بنات لالش
اكتظّ معبد لالش بجمهورٍ غير قليل تزاحم لتحية أسيراته الناجيات من سنجار، وهو ما توقعه منظمو الحفل من الشباب والناشطين المدنيين والقائمين على خدمة المعبد من الخلمتكارية المتطوعين، حتى إنّ بابا شيخ ختو وبابا چاويش بير شرّو حرصا على أن يكونا في مقدمة مستقبلي الأسيرات اللواتي تخلصن من الأسر بأكثر من طريقة صعبة يتداولها بفخر سكان المخيمات المهجّرين من سنجار، وبالقدر الذي كانت فيه الأسيرات منتظمات بصفين كخطين حافيات الأقدام كالآخرين والأخريات؛ مجللاتٍ بالبياض والخجل والفرح ورهبة المكان الذي فارقنه منذ وقت طويل بعد خروجهنّ من الكهف الذي يضم ضريح الشيخ عدي بن مسافر وأداء مراسيم الزيارة بخشوع وبكاء صامت، إلا إن زحمة الرجال والنساء والأطفال المحتشدين الذين قدِموا من المخيمات القريبة من شيخان وإيسيان وباعذرا ومركز محافظة دهوك وأطرافها من شاريا وخانك وغيرها ملأوا الساحة الصغيرة بالفرح وطقطقات الموبايلات في صور متسارعة لتوثيق الحدث والتركيز على وجوه الناجيات، فأحدثوا موجات من الحركة والتزاحم والفرح توطّنت في عيون تشرق دامعةً مع شمس الربيع العمودية وفي صلاة واحدة ترتّلها القلوب في نبض مشترك يمكن استشعاره بسهولة.
قال شاعر سنجاري شاب منفعل بالحدث وهو يدير وجهه إلى الجمهور المختلط :
• هؤلاء بنات سنجار وبنات لالش أخواتنا العائدات من الأسر.. إنهنّ أميرات الحياة اللواتي عانينَ من ظلم وقذارة داعش لكن بقيت روح لالش في أعماقهنّ وبقيت الأيزيدية نوراً يشعّ في قلوبهنّ ..
همهم الكثيرون مستحسنين هذا الخطاب الفوري، لكنّ رجلاً خمسينياً تميزه شوارب متدلية بدا أكثر حماساً كما لو يوجّه خطابه إلى حشد غير هذا :
• نعم إنهنّ أميرات سنجار وأميرات لالش وأميرات الأيزيدية كلها. لقد أثبتنَ أنهنّ بنات الشمس وبنات الشرف الأيزيدياتي الرفيع حينما هربن فرادى ومجموعات من أقسى وحوش على وجه الأرض ورفضن السبي والعار والذل ليعدنَ إلى الحياة أكثر شرفاً وعفةً ..
قاطعته امرأة بزغردة قصيرة وبادلتها أخرى بزغردة طويلة كأنها نغم سريع بعثت النشوة والحماسة في الحاضرين وطغت على الصخب البشري المتناوب في الكلام والحماسة، فيما بقيت وجوه البنات مستكينة إلى صندوق الفرح العامر من حولهنّ بهدوء بارز لكنه لا يخلو من الحرج في نسق الانتظار تحت هيمنة الفرح الجماعي والاستقبال الذي أغرقهن بالزهور والعطور في احتفاء مقدس أشعرهنّ بهيبة المكان، كما أشعرهن أنّ أرواحهنّ ما تزال بيضاء نقية بالرغم من الدنس الطويل الذي حملْنه في شهور الأسر العصيبة .
الفتيات الحافيات مثل الجموع والمكسوّات بالبياض يشعرن بالسلام الكبير في باحة المعبد وهنّ يستقبلن الورود الملونة التي يقدمها شباب ونساء ورجال وصبيان وأطفال في استعراض جليل حتى امتلأت أيديهنّ بباقات ملونة من أزهار الربيع وامتلأت أنفاسهنّ بالعطور، مأخوذات بالجموع المتزاحمة التي تحلّقت حولهنّ وبدت كل واحدة كأنما خارجة من خطيئتها كدرّةٍ بيضاء بالرغم من الدموع المتقطعة التي تترقرق في عيونهنّ الصغيرة.
كانت الشمس عمودية في ربيع المعبد وبدت الجبال الثلاثة التي تحيطه مثل مخروط أخضر مقلوب ينفتح إلى الأعلى فيكشف الكثير من الأشجار المتكاتفة الصاعدة والكثير من السماء البيضاء المفتوحة على الأمل والكثير من العصافير والطيور وغيوم نيسان العابرة .
أمهات يتطاولن بين الجموع ويتمتمنَ بدموع غزيرة وعيون كَليلة لآباء يشعرون بمشاعر متناقضة منقبضي الأرواح في حفل الأميرات اللواتي يتساوين في البياض الآن وقد تحولن إلى حديقة صغيرة من باقات الورود التي يضعها المتجمهرون في أيديهن أو تشكّها النساء على مقدمات رؤوسهن التي تغطيها شالات بيض منحسرة قليلاً فبَدونَ مثل شجيرات بيضاء مزهرة بورود الربيع .
عاد الشاعر السنجاري الشاب وألقى قصيدة باللغة الكردية متحمساً حتى تصبب العرق من وجهه واحتقنت عيناه بالحماسة وهو يخاطب بنات لالش اللواتي كنّ مخطوفات عند داعش في سنجار :
مهما كان الرصاص كثيفاً
لكنه لا يستطيع أن يحرق تين سنجار
ومهما كانت الغيوم داكنة
فلا بد من شمسٍ تخرج أخيراً
ولا بد للأوراق أن تعاود اخضرارها
والغصون تعاود رشاقتها
…
مهما كان سواد البارود خانقاً
لكن سنجار لا تختنق
فسماؤها زرقاء وعميقة
وتاريخها متجذر فيكنّ يا قديسات المكان
…
كل الطيور تعود لأشجارها في نهاية الأمر
وستنجلي رائحة البارود
وتنهض البيوت من ركامها
وينتبه الحطام إلى أضلاعه المتكسرة
فيقف من جديد يحكي عن موسوعة الألم السنجارية
لكنه يقف أخيراً ويدعونا أن نعود
لنصلي على ما مضى صلاة الغائبين والغائبات
ابتداءً من حضن لالش
ثم نمضي إلى سنجار معكنّ
أيتها الأخوات الجميلات المعمدات بالعين البيضاء مرة ثانية
فهذه مياه الطفولة تتدفق في عروقكنّ
وتخلقكنّ من العدم
فما مضى قد مضى
وتاريخ الأشجار يبقى أخضرَ
وها إنكنّ تولدنَ من جديد في حضن لالش
تحت أنفاس طاووس ملك والجبال المقدسة
تولدنَ كطفلات البساتين
رقيقات وجميلات ومعطرات
إنه عطر خودا العظيم
ورقة الملاك العظيم
وجمال سنجار العظيم.
أكثر من يد رمت عليه وروداً صغيرة وهو يزيد من انفعاله بإعادة القصيدة مرة ثانية محتفياً بطريقته الفردية بين الدموع المنفلتة أو المكبوتة من عيون الأمهات والنساء الأخريات والرجال المأخوذين بجلال الموقف ونشيج الفتيات المتخافت وفرح المكان المشتعل بالرقص وأزهار نيسان الملونة.
سارت الجمهرة المختلطة كزفّة عرس بقوس واسع إلى العين البيضاء في الجانب الآخر من المعبد في مسافة قصيرة لكنها طالت تحت مظلات من الورود المتساقطة على رؤوس البنات السعيدات في لحظات المعبد وعين اليقين التي غسلت وجوههن بيد امرأة التعميد القديمة وهي تبارك هذه العودة الميمونة والخلاص من كابوس سنجار المحتلة، مثلما هي بركات بابا شيخ ختو الأبوية التي تحيط بهنّ مع الورود المتطايرة على رؤوسهنّ والذي يقود الأميرات الصغيرات إلى عين النقاء بثوبه الأبيض الفضفاض المزنّر بخاصرته بطوق أبيض متين كأنه ملاك هابط من السماء والذي لم يتوانَ من أن يكون الأب الكبير في حفلة التعميد لبنات لالش العائدات من الأسر، وهو ما ترك فيهنّ شعوراً غامراً بالفرح وعادت إليهنّ على نحوٍ ما أسطورة الشيوخ العجائبيين الذين يولدون من العدم بقدرة الرب فيمتلكون سحر الملائكة في بقائهم الأزلي في ربيع الحياة الذي لا تدنسه وحوش الغابات والبراري، ليكونوا شيوخ السلام بأرواحهم النقية العارية من لوثة الأزمان كلها تلك التي مرت على مدار السنوات وتلك التي ستأتي ما شاء لها الله أن تستمر .
(فصل من رواية بعنوان «بنات لالش»)
إشارات
• الخلمتكارية (خلمت كاري) تسمية تُطلق على مجموعة متطوعين أيزيديين للقيام بمجموعة من الأعمال كالاهتمام بمعبد لالش من تنظيف وجني الزيتون وعصره لاستخلاص الزيت الذي يستخدم بدوره في إشعال فتائل قناديل لالش.
• بابا شيخ: المرشد الديني وهو منصب أو مركز في المجلس الروحاني الأيزيدي ويأتي بعد الأمير مباشرة على أن يكون من سلالة شيخ فخر الدين الشمساني، وحالياً يشغل هذا المنصب شيخ ختو.
• بابا چاويش: هو مركز في المجلس الروحاني من طبقة البير ويكون بمثابة الحامي أو الحارس أو الراعي لمعبد لالش فالبابا چاويش ينذر نفسه لخدمة المعبد ويستغني عن ملذات الحياة بما فيها الزواج كالراهب عند المسيحيين، حالياً يشغل هذا المنصب بير شرو.
• يقع معبد لالش بين ثلاثة جبال هي: عرفات – حزرت – مشيت
• العين البيضاء: بئر ماء تقع ضمن محيط معبد لالش ويتعمد بها كل أيزيدي .