بقيّةُ الحكاية!

الأحد 2016/05/01
تخطيط لحسين جمعان

I

تردد طويلاً قبل أن يحزم أمره. فالطالبات اللواتي عرفهن لم يرغبن بالمضي إلى أبعد من المشاوير. الطريق من المدرسة وإليها. فما الذي حَصّله من ذلك غير سلامٍ عابر، وغمزة عين، وبالكثير الكثير احتكاك في الصعود إلى الباص، وفي النزول منه.

وكان ذلك قد أشعل النيران داخله ولم يطفئها. فصارت الرغبة تنهشه كأفعى. تقض عليه نومه وأحلام يقظته. أصابع طريّة اشتبكت بين أصابع يديه وطارت به إلى النجوم. فكيف لو مضى الأمر أبعد من ذلك؟ كيف لو عانق الجسد بكامله. الأنثى كما هي!

وفي البداية لَعَنَ الفكرة بمجملها، وأحسّها إهانة له ولصديقه الذي لم يكن قد مضى على ابتداء تعرُّفه به زمن طويل. وأوَّل أمرهما صنَّفه كشيطان، وندم على اللحظة التي تعارفا فيها. وقرّر جدياً أن يضع حدّاً لعلاقتهما. ولن يحدث ذلك إلاّ إنْ ترك اللقاءات بينهما تتراخى. تباعُدُها كان أحسن له. أحسن لهما.

فهو لم يشأ أن ينخرط في الفكرة المجنونة التي انجدلت صداقتهما من حولها. وتعجّب أصلاً من وجود نساء كتلك التي حكى عنها. بيعٌ وشراء. هكذا رأى الأمر. وإن كان هناك مَنْ ارتضى أن يبيع فلن يكون هو مَنْ يشتري. ولتذهب بقية الشلة أينما تشاء.

وكانت الفكرة في البداية مقرفة، ومخيفة. لن يمضي بها أبعد ممّا مضى حتى الآن. وصار كلما فُتِحت تلك السيرة يُغْلِقُها بقسوة. وآلمه أن يرى بقية الأصدقاء يستسيغونها. يرونها خلاّبة. أوّلُ الرغبات وآخرها.

وكان يراها اختلاقاً باختلاق. لقد اخترعها ذلك الصديق الحربوق ليتسيَّدَ عليهم. وليمشي بينهم كالطاووس. وأثَّرَ التفكير في تحقيق رغبته تلك على دراسته. عليه أولاً أن يحصل على البكالوريا. وماذا بعد البكالوريا؟ دراسة الجامعة. أينتظر أيضاً إلى ما بعد ذلك؟ حتى يتزوّجَ مثلاً؟ وكيف سيُخْرِس النبعَ المتدفقَ في داخله؟

وحاول في البداية أن يتحاشاه ما أمكنه التحاشي. وذلك الصديق هو في الأصل طالب مشاغب. ولا يعرف كيف صادقه هو وزملاؤه. كيف أفسحوا له مكاناً داخل شِلَّتِهم الضيّقة. هو الذي لم يره أحدٌ يفتحُ كتابا أو يجيب عن سؤالٍ من الأسئلة!

على أنَّ الهروب منه ما لبث أن انقلب إلى ما يشبه الهَوَس. فلكي يهرب من الأمر برمّته كان عليه أن يُبقيه في دائرة الاهتمام. فصار ظلُّ الصديق لا يفارقه لا في نومه ولا في يقظته. كان يميّز رأسه من بين رؤوس الجميع، ولو كان في الطرف الآخر من باحة المدرسة. وهرب من عذابٍ خفيف إلى عذاب أقسى.

وصار الأمر أشبه بامتحان، فقرّر أن لا يتخلَّف عن الركب. لن يترك لأصدقائه أن يقولوا عنه بأنه جَوْبَنَ في اللحظة الأخيرة. إشاراتهم وتعليقاتهم كانت ستأخذ الأشياء إلى مكانٍ أبعد. وهو ما لن يسمح به. لن يترك لهم أن يشككوا به وبرجولته. أهمّ ما يمتلكه. ألم يحلم طويلاً بذلك المشوار. هناك سيجرّبها، سيجرّب رجولته في المكان الصحيح. الجسد الأنثوي، حقيقةً لا خيالات! لقد صار محتّماً أن يقفا، ذكراً وأنثى وجهاً لوجه. سيأخذ الفكرة المجنونة إلى عالم التجسيد المخيف!

يعرف أنها نزوة متعبة. لكنه امتلك من الشجاعة ما يكفي ليقول لنفسه:

“وماذا يضرُّ؟ ماذا يضرّ. كله كذب بكذب”.

وقال لهم الصديق:

- هناك، ستعرفون أنفسكم على حقيقتها. ليس المهم من هو الأوسم، بل مَنْ الأجرأ.

II

كان بيتاً ككل البيوت. وهي هنا معروفةٌ من جميع سكان الحيِّ. فالناس لاهَمَّ لهم سوى التجسس على بعضهم البعض. كل داخلٍ إلى البيت كان مَحَطَّ أنظارهم. وأكثر من مرة سأل صديقه وهو يرتجف من أعماقه:

- أحقّا.. أحَقّاً، ما من خوفٍ علينا في هذا المكان؟

كان يخشى الفضيحة بأكثر ممّا يخشى التهديد البدني. غير أن إصراره على المجيء كان أقوى من أيِّ خوف. وأولئك الذين رأوه يدخل مشوا في طرقاتهم. كانوا أقرب إلى العميان. لكأن من واجبهم أن لا يروا شيئاً!

ورغم ذلك فقد عاد يسأل:

- أشكال الناس هنا مريبة. أحقّاً لا خوف منهم؟

وأتته الإجابة:

- سَبَقَ وأن قلت لك: هنا لا خوف من أحد. هنا يخافون منك. أنت من يخيف الآخرين. فتعال ولا تخف!

III

والآن بلغ النقطةً التي ما عاد فيها للأسئلة أيُّ نفع، فقد صار داخل البيت، في قلب الصالون، فهل تخيَّل شيئاً آخر غير الذي شاهده؟

هنا سيتركه الصديق، ويمضيان كلٌّ إلى غايته.

- كُن يقظاً. عليك أن تُركِّز جيداً. إن أخفقتَ الآن فقد لا تنجحُ ثانيةً!

هكذا قال الصديقُ فأيقظه من شرودٍه. حدجه بنظرةٍ قاسية. كان يحسُّ بأنَّه يقترب الآن من شأنٍ شخصي، وكمن يُشكِّكُ بشيء. وكان قد اشترط عليه منذ البداية أن يوصله هناك وينصرف.

وفي بادئ الأمر رفض الصديق ذلك الطلب اللاعقلاني. غيرُهُ من شلّة الأصدقاء أذعنوا لكل ما طُلِبَ منهم. كان يطلب حَقَّهُ كمُتسلِّطٍ بأن يكون الأوّل في الليلة الأولى، وإلا فإنهم لن يعرفوا طريقهم إلى تلك المرأة-الحلم!

وجميعهم رغبوا بشكلٍ محموم بأن يعيشوا تلك اللحظة التي ألهبت مخيلاتهم بأيِّ ثمن. ومِنْ جانبه رأى مسألة أن يسبقه الصديق إلى جسد تلك المرأة أمراً يبعثُ على الغثيان. فقد أرادها له وحده، حتى من قبل أن يراها عياناً. اللحظة التي أرادها، أرادها لنفسه فحسب. الماضي والمستقبل في تاريخ المرأة-الحلم لم يسأل عنهما. ولم يردهما!

وكان الوِدُّ بينه وبين صديقه أكبر من أن يقف في وجهه مثل ذلك التفصيل العابر، رغم أنه كان مهمّا لكليهما.

– طيِّب. كما تريد.. ولكن..

وحتى هذه اللكن لم يستلطفها مِنْ صديقه. لقد سبق وأن أملى اشتراطاته. لقد أراده أن يأخذه إلى هناك، يتركه عند الباب ويغادر، فلماذا اللكن تلك؟

IV

ولكن…

لكن ما بالُهُ الآن؟ ومِمَّ هو خائف؟ ولماذا قال لصديقه:

- تعال. أدخل كي تُعَرِّفنا على بعضنا البعض.

وكان الصديقُ مطواعاً، كما لو أنّه خاتمٌ بين يديه، وهو في الأصل ليس أكثر من خاتم في يد من يريده من المريدين!

ومن جانبها، فاجأتهُ المرأة بشكلها. وفاجأتهُ بعمرها. كان يتخيَّلُ أمثالها عجائز يزحفن إلى الفراش زحفاً، وقد امتلأت وجوههن بأصباغ قبيحة. غير أنَّ هذه كانت من الجمال والشباب بحيث لو فكَّرَ بالزواج لما اختار غيرها. لكأنّما هي نسخة كربونية عن صاحبته “ابتسام”. “ابتسام” التي لم تعطه أكثر من أصابع تشابكت مع أصابعه. فلماذا هي عنيدة هناك، ومطواعةٌ هنا؟

وأجلستهما في الصالون، ومضت كي تُعِدَّ لهما القهوة. قهوة أهلاً وسهلاً! وسعى الصديق ليخرج من الصورة تماماً:

- طيِّب. سأترككما..

قال بخفوت. فشَدَّه من كُمِّ قميصه:

– اجلس، اجلس حتى نشرب القهوة.

- ولكن القهوة لك.

ثم اقترب موشوشاً:

- هذا طلبك. أنت بنفسك طلبت ذلك. لقد طردتني من قبل أن تبدأ. ألا تتذكر؟

V

كان في وضعٍ لا يُحسَدُ عليه. في المكان الذي تاقت نفسُه الملتهبة كثيراً لمعانقته. وفيما مضى لم يترك صغيرة أو كبيرة إلاّ وسأل عنها، فهل كان في مكانٍ رسمته مخيّلته أم في المكان الذي لم يحلم بغيره؟ فلماذا؟ فلماذا امتلأ إذن بخوفٍ عارم، ويرتجفُ من رأسه إلى أسفل قدميه؟

فها هو الآن وبدلاً من أن يدع صديقه يمضي في حال سبيله طلب منه أن يتريث. أكانت معركةً، وقد أخذ يحشدُ لها؟ وإن كانت معركةً، أفليست معركته وحده دون سواه؟

كان أكثر ما أخافه أنها وبعد أن وضعت صينية القهوة على الطاولة ذهبت إلى الستارة وأغلقت الشقَّ الصغير الذي كان يأتي منه بعض الضوء فصارت الغرفة كهفاً، وصار ابن العتمة والغرائز. المكان الأمثلُ لثُلَّة المجانين التي كان واحداً منها!

وكان صديقه ما يزالُ موجوداً. فالقهوة لكليهما. يعرف أنه سيكون وحيداً بعد لحظات. وستكون قد سبقته إلى الغرفة.

سأل صديقه بخفوت:

- أين؟ أين؟

أراد أن يرى ساحة النزال قبل أن يتقدّم. فأشار الصديق إلى غرفة جانبيّة. كانت معتمة هي الأخرى. وكان قد فهم أن عليه أن يميت جميع حواسِّه ماعدا حاسّة اللمس. وكان صديقه قد ألمح إلى مثل ذلك حينما قال له محذِّراً:

” لن ترى أيَّ شيء. أُحذّرك من الآن. لن ترى ما تريد”.

وهو الذي لم يشأ أن يستمع إلاّ إلى ما تقوله له أفكارُهُ الجامحة كان يتوق لأن يرى الجسد الأنثوي بكامل عُريِهِ. أراد أن يتملاّه طويلاً قبل أن يمضي هو الآخر في طريقه. كان يريدها أن تقف وسط الغرفة مثل تمثال وهو يدور من حولها حتى يدوخ. يدورُ ويدوخ!

وأراد في الأصل أن يرى ما يختبئ تحت الملابس المذهلة للبنات. كانت الثياب تخلبُ لُبّه الفَتِيَّ، وترسم نهايات لا ابتداء لها. رؤيتها عارية كانت ستدفع به إلى الانفجار. وكان يريد الانفجار بحضورها، ووسط غرفتها، في بؤرة الضوء الباهر، لا في غرفته الباردة والمعتمة. وذلك الكهف يراه كل يوم. يدخله دون وجل. وكل يوم يثبتُ رجولته فيه، أو في شيء يشبهه.

وقال الصديق بعد أن كرع فنجان قهوته سريعاً.

- طّيّب. أنا سأذهب. سأترككما. فذلك أحسن..

وحاول أن ينهض.

VI

وصديقُهُ لن يتركهما في مواجهة بعضهما البعض لا الآن ولا لاحقاً. وهو لن يدعه يفعل به ذلك. فالكلام الوحيد الذي سمعه من المرأة-الحلم أرعبه بأكثر مما كان مرعوباً:

” ماذا؟ أخائف؟ أأخيفُ إلى هذا الحدّ؟ تعالَ. تعال ولا تخف. ممَّ تخاف؟ لا تخف من شيء. هنا أمان، والناس نيام. لم يرك أحدٌ وأنت تدخل. ولن يراك أحدُ وأنت تخرج! هنا، في الكهف الذي صَنَعَتُهُ كي يتسع للجميع، لا زمان، ولا مكان، ولا أحد يرى أحداً”.

VII

وكانت حكاية. ولم يتذكر غير خاتِمتها. وحتى هذه تبخّرت بعد ثوان. وخشيَ أن يكون ذلك اختلاقاً منه. وأنه لم يسمع أيَّ شيء. وأن لا يكون لها أيَّ وجود في الأصل. وتكون مجرد وهمٍ بوهم. فسأل صديقه بشيءٍ من الخَجِل:

- أحكيتَ لي شيئاً؟

فقال الصديقُ:

- نعم. لقد حكيت لك أشياءَ كثيرة!.. أشياء وأشياء.

- غريب! أصحيح؟ كأنني لم أسمع شيئاً. كأنني لا أتذكر شيئاً. أذكر فقط كلمات أخيرة، صُوَراً ممزّقة، علقت في رأسي. وحتى هذه تبخَّرت تماماً، ولا أذكر منها الآن شيئاً!

وكان يكلّمه. وهذا يعني أنه موجودٌ معه في الغرفة، ولم يكن في أيِّ لحظة من اللحظات واحداً من خيالاته. وكان مما أخجله أنه وبدلاً من أن يكون آذاناً صاغية أمام صديقه المخلص والمُغْوي، كان عيوناً نائمة. وصديقُهُ لم يكذب على أحدٍ من قبل كي يكذب عليه!

ولم يكن الخجلُ قد بارحَه تماماً حينما أضاف بلهجة المترجّي:

- أرجوك. أرجوك أن تعيد عليَّ ما سبق أن مررتُ به. أريده حرفاً حرفاً. وهذه المرة أعدك بأن استمع جيداً.. سأحفظ عن ظهر قلب كل ما ستقوله لي. لن أكون لا مبالياً بعد الآن!

وبينما كان يقول ذلك، ويضعُ نفسه في موقف المتسوّل من غريب، كان الغريبُ، المخلصُ والمُغوي، ينظرُ في اللحظة عينها إلى ساعة يده. وكانت تعابير وجهه توحي بأنه تأخّرَ كثيرا. عليه أن يمضي في طريقه منذ وقت. كثيرون يريدون روحَهُ المصنوعة من سرابٍ فتّان، وهم الآن يقفون في طابور الانتظار!

وكان في الأصل قد تريّثَ من أجله، ومن أجل ما بينهما من وِدٍّ!

- اسمع.

- قال وهو يحاول أن يهرب منه:

- أنا الآن في عجلةٍ من أمري. أنسيتَ بقية الشلّة؟ هم أيضاً يريدون منّي ما أردته أنت. سأزورك ثانيةً. سأزورك بكل تأكيد. أما الآن فأرجوك أن تبتعد عن طريقي كي أخرج. ألا ترى أنك تحجز الباب؟

وانتبه إلى أنه كان قد صار عند عتبة الباب. كلاهما كانا على وشك الخروج. صاحبه يريد أن يعود من حيث أتى، وهو إلى أين؟ إلى فراشه المخيف ثانيةً؟

وحاولُ أن يستبقيه. أن يستبقي صديق السراب الفتّان. فقد كان خائفاً من البقاء وحيداً مع أحلامه، أو بشكل أدقَّ مع كوابيسه.

سأله:

- ولكن متى؟ متى ستأتي ثانية؟

ثم سألهُ من جديد:

- أأكيد؟ أأكيد.. هنالك مرةً ثانية؟

وأجابه الصديق:

- هنالك مرّات ومَرَّات. ولكن ليس في أيِّ وقت. حينما تغفو ستراني فوق رأسك.

ثم تابع كما لو أنه غير متيقِّن من أنَّ صديقه المُسْتَجدَّ هذا سيفي بالوعد:

– عندما سآتيك ثانيةً اعمل جهدك أن تظلَّ صاحياً. إن لم تكن صاحياً أثناء نومك فلن تتذكرني. لن تتذكر حرفاً مما أقوله لك، فأنا أقول الكثير!

وأضاف وقد أصبح خارج الباب:

- نَم وابق صاحياً. في المرة القادمة ابقَ صاحياً وأنت نائم. مِنْ أجلي، ومِنْ أجلِكَ، ومن أجل بقيّة الحكاية. ألا تريدُ بقيةَ الحكاية؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.