بلاد الرَّافدين.. ثوابت الجغرافيا وصور التَّعايش
قبل البدء، بُني هذا الكتاب على روايات وقصص وجدت متفرقة بين صفحات الكُتب التُّراثية، جُمعت تحت هدف واحد، هو محاولة تكريس التَّعايش الذي اهتزت تحت وطـأة أحداث كبرى، فاقت طاقة النَّاس، أتينا بقدر المستطاع على نصوص وحكايات مِن التَّراث والأدب. يعذرني القارئ اللبيب أنه لم يكن كتاباً نظرياً أو فكرياً، بمعنى التحليل واستخلاص النتائج، بقدر ما جاء كتاباً تُراثياً، في مادته وأسلوبه، لذا لا يتأمل مِن أكثر مما في صفحاته.
أحسب أنه جامع بين الفائدة والمتعة، لكثرة الاستشهادات بأقوال الأولين وأفعالهم، مِن مقالة أو فتوى أو تصرّف ما، نصوص تواجه نصوصاً، فالشَّيخ المسلم الذي يقوم بتدريس التَّوراة والإنجيل لأهل ملّتهما في مسجده غير الذي يمنعهم مِن دخول المسجد، ويلزهم إلى حافاة الطَّريق، والوجيه الشِّيعي الذي يؤسس حزباً وطنياً مع الوجيه السُّنَّي، على قاعدة الوطن، ليس كالوجيهين اللذين يقودان الطائفتين إلى التَّهلكة الطَّائفية، هذا هو فحوى الكتاب، جاءت النُّصوص موثقة، نثرها وشعرها. كتاب بسيط بمادته معقد في غرضه.
لا تستقر البلدان المختلطة، قومياً ودينياً ومذهبياً، إلا بتكريس فكرة التّعايش (coexistence)، ذلك بما فيها من أحداث مثقلة بالخصومة الدّينية الطّائفية والوئام على حد سواء، وبما فيها من نصوص دينية وفقهية وقومية، لا تساعد في الغالب من الأحيان على سلاسة العيش، والتّضامن والتّكافل الاجتماعي، على اختلاف القوميات والأديان والمذاهب، لكن لو خلا تاريخ تلك البلدان مِن حالات وئام ساعد على التّعايش لانتهت تلك الشّراكة، وتصحرت اجتماعياً، وظلت للدين والمذهب والقوم الأقوى.
مع أخذنا بنظر الاعتبار بأن الهجرة عند الأزمات لم تبد سهلة، مثلما هو الحال اليوم، بوجود بلدان تستوعب المزاحين، ومنظمات دولية تُسهّل لها الهجرة، وهذا ما جعل العِراق يفقد مواطنيه اليهود كافة تقريباً، ثم قل عدد مواطنيه المسيحيين والصّابئة المندائيين إلى درجة مخيفة على وجودهم.
بطبيعة الحال، لا يبدو العراق البلد النّاشز من بين بقية بلدان المنطقة في تعدده وفي تاريخ اضطراباته، لذا ليس من الصّحيح تمييزه بوصف “العنف الدّموي”، أو العصيان المتواصل، الذي لا يخفته ولا يكبحه إلا شخصيات من صنف ولاة أشداء قساة، على نموذج الحجَّاج بن يوسف الثّقفي (95 هـ 713 ميلادية)، في العصر الأموي.
إلا أنه بعد قراءة تاريخ العراق، الفترة الإسلامية على الأقل، تبرز السّياسة عاملاً مهماً في اضطراب التّعايش بين أهل الجُغْرافيا الواحدة. كذلك تبرز في التّقارب بين المكونات الاجتماعية، على شاكلة ما حدث بين الشّيعة والسُّنَّة العام (442 هـ 1050 ميلادية) عندما اقتضت المصلحة الجماعية لأهالي بغداد أن يكون جمعاً واحداً ضد والي شرطتها، مثلما سيأتي ذكر ذلك لاحقاً.
عاد التَّاريخ نفسه بحوادث مشابهة العام 1920 حينما تمكن السّياسيون من الجمع بين المولد النّبوي وعزاء عاشوراء، حتى تماهت الحدود بين الفرح، حيث ميلاد نبي، والحزن والنّواح حيث قتل إمام. حصل ذلك عندما يتنازل كل طرف عمَّا احتفظ به من تعصب للمقدسات، والشّعارات، التّي طالما رفعها ضد خصمه في حمأة الخلافات.
تكرست معوقات للتعايش في الثّقافة الدّينية والقومية، تشتد تأثيراتها بدوافع سياسية. فالجماعات الدّينية السّياسية، شيعية كانت أو سُنَّية، عندما تصدرت الواجهة في السّياسية والسّلطة ليس بإمكان شخوصها الاستغناء عن ذلك الإرث، وعلى وجه الخصوص إذا وجدته وسيلة لجذب وتأييد الأتباع، فتداوم على إبرازه والتّذكير به بين فترة وأخرى، خشية من تخلخل الصّف الطّائفي خلف قيادتها.
الأخطر من هذا، ما كان يصرّح به ويفتي رجل الدّين ضد الأديان أو المذهب الآخر في مجلس محدود، من منبر خطبة جمعة أو حديث مِن على منبر مجلس حسيني، أخذ يبث الآن عبر الفضائيات، التي تمتلكها جماعات وكيانات متنفذة، ويسمعه الملايين.
إن الاضطراب الاجتماعي، المتعاظم اليوم، ليس نتاج يومه، بل ظهر بعد تراكم تخطى محطات عديدة من التّسامح والوئام عبر التَّاريخ. يبدو أنه كان منجزاً من منجزات السّياسة في كل الأعصر، وحالياً برز واضحاً في تشكيل الكيانات السّياسية، التي قسمت العراق إلى غيتوات طائفية وقومية، العراق كان غائباً بينها، وعلى وجه الخصوص في السّنوات الأولى بعد سقوط النّظام السّابق (أبريل/نيسان 2003). سبقها مجلس حكم كان التّقسيم الطّائفي ركناً أساسياً من أركانه، حسب ما قرره الحاكم المدني الأميركي بول بريمر، حتى صار الأمر واقعاً، وكان بالإمكان درء هذه السّياسة، لو تشكلت حكومة تحل المشكلة لا تخلق مشكلة جديدة.
كان ذلك بعد غياب تراث العمل العراقي المشترك الحزبي والسّياسي في عهود الدّولة السّابقة؛ وبالتّأكيد كان عمل المعارضة العراقية السّابقة متجهاً بهذا الاتجاه: أحزاب شيعية، وقوى سُنَّيَّةً، وأحزاب كوردية. لم يكن للقوى ذات الاختلاط العراقي، من اليسار أو اليمين، أثر بليغ في السّاحة. ذلك بسبب أن خارطة عمل المعارضة حددت، من قبل، على أساس الهويات، حيث شدة الضّربات ضد مناطق الكورد وضد الشّيعة، أسفرت عن العودة وبقوة إلى أحضان القومية أو المذهب، ومعلوم عندما تضعف الهوية الكلية، والمتعلقة بالدّولة، تقوى الهويات الجزئية أو الفرعية، فتنشأ دول داخل دولة.
فكرتُ أن استهل الكتاب، قبل المقدمة هذه، بمقالٍ كنتُ كتبته عشية سقوط النّظام السّابق، بدخول الدّبابتين الأميركيتين إلى وسط بغداد(9 نيسان/ أبريل 2003)، ونُشر بعد ثلاثة أيام في صحيفة “المؤتمر”(11/نيسان، العدد 245)، وفيه تذكير بالانتقام العباسي مِن الأمويين، الذي ارتبط ببيت من الشّعر، فالمقال نُشر تحت عنوان “لا تسمعوا لسديف بن ميمون الشّاعر”، على أنه، حسب ما ورد في التَّاريخ حرّض على الانتقام، الذي وصل إلى نبش القبور، مع عدم إغفال ما فعله الأمويون أنفسهم بخصومهم، لكن مَن يريد بناء وطن خالٍ مِن الاستحواذ والهيمنة عليه الشّح عن سُديف الشّاعر. لكنني وجدتُ المقال كأنني كتبته داخل كهف، فخمسة عشر عاماً، مِن ممارسات لا تُليق بالوطن ولا بالمواطن، نظرتُ في لغة المقال وجدته محلقاً بالأماني والخيالات، فسديف أقوى مما نطلب ألا يُتبع، وإذا بالثّأر صار شعاراً.
مِن الصّدف أن اكتب موضوعاً قبل أيام مِن سقوط بغداد، ويُنشر في “الشّرق الأوسط” يوم التّاسع من نيسان (العدد: 8898)، بلا تخطيط. كان تحت عنوان “نازلة النّوازل”! مع أن لا محرر الصّفحة الثّقافية في الشّرق الأوسط، الأديب والشّاعر فاضل السّلطاني، ولا أنا نعلم أن يوم الأربعاء، مِن ذلك التَّاريخ، كان “نازلة النّوازل”، ولم أختر العنوان لهذا الشّأن، إنما كان للمصادفة دورها، بل ليوم الأربعاء مصادفاته في النّكبات عبر التَّاريخ.
كنت جمعتها ونشرتها في مقال تحت عنوان “نَواحِس الأربعاء” (الشّرق الأوسط 9 نيسان 2008 العدد 10735)، وتلك الصّادفات الحوادث التّي وقعت فيه. إلا أن أهل العراق كانوا يتطيرون منه «لا يتناكحون، ولا يسافرون فيه، ولا يدخلون من سفر، ولا يبايعون فيه بشيء، ولا بالبغل الأغرِّ الأشقر. قال: فدعا الحَجاج ببغلة شقراء محجّلة، فركبها خلافاً لرأيهم، واستشعاراً بطيرتهم، وتوكلاً على اللّه، ونادى مناديه في عسكره: أن انهضوا إلى قتال ابن الأشعث”.
كانت معركة دير الجماجم (قريباً من بابل)، التي أرادها الحجاج (ت 95هـ) يوم الأربعاء، بينما حاول ابن الأشعث (قتل 85هـ) إبعادها عن هذا اليوم المنحوس لدى جيشه من أهل العراق. معركة فاصلة ليست كبقية المعارك، فلخطورتها عُرض على عبدالملك بن مروان إقالة الحجاج وإمرة ابن الأشعث، فقيل «نَزع الحجَّاج أيسرُ من حرب أهل العراق»! قُتل فيها ألوف مؤلفة، «أخذت السّيوف تُبري الرّقاب»، وأعدم فيها الحَجاج الأسارى من أمثال: الفقيه سعيد بن جبير، والشّاعر أعشى همدان، والأخير لم ينفعه المديح:
ويُنزل ذُلاً بالعراق وأهله
لِما نَقضوا العهد الوثيق المؤكدا
وكان الأربعاء يوماً لاجتياح بغداد من قِبل المغول التّتار، زحفوا عليها كالقوارض، من الأسوار والبوابات، واتفق أن يكون من أيام صفر، السّابع منه، وهو يوم منحوس كما تقدم، وشهر أنحس لدى العراقيين، في ذلك الزّمان، حتى جمع النّحسين أبو حيان التّوحيدي بقوله وهو يتحدث بلسان حال أحدهم «يا يوم الأربعاء من آخر صفر، ويا لقاء الكابوس في وقت السّحر، يا حرَّ آب عند سكان العِراق، يا خَراجاً بلا غلة، يا سفراً مقروناً بعِلة، يا أخلق مِن طيلسان ابن حرب، يا أشأم على نفسه مِن ضرطة وهب..”.
قال رشيد الدّين الهمداني (قُتل 718هـ) مؤرخ وطبيب المغول “كان بدء القتل العام والنّهب في يوم الأربعاء، السّابع من صفر، فاندفع الجند مرة واحدة إلى بغداد، وأخذوا يحرقون الأخضر واليابس، ماعدا القليل من منازل الرّعاة، وبعض الغرباء”.
وكان قتل الخليفة عبدالله المستعصم في الأربعاء التّي تلتها، الرّابع عشر من صفر، وهو اليوم الذّي قرر فيه هولاكو ترك بغداد «بسبب عفونة الهواء». (نفسه)، ولربما لنفس السّبب والغاية غادرها الغازي الأميركي الجنرال تومي فرانكس، فبعد فترة وجيزة من مكوثه في القصر الجمهوري هنأ جيشه على الانتصار وغادر مصحوباً بألف سؤال وتساؤل!
لسنا بصدد المشابهة بين عصر وآخر، ولو أمعنّا البحث لوجدنا أكثر من أربعاء لها نَحسها وسُعدها! لكن يبقى العجب من تكرار مناسبة الاجتياح (الأربعاء 7 صفر 656هـ)، وبالصّورة نفسها، التّي عرضها طبيب المغول لا عدوهم بالقول «أخذوا يحرقون الأخضر واليابس»، وبما حدث في الأربعاء الفاصلة (6 صفر 1424هـ)، والعذر للعامة والخاصة أن يتشاءموا. كم سيكون العذر مقبولاً إذا علمنا أن دولة البعث بدأ أمرها صبيحة أربعاء (17 تموز 1968)! واتهت في أربعاء أيضاً (9 نيسان 2003)؟ صادف الأربعاء وفاة وقتل العديد من الشّعراء الوجهاء، ولما صادف وقعت فيه وفاة المرجع في زمانه الشّيخ حسن كاشف الغطاء (1845)، قال الشّاعر متمنياً إلغاء “الأربعاء” مِن الدّهر:
إنما الأربعاءُ أثبتَ حزناً
لا استمرت في دهرنا أَربعاءُ
يأتي الفصل الأول، من الكتاب، تحت عنوان “في الجُغْرافيا والسّياسة” محاولة للكشف عن مفهوم العراق جغرافياً وتاريخياً، فالحديث أخذ يجري، بلا كياسة ولا منطق علمي، عن عِراق موهوم. على ظن أنه نشأ اسماً وحدوداً في عشرينات القرن الماضي من قِبل البريطانيين. لا ريب، كم يكون هذا الطّرح مؤثراً على التّعايش الاجتماعي، إذا ما تكرست فكرة حداثة العراق بكامله! وكم سيكون مشجعاً ودافعاً إلى انهيار الدّولة والمجتمع، وتقطيعه بسهولة إلى جزر قومية وطائفية.
حقاً أشعر، وأنا أخوض في البرهنة على بداهة اسم العراق ووجوده الجغرافي التَّاريخي، بالحرج، وكأني أرمي إلى جدل بيزنطي، مثلما يُقال، لا نتيجة منه. فمَنْ يصرّ على إنكار العراق وجوداً واسماً وكياناً وثقافةً وحتى أرضاً، لها حدود من الجهات الأربع، مثلما ذكرها البلدانيون القدماء، فأمام العقائد السّياسية والعصاب القومي والمذهبي تسقط الجُغْرافيا والتَّاريخ، ومثل هؤلاء لا يمكن إقناعهم بسفن من الإثباتات والبراهين، وهل تستطيع إثبات شروق الشّمس مِن المشرق أمام إصرار مَن يراها تشرق مِن الغرب؟! تضمّن الفصل بحثاً في اسم العراق عبر التَّاريخ، وبحثاً آخر عن ابتلاء العراق وأهله بعبارة “أهل شِقاق ونِفاق”، التي قالها عبداللّه بن الزّبير (قُتل 73هـ)، وتمثلها الحجَّاج بن يوسف الثّقفي (ت 95هـ)، دراسة تحت عنوان “مَن القائل…؟!”.
في الفصل الثّاني “كوامن المذهبية والعِرقية” قراءة عامة عن العناصر التي تدفع بتفجير هذه الكوامن، والسّبب الأول سياسي، لما للسياسيين والأحزاب مِن دور في ذلك، وجاء على مرحلتين ما قبل التّاسع من نيسان وما بعده، وانتقال أحزاب المعارضة الإسلامية إلى السّلطة. يأتي الفصل الثّالثّ “التّعايش.. اختلاف ومساواة”، وما يسفر عنه أن النّاس “شُركاء في الأوطان”. يتضمن الفصل الحديث في طبيعة التّعايش والتّسامح كثقافة وتقليد لا عاطفة طارئة تُنتهك مع أيّ أزمة. فضلنا أن نلحق موضوع “العامة.. أحوالها وفنونها وفراهيدها” لارتباطه بما حصل بالعراق، في شتى أزمنة المحن، التّي مرت على بغداد خصوصاً، وهي عاصمة البلاد مِن قَبل قرون.
كم من رواية دخلت مصادفة في التَّاريخ الفقهي وفعلت فعلها في تسامح أو تكاره؟! دخلت من دون أن يُسأل هؤلاء عن تقاليد دينهم، وإنما أُخذوا على الظّاهر بأنهم عبدة النّار، مثلما أُخذ الإيزيديون أنهم عبدة الشّيطان
الفصل الخامس “التّعايش الدّيني” جاء حافلاً بالإرث التَّاريخي، بين حدث ورواية وتصوّر، تمتد إلى حقبة زمنية غابرة، تارة وجد العراقيون فيها أنفسهم جنباً إلى جنب، على مختلف أديانهم، وتارة تكون الدّيانات الأُخر مطاردة ومنكفئة على نفسها، بفعل السّياسة الرّسمية. إلا أن التّجربة، السّابقة واللّاحقة، تؤكد أن ما جرى ويجري، خارج الوئام والتّعايش السّلس، لا يتصدره ويمارسه غير عصبة من تلك الطّائفة وهذا الدّين أو ما تقتضيه مصلحة الحاكم، وليس الطّائفة بأبيضها وأسودها، أو قضها وقضيضها، مثلما يُقال.
ألحقنا التّعايش الكاكائي، وهم جماعة ليسوا بالقليلة، بهذا الفصل، من دون أن نبتّ بكونها من أهل الكتاب أو شبه الكتاب، أو أن تجري معاملتهم مثل معالمة أهل الذّمة، فتلك مفاهيم انتهت، وليس لأيّ نظام، مهما كان مغرقاً في إسلاميته تطبيقها، لأنه الجزية صارت مِن الماضي، والعصر عصر المواطنة المتكافئة.
إلا أن ما تسرب من الأسرار الكاكائية يفيد أنهم لا شيعة ولا سُنَّة، ولهم قوامهم الدّيني، شأنهم شأن البهائيين، والسّيخ، وغيرها من العقائد التّي تفرعت ونمت واستقلت، على الرّغم من التّهمة التي مازالوا يتحملون وزرها، بأنهم غلاة بالإمام علي بن أبي طالب. ولو دققنا النّظر، في فرق إسلامية، وما بينهما من اختلاف أصيل، ورفعنا جانب الحذر، لوجدنا أن الخلاف العقائدي وصل إلى حدِّ القطيعة والطّلاق.
هنا يتطلب التّعايش المكاشفة، والاعتراف بأن الحياة تفرز مفاهيم وسبلا في التّعبد، وفق الافتراق في داخل الملل والنّحل، وهذا أمر ليس لسلطة ولا ديانة منعه. يخيل لي أن القرآن لم يغفل هذا الجانب بالذّات، ففي أكثر من آية أكد على حق الاختلاف وجعله أمراً ربانياً «لُكل جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً ولو شاء اللّهُ لجعلكم أمةً واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم»، «ولو شاء اللّه لجعلكم أمة واحدة ولكن يُضل مَنْ يشاء ويهدي مَنْ يشاء ولتسألنَّ عما كنتم تعملون»، «وما كان النّاس إلا أمةً واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقُضي بينهم فيما فيه يختلفون»، «ولو شاء رَبك لجعل النّاسَ أُمةً واحدة ولا يزالون مختلفين».
يأتي الفصل السّادس متضمناً نماذج من التّسامح والتّكاره المذهبي بين الشّيعة والسُّنَّة، عبر التَّاريخ، وتبدو العلاقة متشابهة كثيراً على الرّغم من اختلاف الأزمنة. فما حدث في أيام الخلافة العباسية تجده تكرر حذو النّعل بالنّعل في بداية القرن العشرين، بل تجده نفسه يتكرر في القرن الحادي والعشرين. لكنَّ الأحداث شهدت فشل انقياد الطّائفتين أو المذهبين بمجملها إلى تصادم شامل. ومعلوم، أن عصب التّعايش في المجتمع العراقي يعتمد اليوم اعتماداً كلياً على حالات الوئام والنّزاع بين الطّائفتين، ذلك من ناحية التّمثيل السّكاني، ومن ناحية الدّيانة الرّسمية ومظاهرها التي على بقية الأديان مراعاة طقوسها وتقاليدها، بمنطق خضوع الأكثرية للأقلية.
ليس بمعزل عن وصايا الفقهاء ورسائلهم، ضم الفصل السّابع ما يتعلق بالهاجس القومي، من ناحية الزّواج والمعاملة، وهو ما يخلق مزيداً من الكراهية، على الرّغم مِن أن الفقهاء الذين أشاروا إلى منع أو عدم استحباب الزّواج من الكورد، على أساس ما يعتقدونه مِن الجفاء والخشونة، والبعد عن الدّين، وسط الجبال، وعلى الغالب المقصود هنا بالأكراد ما يقابل الأعراب أهل البادية، وفق ما ورد في الآية الكريمة “الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ”. لهذا نسمع من الكورد أن لا يُشار إليه بلفظ “الأكراد”!.
لكنَّ، ذلك ليس مبرراً، بل غير مفهوم لدى المُقلِّدين، وبالفعل لهذه الوصايا القديمة الجديدة، حسب ما رصدناها من كتب الفقه، تأثيرها في النّفوس. ولا غرابة من إلحاق ما يخص الشّبكيين أو “الشّبك” في الهاجس القومي، فهم لا ديانة خاصة ولا مذهب خاص، حالهم حال بقية المسلمين العراقيين: شيعتهم شيعة وسُنَّتهم سُنَّة.
إلا أن الإحصاءات القديمة، التي أنجرها غير العارفين في شأنهم وربَّما كان مقصوداً، ثُبتوا أنهم ملة دينية، أو جماعة ملحقة بالإيزيديين. لكنَّ قراهم تبدو نموذجاً للتعايش المريح في المجتمع العراقي مع بقية الأديان الأُخرى. وعلى الرّغم مِن اعتبارهم كورداً أو فرساً، أتوا أوان العثمانيين خلال الخلاف العثماني الصّفوي، إلا أنهم يتحدثون عن انتماء قومي خاص بهم، فبدأوا يهتمون بأبجدية لغة خاصة بهم، يحاولون تكريسها وطرحها.
لم يشهد التَّاريخ العراقي مواجهات شاملة جامعة بين الأديان والمذاهب والقوميات؛ فلم نعثر على حرب عربية كوردية، أو كوردية توركمانية شاملة، أو مواجهات شيعية سُنَّية شاملة، خارج سلطة أمير أو والٍ أو آغا. وما هو ملاحظ في الآونة الأخيرة أن هناك جيشاً يطرح نفسه مدافعاً وممثلاً عن السُّنَّة، وآخر يطرح نفسه ممثلاً ومدافعاً عن الشّيعة، ومع كل الإلحاح على مواجهة الجموع بالجموع إلا أنها لم تحدث، بل على العكس وجد الجيشان نفسيهما في عزلة من قبل العشائر والطّبقات الاجتماعية العراقية الأُخرى. كذلك صار بالضّرورة وتحت الاضطرار للمسيحية والإيزيديين مسلحيهم، الغرض منها الحماية بالدّرجة الأولى.
لا يرتبط الأمر بالمبالغة بتعفف العراقيين عن العنف، أو نأيهم عن ارتكاب الحماقات الطّائفية أو العنصرية الأُخرى، بقدر ما يتعلق بالمصلحة الاجتماعية وبتقدير الخسارة في حال اندلاع حرب الجماعات الشّاملة، مثل التي حدثت ببلدان عديدة. يضاف إلى ذلك التّداخل العشائري والاجتماعي بين فرقاء المجتمع العراقي، والتاريخ الطّويل من التّجاور المريح وغير المريح. ومع ذلك، من المفروض ألا يطمئن أحد إلى تلك الكوابح وتهمل إشاعة ثقافة التّسامح، وفي مقدمتها النّظر في الخطاب الدّيني والمذهبي والفقهي، الذي تحدثنا عنه وبأمثلة كثيرة.
لا يخفى أن هناك مبالغات لدى العراقيين، البسطاء والمتعلمين على حدٍ سواء، في قوة الهوية الوطنية وعراقتها، غير أن ذلك لا يعبر عن الواقع بشكل دقيق، فلا تجد عراقياً، بمن فيهم قادة العصابات المتحاربة باسم الطّوائف، والجماعات الحزبية الطّائفية، إذا لم يستهل حديثه أو تصريحه عبر الإعلام: بأننا كلنا عراقيون، لا فرق بين شيعي وسُنَّي ومسيحي وصابئي وكوردي وتركماني.. إلخ. تراه يفسر ما يحدث، بين حين وآخر، بتدخل الأميركان والأجانب، أي أن هناك مؤامرة.
هذا ما لاحظه السّفير البريطاني الأسبق ببغداد (خلال الثّمانينات)، وهو يجيد اللّهجة البغدادية تماماً، فعندما سـألته: أين تعلمت العربية؟! قال ضاحكاً: “في مدرسة الجواسيس” ببيروت، ويقصد بها مدرسة الأجانب الخاصة بتعليم العربية هناك، ويقصد ما كان يُشاع عنها. ذَكر ملاحظته عن لهج العراقيين بوطنيتهم، بينما الأفعال تظهر شيئاً آخر، في جلسة على هامش لقاء عن الآثار العراقية، وقد أبدى استغرابه من هول ما يحصل، لأنه سمعها كثيراً من العراقيين، ومن مختلف أجناسهم.
ربَّما سيعلّق القارئ على ما لفت نظر سفير بريطانيا المستر (كلارك)، من أن سياسة بلاده اعتمدت أسلوب «فرّق تسد». ويمكن الرّد بالقول: ربما صحيح! لكن، لو أن ما نسمعه من التّعبير عن الوحدة والوئام على أفواه العراقيين السّياسيين، في الأقل، كان دقيقاً وصادقاً لما قدرت نجوم السّماء وبحار الأرض على هز تلك الوحدة، وإضعاف تلك المشاعر.
عموماً، أجد من خلال قراءة التَّاريخ، واستقراء تجاربه وأحداثه أن هناك إمكانية، ليست قليلة، في تثبيت دعائم التّعايش الدّيني والمذهبي بين العراقيين، إذا أعفي المجتمع من ثقافة سندها الأول الشّروط الفقهية العُمرية، ورسائل الفقهاء التي تنجس وتُكره بهذا الدّين أو ذلك المذهب، واستعمال ذلك في السّياسة. الكُتيّب بمجمله عبارة عن استذكار واستقراء لموقف رجل الدّين من التّعايش بوئام الاجتماعي، وتأثر هذه الجماعة أو تلك بخطابه.
ربَّما يفهم مصطلح التّعايش بمعنى التّسامح(forgiveness) حسب الذي ورد في عنوان الكتاب، وخارج سياق معنى المعايشة على أرض الواقع سلباً وإيجاباً، وذلك عند تصادم العقائد والآراء مع الاضطرار إلى الشّراكة في الأرض، وبأن مفردة التّسامح قد تعبر عن منزلة من التّعالي يختص بها القوي، أو حالة من التّغاضي تتبادلها الأطراف.
إنها تشي بالذّنب والعقوبة، لما يتكرر على ألسن النّاس «سامحك اللّه»، وهي عادة تعقب التّوبة المفروضة أو الطّوعية. لا أجد هناك من سبب في أن يؤخذ المصطلح، الواسع الفضاء، بهذا الضّيق وهذا التّحديد، وكأننا أمام عطار يسامح بتخفيض السّعر. تأتي لغوياً السّمَاحة (بفتح السّين والحاء)، وهي جانب من التّعايش، بمعنى الجود والعطاء، (بضم الميم)، وتفيد المُسامحة بالمساهلة، وتسامحوا: تساهلوا.
أيهما يمكن استعماله أصلاً لمصطلح التّسامح إذا اشترطا الجود والمساهلة من كل الأطراف؛ وليس مكرمة أو تغاضياً من قوي لضعيف، أو من راعٍ لرعية. بهذا المعنى أجد التّعايش مصطلحاً يستوعب قيم التّسامح والتّكاره، أو الحزازة والبغض (hatred) أيضاً، وتوظيفها في الحالتّين: التّآخي أو التّكاره. ربَّما نكون نظريين كثيراً، ونبتعد عن الواقع المعيش الذي لا يرى في التّسامح والتّغاضي سوى الضّعف، لكن في الأديان والمذاهب ما يكفي من نصوص وسير جعلت من التّسامح خلقاً من أخلاق السّماء، ولا حيلة بأيدينا، وسط هذا المد الدّيني والمذهبي الفائر بالكراهية وبلا عقل، سوى التّذكير بها.
قد يرى القارئ البحث مغرقاً بالرّوايات، كشهود على جانبي التّعايش: التّسامح والتّكاره في الوقت نفسه، وفيه من النّصوص ما يُعدّ مقدساً، يُحكم به، سواء كان قرآنيا أو نبويا أو وصايا أصحاب الأثر. تجدني أقف مضطرباً أمام رواية، تبدو دخلت مصادفة، تقرر بها مصير جماعة بشرية، بدمائهم وأموالهم وعقيدتهم، مثلما هي الرّواية التي صعد فيها المجوس أو الزّرادشية إلى منزلة أهل الكتاب، بينما لم تنلها جماعة أخرى بفعل رواية أخرى.
أرى الرّواية التّالية إيجابية في كل المقاييس، لكن، كم من رواية دخلت مصادفة في التَّاريخ الفقهي وفعلت فعلها في تسامح أو تكاره؟! دخلت من دون أن يُسأل هؤلاء عن تقاليد دينهم، وإنما أُخذوا على الظّاهر بأنهم عبدة النّار، مثلما أُخذ الإيزيديون أنهم عبدة الشّيطان، والصّابئة المندائيون أنهم عبدة الكواكب، وهناك مَنْ يعتقد عبادتهم للماء! وأُخذ اليهود والمسيحيون على أنهم كفار، ومَن حدد كفرهم بكفر نعمة، وهو أخف درجةً، ممن يعتبرهم كفاراً أصليين! وشيوع مصطلح أو مفهوم الفِرقة النّاجية والضّالة بين مذاهب المسلمين أنفسهم! كم من شريعة شرعت بملايين البشر من هؤلاء أنتجتها المصادفة، وأخرى أنتجتها المقاصد السّياسية.
ينقل أول قاضي قضاة في تاريخ الإسلام يعقوب بن إبراهيم الشّهير بأبي يوسف (ت182هـ 798 ميلادية) الرّواية التّالية، التّي أنقذت المجوس وتركتهم أحياء ومعترفا بهم «ذُكر لعمر بن الخطاب، رضى اللّه تعالى عنه، قوم يعبدون النّار، ليسوا يهوداً ولا نصارى ولا أهل كتاب، فقال عمر: ما أدري ما أصنع بهؤلاء؟ فقام عبدالرّحمن بن عوف، رضى اللّه تعالى عنه، فقال: أشهد أن رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، أنه قال: سُنَّوا بهم سُنَّة أهل الكتاب».
أقول: لو أن عبد الرّحمن بن عوف (ت 32هـ/ 656 م) ما قدم شهادته، أو مات قبل استفسار عمر، أو نسي ما سمعه، كيف ستكون يا ترى معاملة المجوس؟! وعلى هذا قس مخاطر الظّرفية في ما يسُنَّ ويشرّع لحياة البشر! وقد يثور السّؤال والعجب مما يشرّعه المعاصرون في شأن النّاس من كراهية وإجبار: أما تُنبئنا حيرة عمر بن الخطاب (اُغتيل 23 هـ 643 ميلادية) في معاملة المجوس أمراً؟ ذلك إذا علمنا أنه من النّخبة، شهد تدرج ظهور الدّين ونزول القرآن، وصاحب النّبي وكان خليفة للمسلمين!
على صعيد آخر، في شأن معاملة أهل الأديان الأُخرى، يقفز أمامي اسمان مازالا يعيشان في ثقافتنا النّخبوية والشّعبية، لدى المتدينين وغير المتدينين، المتسامحين والمتشددين على حد سواء، وهما: السّمؤال بن عاديا (ت نحو 560 ميلادية)، وحاتم الطّائي (ت نحو 578 ميلادية). الأول مضرب المثل بالوفاء، والثّاني مضرب المثل بالجود.
كان الأول يهودياً، ورفع اسمه من الشّارع الشّهير وسط بغداد، ليعرف بشارع البنوك، لكن، ظل الاسم على الألسن، حتى أن أديباً ومحامياً يهودياً عراقياً استنجد به في وقت الشّدة والمحنة (1969) بالقول:
سأظـل ذيـاك السّمؤال بالوفا
أسُعدت فـي بغداد أم لم أسعد
أما الثّاني فمعروف أنه كان مسيحياً، وصحيح أن بغداد مازالت تحفظ لوزراء بني العباس البرامكة الجود، وأطلقت على الكريم (الخواردة) لقب البرمكي، إلا أن حاتم الطّائي احتفظ بوجوده في الذّاكرة العراقية والعربية.
ونحن نتحدث ونبحث عن الجامع والعازل بين أبناء البلد الواحد، من تجربة في التَّاريخ إلى نصوص مقدسة وأخرى فقهية من وضع علماء الدّين، ومَنْ صاغ الشّروط العُمرية المرهقة على أهل الدّيانتين، وبقية الأديان، ألا يُثير الاسمان الشّهيران المذكوران شيئاً في المخيلة!
يعذرنا القارئ، وعلى وجه الخصوص ممَن يضيق ذرعاً مِن التّراث والاستشهاد به، لكن حجتنا أن كل نزاعات الحاضر صناعة ماضوية، وإن صحت العبارة تُراثية، فلا يلومني عليها، فبت أكاد لا أكتب سطراً بلا شاهد تراثي، فإذا لم يُعالج الماضي سيظل الحاضر عليلاً، وللحسن بن هانئ (ت نحو 198هـ).
دعْ عنكَ لومي فإِن اللّوْمَ إغْراءُ
وداوِني بالتّي كانت هي الدّاءُ
أما الأمل فمفتوح ومشرع الأبواب، فمَن يقرأ تاريخ العِراق، سيجد أن البؤس والنَّعيم قد تناوبا عليه، وبين فترات قصيرة بين نوبة وأُخرى، فقد كان ساحة لحروب الجيران والأباعد، وما يزال كذلك في نوبة البؤس التي تمرّ عليه، وقد بدأت حلكتها بالتفكك، ولو كان ببطء. قال ابن تمار الواسطي، وأرخ له أبو منصور الثَّعالبي (ت 429هـ) بما يعبر ببلاغة وعمق عن انتظار الأمل:
قمْ فانتصف مِن صروف الدَّهر والنُّوبِ
واجمع بكأسك شمل اللهو والطَّربِ
أما ترى اللَّيل قد ولت عساكره
مهزومةً وجيوش الصُّبحِ بالطلبِ
والبَدرُ في الجانبِ الغربيَّ تحسبه
قد مدَّ جسراً على الشَّطين مِن ذهبِ.