بقعة ضوء في ظلام دامس: الأدب العربي في مرآة الاستشراق البولوني
"نحاول أن نفنّد الأكاذيب الشائعة في الإنترنت ووسائل الإعلام الأخرى، نحن في الجامعات البولندية نعتبر أبحاثنا ودراساتنا ليس فقط كعلم بل أيضا كنوع من الرسالة وربما هذا هو ما يميزنا عن الاستشراق الغربي" (مارك جيكان)
كيف السبيل إلى بناء علاقة جديدة بين الاستشراق والثقافة العربية؟ كيف نقرأ إنجازات هذا التواصل المعرفي في مستواه الإيتيقي، بعيدا عن شوائب الهيمنة وفرضيات الاستعمار الثقافي؟ وإذا كان المستشرقون في العالم أكثر من أن يحدهم حدّ فهل ينهلون، جميعهم من معين واحد، ويشتركون في النيّة والغاية وقد اختلفت مرجعيتهم وتباعدت جغرافيتهم؟
لقد هاجم إدوارد سعيد في كتابه ” الاستشراق” جميع المستشرقين وردّ جهودهم إلى أيديولوجيا استعمارية قائمة على هدف الهيمنة الثقافية وضرب النسق المعرفي العربي من خلال القراءة غير الموضوعية للمعرفة العربية أدبا وفنا وفلسفة ونزّل مشروعهم الاستشراقي في ما وسمه صاموئيل هنتنغتون بصراع الحضارات، ورغم أن هذا الهجوم مبنيّ على أدلة وبراهين لم يكفّ إدوارد سعيد عن استحضارها والإلحاح عليها سواء في كتبه العديدة أو في محاضراته التي جابت أكبر جامعات العالم فإننا نزعم أنه هجوم ينحو جهة العموم ولا يميّز بين استشراق وآخر الأمر الذي جعل كثيرا من المستشرقين يتصدون لفكر سعيد العدائي تجاه المثقفين الغرب الذين تشبّعوا بثقافة الشرق وتغذّت روحهم من روحها حتى أصبحوا أعلم بهذه الثقافة من أهلها وساهموا في اكتشاف أعلام لم يكن لنا عهد بهم وبأجناس في القول تركناها لغبار النسيان يخفيها..
ولعلّ أبرزهم المستشرق البريطاني برنارد لويس الذي فنّد مزاعم إدوارد سعيد واعتبر نقده أحادي الرؤية يجعل من الاستشراق الفرنسي نموذجا تنضوي ضمنه جميع المشاريع الاستشراقية الأخرى، ولها، جميعها الأهداف نفسها، ودعا إدوارد سعيد إلى البحث في الاستشراق الألماني أو الأميركي مثلا ليتبيّن له غلوّ نقده ووهن حصره لكل استشراق في النموذج الفرنسي أو الإيطالي.
وفي هذا السياق يجيء تعقيبنا هذا، في الوقوف على ثقافة استشراقية مغايرة بعيدة عن النموذج الذي نقده إدوارد سعيد.. إنّه الاستشراق البولوني.
هنا تعقيب على الحوار الذي أجرته خلود شرف مع المستشرق مارك جيكان في العدد السابع والخمسين من مجلّة “الجديد”، وهي محاورة هامة من حيث استجلاء علاقة المثقف البولوني بالثقافة العربية عموما وبالشعر العربي على وجه التحديد في مستوى التأثير والتفاعل، وفي مميزات الاستشراق البولوني كمشروع معرفي يركّز على بناء جسور تواصل بين ثقافتين لا تجمع بينهما نيّة هيمنة أو نفي.
بواكير الاستشراق البولوني
ندرك من خلال تصريحات مارك جيكان أن تاريخ الاستشراق البولوني غير بعيد زمنيا إذا ما قرنّاه بالاستشراق الغربي، إذ يعود إلى القرن التاسع عشر خاصة في جامعة فيلينيوس وقد تعزّز هذا الاهتمام بالثقافة الشرقية مع استقلال بولونيا سنة 1918 مع تاديوش كوفالسكي ثم أخذ يتطوّر عن طريق الترجمة والرحلات التي جعلت المثقف البولوني يتعرّف إلى ثقافة بعيدة عنه فيعجب باختلافها أو بلغتها أو بجذورها فيتعمق فيها ويكتب عنها.
يقول مارك جيكان “بدا اهتمامي بالثقافة العربية من خلال اطلاعي على ترجمة المعلقات السبع التي صدرت باللغة البولندية في بداية ثمانينات القرن الماضي”، وهذا يدلّ على أن تعرف البولوني إلى ثقافة الشرق وأدبه أساسه المصادفة، التي ستؤسس لتواصل معرفي وتفاعل حضاري بين ثقافتين متباعدتين في التاريخ والجغرافيا.
تأثير الثقافة العربية في الأدب البولوني
“اكتشفت في هذا الشعر عالما جديدا لم أتوقع وجوده، الصور الفنيّة الجديدة والاستعارات الجديدة وبعض معلومات عن واقع العالم العربي” (مارك جيكان).
يرى مارك جيكان أن تأثير الشعر العربي في الثقافة البولونيّة هامشيّ، انطلق أساسا من الرحلات إلى الشرق التي قام بها الشاعر البولوني يولوش سلوفاتسكس وتحديدا إلى لبنان وفلسطين وسوريا ومصر في الفترة ما بين 1836 و1837 وهي رحلات أثّرت في الأدب الرومنطيقي البولوني بشكل طفيف.
غير أن الوضع السياسي الذي كانت تعيشه بولونيا في القرن التاسع عشر غذّى هذا التأثير بشكل لافت إذ كانت بولونيا في تلك الفترة مقسّمة بين القوى الأوروبية الكبرى وكان البولونيون يشتاقون إلى الحرية والاستقلال، ومن هنا أصبحت الشخصيات العربيّة الحرّة رمزا لطموحات الشعب البولوني ومن ذلك تواتر ذكر الشنفرى في شعر سلوفاتسكي لما يحمله من قيم التمرّد والحريّة والذود عن الشرف فأضحى بذلك الشنفرى المعادل الرّمزي للحرية التي يشتاق إليها البولونيون.
إضافة إلى ذلك يؤكّد مارك جيكان أن هناك من استفاد من المستشرقين البولونيين المعاصرين من التراث العربي مثل ياروسلاف أفاشكيفيتش في قصيدته النثرية “العودة إلى بغداد” أو بوليسواف ليشميان في “قصص سمسم” و”مغامرات السندباد البحري” وغيرهم كثير.
ولعلّ ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة إلى اللغة البولنديّة لأوّل مرّة في نهاية القرن الثامن عشر ومباشرة من العربية في سنة 1973 يمثّل أهم خطوة استشراقية بولونية كبرى لما أتاحه هذا الكتاب للأديب البولوني من رموز وقصص مشرقية ما يزال ينهل منها ويستحضرها في تجربته الإبداعية شعرا ونثرا إلى اليوم..
رغم أن هذه الترجمة حجبت الرؤية على عيون الأدب العربي كشعر المتنبّي والمعرّي يقول مارك جيكان في هذا السياق “بصراحة في عيون الغرب أهم إنجازات أدبيّة للحضارة العربيّة هو كتاب ‘ألف ليلة وليلة’ وليس شعر المتنبّي أو أبي العلاء المعرّي، يؤلمني هذا الواقع كثيرا ولكن هذه هي الحقيقة المرّة. شهرزاد وشهريار أو السندباد البحري هم الذين أصبحوا رمزا للأدب العربي في الغرب، وهم الذين شكلوا رأي الغرب في الشرق العربي منذ القرن الثامن عشر وربّما حتى الآن”.
تبرز مواقف مارك جيكان من علاقة الثقافة الشرقية العربية بالثقافة البولونية أن الحديث عن استشراق معرفي محض، أمر ممكن جدا، وأن التفاعل المعرفي والحضاري لا بدّ أن يستند إلى مفهوم التواصل وإلى جدليّة التأثر والتأثير حتى يحقق وظيفته التواصلية ويساهم في التقريب بين الثقافات بعيدا عن أيّ مشروع استعماري ثقافي أو اقصاء حضاري، لذلك كانت التجربة الاستشراقية البولونية، على هامشيّتها وتأثيرها الكوني المحدود بقعة ضوء في ظلام.