ الكابل الضوئي ـ ندرك تمامًا الأسباب التي حدت بمنظمات الأمم والمتحدة الخاصة بقياس جودة الحياة، اعتبار بغداد أسوأ مدينة للعيش في العالم.
الأمل في التغيير
تقاتل بعض التيارات المدنية ومنظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب الليبرالية لتخليص البلاد من المأزق الذي دخلت فيه، بواسطة تحقيق منجز ما في الانتخابات التي باتت على الأبواب، حسب أصول وقوانين العملية السياسية التي رسخّها الأميركان وأسفرت عن السياسات الطائفية وهيمنة أحزاب الإسلام السياسي بشقيه الشيعي والسني على مؤسسات الدولة والهيمنة على صنع القرار من دون دراية أو خبرة تذكر في إدارة الدولة.
ويشعر معظم العراقيين بالإحباط من العملية السياسية وعدم الرغبة في المشاركة بالانتخابات التي ستجري مطلع الشهر المقبل، لقناعتهم المطلقة بعدم إمكانية حدوث تغيير يذكر في ظل العملية السياسية الحالية التي صممت لبقاء أحزاب السلطة مهيمنة على مقدرات البلاد لسنوات طويلة.