بلاغة الهشاشة
الأولى، ولدت في 11 فبراير العام 1886.
وولدت الثانية في 25 فبراير العام 1968.
امرأتان من هشاشة وشفافية وإبداع ومحنة.
باعد بينهما الزمن بقرن ويزيد، وجمعتهما هشاشة الإبداع فدحرجتهما إلى مصحة الأمراض العصبية.
جمعتهما قسوة المجتمع العربي، مجتمع غير رحيم، الذي على مرّ قرن ويزيد ولم يتغير أو إلا قليلا، مجتمع لم يتردد في الإلقاء بهما في سجن يتستر تحت يافطة “مستشفى الأمراض العصبية”.
امرأتان من تبر ونعومة، جمعتهما الشجاعة والشعر والدفاع عن حقوق المرأة دون خوف أو تراجع أمام ثقافة ذكورية مهيمنة وعنيفة ومعادية للفن ولكل أنثى تريد أن تكون سيدة نفسها.
الأولى اسمها مي زيادة.
ودارينا الجندي هو اسم الثانية.
توأم على الرغم من الفاصل الزمني الشاسع.
مبدعتان سيقتا إلى محنة متشابهة بعد أن وجدتا نفسيهما في حرقة الكتابة الحرة محاصرتين بفكر بطريركي لا يعشق سوى الحريم والقطيع.
بعد أزيد من قرن تجيء الكاتبة والفنانة دارينا الجندي بفائض من الرهافة والحساسية قابضة على جمر الحياة بيديها وبلسانها وهي تقاوم العطب وجرح الروح لتكتب عن مي زيادة كتابا باللغة الفرنسية تحت عنوان “مي زيادة، سجينة الشرق، الحياة المجهولة لمي زيادة” عن دار غراسي بباريس 2017، والكتاب هو خطاب “الروح للروح”.
كتاب صغير في شكل جرح غائر وكبير، كتاب من 144 صفحة، دون ثرثرة ولا تخمة إنشائية ببكائيات بدموع التماسيح، دموع ملونة، كتبت فيه الفنانة دارينا الجندي هشاشتها هي، أولا، لأنها توأم مي زيادة في هذه الهشاشة والنعومة، نعومة النمرة.
بعد أزيد من قرن، عادت لتبحث عنها، عن توأمها، في الجغرافيا والكتب والآثار أو ما تبقّى منها، من البيت إلى القبر، من الرسائل إلى النصوص الرسمية المنشورة لها أو عنها، لتكتبها وكأنما هي تكتب عن ذاتها.
يُقرأ هذا الكتاب كسيرة ذاتية، امرأة في مرآة امرأة أخرى تشبهها، الحكاية عن مي زيادة ولكن في الوقت نفسه هو حكي عن جرح الروح الذاتي الذي تحمله دارينا دون أن تبرأ منه كلية.
تكتب دارينا الجندي عن ملهمة الكثيرين من الكتاب من الرسامين الشعراء والروائيين وهي في ذلك كأنها تعيش هذه الحياة الفجائعية والدرامية التي عاشتها مي زيادة، في فصول مسرحية تختلط فيها شخصية الكاتبة والمكتوب عنها.
تمرّ فصول كتاب دارينا الجندي عن مي زيادة أمام عيون القارئ وكأنه أمام فيلم سينمائي، تلعب فيه دارينا دور البطلة دون ماكياج، صور متلاحقة لحياة متشظية، مي زيادة امرأة مبدعة تجلب الأنظار، تدير كل الأعناق والعيون، جميلة، فاتنة، ذكية، شجاعة، مثقفة، ثرية، تعيش قصة عشق طوباوية مع كاتبها المفضل وهي على بعد آلاف الكيلومترات منه، بينهما القارات والمحيطات، كاتب هو نفسه مُشكّل من سحر ومثالية في مخيال القارئ، إنه جبران خليل جبران، قصة عشق تدوم قرابة العشرين سنة دون أن يلتقي فيها العاشقان، عشق بالمراسلة وقبلات وخفق القلبين على أشرعة الكلام.
حين أسست مي زيادة صالونها الأدبي ما بين 1910-1920 كانت مركز القاهرة، ومركز الأنوثة الذكية والمثقفة التي تثير الغيرة بين الرجال وبين النساء على السواء من مجتمع الكتاب والصحافيين والجامعيين والفنانين.
من قصة حب أفلاطوني ناعم ومجنح تنزلق العاشقة مي زيادة شيئا فشيئا إلى درك الجحيم، يموت والدها الذي كان صديقها الأول ثم تلحق به أمها، فتبدأ في رحلة الانهيار الفظيعة لتكتمل الحلقة برحيل جبران خليل جبران، فتنطفئ الشموع داخلها.
وأمام وضعها الهش لا يتأخر الأشرار لينقضّوا على العصفورة الجريحة، فيحاصرها الأعمام وهم الذين لم يستطيعوا تَقبُّل منسوب الجرأة الثقافية والحرية الفردية لديها، ليلصقوا بها تهمة الجنون، مدججين بمجموعة من المحامين بدون ذمم توضع مي زيادة قانونيا تحت سلطة “العصمة”، وعلى إثر ذلك يستولي هؤلاء الأشرار على ثروة وأملاك العصفورة ليلقوا بها في “العصفورية”، مصحة الأمراض العقلية.
الحياة غير رحيمة.
في مستشفى الأمراض العصبية هذه تتعرض لشتى أنواع التعذيب، وأصناف المعاملات القاسية، إنه الجحيم بين جدران مستشفى، هو سجن بكل المقاييس.
وهي نزيلة العصفورية، يتفرق من حولها المعجبون من أشباه المثقفين ويصمت أشباه الكتاب، إلا كمشة قليلة تتجنّد للدفاع عنها والبحث عن طريق لتخليصها من جحيمها. وقد أسفرت المعركة في النهاية على إنقاذها من جحيم السجن (العصفورية) مصحة الأمراض العصبية.
إن محنة مي زيادة صورة لموقف المثقف تجاه المثقف، هي امتحان لسقف دفاع المثقف عن حرية مثقف آخر، وإنها الدرس السوسيو-سياسي الذي يمكن أن توصف به النخبة العربية، نخبة التخاذل.
يروى أنها حين خرجت من محنتها وهي ساخطة على المثقفين، رفضت الحديث إلى طه حسين الذي طلب مقابلتها لأنه لم يتخذ موقفا من أزمتها ولم يحرك قلمه للدفاع عن الظلم الذي تعرضت إليه.
كتاب “سجينة الشرق” لدارينا الجندي هو كتاب المأساة، مأساة الكاتبة لأنها هي الأخرى مرت بذات المحنة، ومأساة الكاتبة موضوع الكتاب أي مي زيادة التي لطالما يعتز بها اليوم كثير من المثقفين والقراء، وهي التي يحتفظ التاريخ بعبارة على شاهدة قبرها “هنا ترقد عبقرية الشرق، رائدة النهضة العربية..”.
حين ننتهي من قراءة كتاب “سجينة الشرق” نتساءل هل قرأنا سيرة ذاتية لدارينا الجندي أم شاهدنا فيلما يروي حياة مي زيادة، كل ذلك لما للشخصيتين من تقاطع وما للكتاب من عمق في الصدق.