بيت الخائب
يبدو اليوم جليا للمتأمل في واقع المُجتمعات عبر العالم – وفي العالم العربيِّ بخاصة – أنَّ زمن اليوتوبيات التقدمية والأحلام الخلاصية الجماعية الكبيرة قد ولّى لصالح تفاقم اليأس واضمحلال جاذبية المُستقبل. ونعتقدُ أنَّ أبرز مُؤشر على ما ذكرنا هو تنامي خطابات الهوية وانفجار الأصوليات المُختلفة بما يشي بانكماش واضح أمام اللحظة التاريخية التي نعيشها. هذا زمنُ التمركز الجديد بامتياز: تطرفٌ هوياتي شرقا وغربا نستطيعُ أن نرى ملامحه في ذلك الاحتماء بقناديل الذات الجماعية والمُتمظهر، تحديدًا، في الطائفية الدينية والتمركز العرقيِّ واحتلال اليمين السياسيِّ صدارة البرامج المطروحة في أوروبا المُنهكة بمشاكلها الاقتصادية والأمنية. بل قد نجدُ لهذا الأمر صدى واضحا في عالم الفكر أيضا في أوروبا من خلال ذلك التراجع التدريجيِّ عن مُكتسبات “الأنوار” وسردية التقدم والنزعة الإنسانية الكونية لصالح “مديح الحدُود” كما يُشيرُ إلى ذلك عنوان كتابٍ مُهم للمفكر الفرنسيِّ ريجيس دوبريه. هذا الأمرُ – على ما نرى – مُؤشرٌ أيضا على أزمةٍ تعيشها الحداثة الكلاسيكية التي لم تنجح في تدشين نهايةٍ سعيدةٍ للتاريخ.
مطلب الانتماء مطلبٌ مشروع. لكلّ هويته ولكلّ الحقُ في هويةٍ مفتوحةٍ على الاغتناء انطلاقا من مُرتكزات ثقافيةٍ وحضارية متعدِّدة. ولكن ما الذي يحوِّل التشبث بالهوية إلى علامةٍ على اليأس والانكماش ورفض الآخر المُختلف؟ ما الذي يجعل منها “هوية قاتلة” كما يُعبِّرُ أمين معلوف؟ بل ما الذي يحوّل الشعورَ بالانتماء للمصائر الجماعية إلى نوع من العنصرية في لحظةٍ تنسفُ جسورَ التواصل مع الآخر وتحول العالم إلى جزر مُتنابذة؟ يبدو أنَّ هذه الأسئلة وغيرها تطرحُ تحدياتٍ كبيرة على العالم اليوم ثقافيا وسياسيا. ولا غروَ في أنَّ هذا الأمرَ أصبح يطبعُ العالم اليوم بطابع العنصرية المُتنامية إلى درجة الخطورة. ونعتقدُ أنه من العبث البحثُ عن جذور بنيويةٍ للنزوع العنصريِّ في ثقافةٍ بعينها وإنما في مُجمل الشروط السوسيو- سياسية والاقتصادية التي جعلت من هذا الأمر استجابة وردَّ فعل عن الاختلال الحاصل في علاقة الإنسان بعالمه فردًا كان أو جماعة.
العنصرية، في عمقها، حلمٌ بالصفاء الأول وكأنها حنينٌ رومنطيقيّ وتوقٌ رعويّ إلى عهودٍ لم تتعرَّض فيها الذاتُ إلى التصدع الذي يُسبِّبه التاريخ والتغير. انطلاقا من هذا أجدني هنا، شخصيا، أتفقُ مع الملاحظة البصيرة لذلك الباحث المُفكر الذي اعتقد أنَّ الأيديولوجيات القومية الحديثة في أوروبا (وهي عنصرية في جوهرها) لم تظهر إلا باعتبارها نوستالجيا قبَلية كردِّ فعل على التفكك الذي أصاب الروابط التقليدية للذات الجماعية مع بداية العهد الصناعي وتوسع المدن الحديثة. هذا يعلمنا شيئا مهما: هو أنَّ العنصرية انكماشٌ أمام العالم وإفصاحٌ عن خلل عميق في العلاقة بالتاريخ والتغير وحضور الآخر في البيت الأرضيِّ.
لا تخلو، برأينا، ثقافة واحدة من نزوع عنصريّ جاهز لأن ينفجرَ متى توفرت الشروط الموضوعية لذلك. كأنَّ العنصرية موجودة بالقوة في كل منظومةٍ ثقافيةٍ وفي كل رؤيةٍ للعالم ما دامت تضمرُ تمركزا للذات مهما ادَّعت الكونية والشمولية؛ وهي جاهزة لأن تتحوَّل إلى وجودٍ بالفعل كلما شعرت الهوية الجماعية بنوع من التهديد الذي يزحزحها عن المركز أو يشوّش على نرجس صفاءَ المرآة التي تعكسُ جماله الاستثنائي. ولكن ما نود التركيز عليه، هنا، هو هذا التطرف الهوياتي في طبعته العربية الرَّاهنة والذي يتجلّى، تحديدًا، في الأصولية الدينيَّة والطائفية السياسية. وربما لم يكن هذا الأمرُ إلا نتاجا طبيعيا انبثق عن إخفاق الدولة الوطنية العربية وأصبح يمثل أبرز ملامحها ثقافيا وسياسيا بعد عقودٍ من سيادة وهيمنة الغنائية الأيديولوجية في صورتيها القومية والاشتراكية. إنَّ التطرف الهوياتي من أبرز أمارات فشل التحديث في العالم العربيِّ.
ربما كان التطرف الهوياتي مرضَ العصر. ولكننا لن نُوافقَ – بكل تأكيد – على النظر إليه باعتباره سببًا لمتاعبنا الحالية أو لجحيم العُنف الذي نشهدُ وإنما بوصفه، أولا وقبل كل شيءٍ، نتيجة. التطرفُ نتيجة وليس اختيارًا أو سببا أوَّل يتحكمُ بخيوط الفوضى التي تصنعُ تراجيديا العالم. إنه علامة أزمة. ومن الأنسب أن تُقرأ الأزمة المُعقدة في سياقها الثقافيّ والحضاريِّ بعيدًا عن كل روح اختزالية لا تنظرُ إلا إلى الجُزء الظاهر من الجَبل الجليديِّ. هذا ما يجعلنا نطرحُ فرضية أولى نراها ضرورية: التطرفُ علامة اختلال يجدُ أساسهُ في الثقافة القائمة على الهيمنة. إنهُ ردّ فعل وليس فعلا بادئا مُستقلا بذاته. وهو اختلاجٌ – قد يكونُ يائسا – ولكنهُ يُفصحُ عن بقية الروح التي تقاومُ الذبح. وربما أولى علاماتِه المُؤكدة تنامي الحديث عن الهوية بشكل مُبالغ فيه منذ عشريتين على الأقل في بقاع العالم التي عرفت انتكاساتٍ وفشلا في التنمية المُتوازنة كالعالم العربيِّ. إذ لا يبدأ التطرفُ بالظهور – بوصفه عنفا ماديا ورمزيا ورفضا للآخر المُختلف– إلا في شكل انكماش واحتماءٍ من سديم اللحظة التي تفقدُ فيها الذات بوصلة الاتجاه فتهرولُ باحثة عن المعنى والدفء في الماضي التدشينيّ وأساطير البدايات السعيدة. التطرفُ، في كلمة، ملجأ الذات الخائبة.
يتموقعُ عالمنا العربيّ – الإسلاميّ ضمنَ دائرة الاهتمام الإثنوغرافي والسياسيّ/الاستراتيجيّ الغربيّ منذ مدة طويلة. لقد بقيَ بعيدًا عن التطور الطبيعيّ والتثاقف الإيجابيّ مع العالم منذ وقع ضحية للمطامع الإمبريالية المُرتبطة بالسيطرة
التطرفُ انغلاقٌ أيضا. وهو ليس ظاهرة تخصّ ثقافة بعينها. كما لا يتعلقُ بمظهر واحد من مظاهر الثقافة – كالدين مثلا – وإن كان التطرفُ الأبرز للعيان، اليوم، هو ذلك المُرتبط بالدِّين وتأويلاته التي تُبرِّرُ العنفَ ضدَّ المُختلِف كما هو معروف. إنَّ نقيضَ التطرف، أعني الانفتاحَ واحتضان الآخر والتعدد، لا يزدهرُ في لحظات الأزمة التي تشعرُ فيها الذاتُ الجماعية بأنها مُهدَّدة، أو في لحظات الخيبة والفشل العام في تحقيق الاندماج الواثق في اللحظة العولمية. خلافا لذلك، لا يبدُو التطرف زمنا أندلسيا. إنه نتاجُ هذا الشرخ الذي تولّدهُ الفوارقُ المتزايدة والضياع المُرتبط بالشعور الطاغي بفقدان الهوية وغياب معالم المعنى في عالم يفقدُ مُرتكزاتِه الأخلاقية الواثقة. إنَّ التطرّفَ الدِّينيَّ نفسه يأخذ، دائما، شكل الدفاع عن هوية مُهدَّدةٍ بفعل التحديث المُتوحش الذي يُدمِّرُ أشكال التضامن التقليدية دون أن يحققَ نقلة واثقة – اجتماعيا وثقافيا وسياسيا – إلى أوضاع جديدة مُتحرِّرة من ثقل النوستالجيا الخلاصية. فالتطرفُ رفضٌ للعالم لحظة تحولهِ إلى حلبة صراع تكرّسُ قانونَ الغاب. كأنهُ إفصاحٌ طفوليّ عن الهوية، ورغبة في الصّراخ العالي ضدَّ امِّحاء ما يشكّل سندًا للذات الفردية والجماعية. إذ يبدُو أنَّ العولمة في شكلها السَّائد – وهي تعمِّمُ قانونَ السوق وتجعلُ من الربح والاستغلال قيمة مطلقة – قد خلقت ثقافة همّها الأول مُحاربة هوية الإنسان العميقة التي لا تتجلى إلا عبر ثقافاته المُتنوعة وشبكة العلاقات الرمزية المُعقدة التي يُقيمها مع مُحيطه وموروثه. هذه الثقافة العولميَّة في وجهها الأبرز – أعني ثقافة الاستهلاك المُعمَّم – لا تستطيعُ صنعَ هوية جديدة للإنسان بقدر ما تنتجُ النمطية والسطحية في كل شيء. إنها ثقافة تفتقرُ، بشكل مُوجع، إلى مُرتكزات العمل وإلى المصابيح التي تنتصبُ منارة في الطريق.
يتموقعُ عالمنا العربيّ – الإسلاميّ ضمنَ دائرة الاهتمام الإثنوغرافي والسياسيّ/الاستراتيجيّ الغربيّ منذ مدة طويلة. لقد بقيَ بعيدًا عن التطور الطبيعيّ والتثاقف الإيجابيّ مع العالم منذ وقع ضحية للمطامع الإمبريالية المُرتبطة بالسيطرة على مصادر الطاقة. وكان لنا أن نعرفَ التحديث الشكليَّ والتبعية لدوائر صُنع القرار الأجنبيَّة بعيدًا عن الحداثة والاستقلال الفعليّ والتنمية الشاملة. والنتيجة: فشل في التحديث الإيجابيّ وإخفاقٌ في بناءِ الدولة الحديثة التي تقطعُ مع بنياتِ الاستبداد القديم والسلطة الأبوية. لقد بقيت مُجتمعاتنا، بهذا، رهينة لزمن ثقافيّ وسياسيّ يُهيمنُ عليه العُنفُ الرمزيّ والماديّ ويشهدُ هزاتٍ خطيرة وعودة لقوى سوسيو- ثقافية وسياسية تمثل مُمانعة أمام التحديث الكسيح، وترفعُ شعارات الهوية والأصالة كما هو معروف. هذا ربما ما يدعوني، شخصيًّا، إلى أن أميِّز بين العنف والتطرف. فالعُنفُ بنية مُضمرة في كل ثقافة ما دامت تقومُ على سيطرة فئة اجتماعية تفرضُ نظامها القيمي والرَّمزي وتخلعُ عليه نوعا من الشرعية. هذا الأمرُ أصبح معروفا منذ نبَّهنا إلى ذلك بيير بورديو في درسه الشهير. والعنفُ الذي يُميِّز مُجتمعاتنا بالأخصّ يقومُ على البنية السوسيو- سياسية البطريركية وثقافتها التقليدية. أما التطرفُ فهو إعلانُ هذا العنف المُضمَر عن نفسه باعتباره مرجعية إلغائية للآخر المُختلف متى شعر بنوع من الضياع في عالم لم يُحقق انتقالا طبيعيا مُتوازنا إلى الحداثة والاعتراف بالذات. هنا يبدأ جنونُ التطرف. وفي كلمة: التطرفُ عنفٌ مُعلنٌ ومُمَسرَحٌ في مقابل العنف المُضمَر الذي يميِّز كل بنية سوسيو- سياسية. إنهُ عملية دفن للرأس في رمال الأوهام التي تسردُ على الذات قصة استرجاعها لمكانتها بعد فاجعة التيه في الهامش الذي فرضهُ عليها العالمُ المُهيمِن.
يبدو العالم العربيّ اليوم وكأنه يتراجعُ عن مشاريعه النهضوية التي اعتراها الذبول. لا حديث عن المواطنة والعيش المُشترك. لا حديث عن الحريات الفردية والعامة. لا حديث عن الديمقراطية التعددية والانفتاح على المُختلف. لا حديث عن مرجعياتٍ مدنية لعمل المُجتمع. لا سيادة إلا لخطابات الانغلاق الديني والطائفي. لا حديث إلا عن كل ما يُرسِّخ الجدران الثقافية التاريخية باعتبارها “جدار برلين” جديدًا كما يُعبَّر. وربما كان بإمكاننا أن نؤرخ للعالم العربيِّ باعتباره عالما يتأبّى على انتصار العقلانية في الفضاء العام لصالح ديمومة اللامعقول في مُختلف مناحي الحياة العامة. هذا ما يدعونا إلى اعتبار مُشكلة الجدران التي تنتصبُ، إلى اليوم، في حياتنا مُشكلة سياسية ذات جذر ثقافي/تاريخيّ لم يُتح له أن يتعرَّض للنقد الكافي على غرار ما حدث تحت سماواتٍ أخر وفي أوروبا تحديدًا منذ عهد النهضة. فمن المعروف أنَّ الحداثة السياسية – أو بمعنى آخر حداثة الدولة – لم تكن إلا انسلاخا من الروابط التقليديَّة وأشكال التضامن التي مثّلتها الطائفة الغالبة وهي تدَّعي احتكار الخلاص وتمثيل الحقيقة الأنطولوجية في شكلها الديني. كانت الدولة انعكاسا للسَّماء. وكانت المدينة العربية “مدينة الله” كما حلم بذلك القديس أوغسطين. ولكننا نعلمُ أنَّ الدولة الحديثة أصبحت مُؤسَّسة تخلّت عن مهمَّة حراسة الحقيقة أو تمثيلها لتصبحَ فضاءً قانونيا ومُؤسَّسيا يضمنُ العيش المُشترَك والمُواطنة ويصونُ الحقوقَ المُتساوية للأفراد. الدولة المدنيَّة الحديثة، في كلمة، هي “مدينة الإنسان”. ربما لم يشهد العالمُ العربيّ/الإسلاميّ ثوراته المعرفيَّة والفلسفية والثقافية الضرورية من أجل زحزحة نظام الحياة القديم عن عرشه وتجاوز دولة الوصاية والطائفة الغالبة كليا؛ كما لم يعرف تغيّرًا عميقا على مُستوى مُؤسَّساته القاعدية وبقي يُراوحُ داخل دائرة زمنه الثقافيّ التقليديّ الرَّاكد، وهو الأمرُ الذي يُفسِّرُ كل أشكال المُمانعة التي تقفُ حائلا دون نجاح أيّ ثورة أو انتفاضةٍ تتطلعُ إلى التغيير الفعليّ والقطع مع بقايا العصور الوسطى وقيمها وموروثها المُؤسَّسي. كما نستطيعُ أن نلاحظ أنَّ هذا الأمر ظل كابحا لكل تململ نحو الديمقراطية الفعلية باعتبارها وعدًا بالخلاص من بنيات الاستبداد بمُختلف أشكاله. هذا ما يجعلنا نعتقدُ أنَّ “الجدران العربية” التي تمزقُ مُجتمعاتنا اليوم تحتاجُ منا إلى معاول الأنسنة والانفتاح على احتجاجات العقل النقديّ من أجل إعادة بناء الرابطة السياسية على المُواطنة لا على أشكال الانتماء التقليدية السَّابقة على الحداثة.