بيت العمّة
يجول الفتى بنظره إلى منطقة انعطاف النهر (نهر الفرات في مدينة الميادين) ليرى امتداد سهول القرى في الجانب الآخر من النهر ثم يحوّل بصره إلى الجنوب الشرقي لينزلق على سفح متدرج مديدٍ. و في أعلى قمته تتربع قلعة الرحبة (رحبوت كما في التوراة) والتي تبدو الآن كتلة معزولة منفصلة عن ارتفاع أرض الحَمَاد والتي تشكل معظم البادية السورية. وهكذا تبدو القلعة محاطة بوادٍ عميق. كان له دور في صد المغول. حيث صمدت القلعة بفضل تلك الطريقة والتي كانوا يستخدمونها وقت الحصار. وذلك بأن يفتحوا فرعا من نهر الفرات ليحيط الماء بالقلعة ويحصّنها وبذلك تستعصي على الغزاة، ومن تلك النقطة وربما على بعد كيلومتر واحد أو أكثر قليلاً من بيت يوسف الذي ينظر من سطح منزله، كانت الحادثة التاريخية والتي أنقذَ فيها مالك بن طوق التغلبي الخليفة هارون الرشيد من الغرق في بحر الفرات، أثناء رجوعه من الرقة حيث كان يقضي الصيف هناك، عائداً إلى بغداد وعليها كوفئ بامتلاك تلك المنطقة وجوارها، وقد قام بتجديدات في بناء القلعة، وأضاف لها بعض الأجزاء. هذه القلعة والتي كانت نواة مدينة الميادين، لكنها أصبحت في أزمان متأخرة وبعد أن هجرها الناس، مستوطنين المدينة أصبحت كنز أهل المدينة والتي كان أبناؤها ينقّبون فيه باستمرار علّهم يجدون ذهباً أو قطعاً أثرية أو لُقىً تُباع، مما يمليه الواقع والخرافة على قناعاتهم. لكنها وعلى الدوام كانت مزارهم الأسبوعي الأهم خصوصًا في أيام الربيع .
يقال إنه كان نحاتاً صغيراً موهوباً. راقت له قصة الآثار واللقى. فصار يعمل منحوتات لرؤوس تشبه التماثيل البابلية ويعرضها على المهتمين وبعض السواح بشكل سرّي وأسعار لا تُذكر ..
وفي بيت العمّة هناك المئات من تلك اللقى على شكل أساور خزفية وخواتم و جرار فخارية صغيرة وأختام وعملات والكثير. ولكنها جُمِعت بدافع الحب والهواية من قِبل الأبناء. وتعرض في البيت بشكل متحفي لائق . كل زائر يستمتع بها وبطريقة العرض.
(ذلك الفتى يوسف كانت تأخذه أمه إلى بيت العمة. والذي يبعد مئتي متر عن بيته المحاذي للنهر).
كان المنظر من جرف النهر أخّاذ فعلاوة على جمال المنظر وسعة الأفق الممتد، تتداعى قصص وخيالات سمعها الفتى من أعمامه عن سبب تسميته بـ”جرف الصيّاحات” .وقد كن فتيات جميلات يرافقن المغنية الغجرية عزيزة في رحلتها إلى الطرف الآخر من النهر (طرف الجزيرة) ولأن العبرة (الطوف) لا تتسع للكثير فقد ركبت عزيزة مع مساعدتها وقريباتها وخالها وشاب آخر على أن تعبر بقية البنات في النقلة الموالية. لم يكن للطوف أطراف عالية. وكانت دوامات النهر عنيفة وقتها مما أدّى إلى أن العبرة انقلبت في النهر ولم يتمكنوا من إنقاذ عزيزة وخالها وبنتين، وقد كانت هذه المأساة حديث أهل البلد لعشرات السنين وقد حيك عنها الكثير من القصص وكشأن أي موروث شفاهي أخذت منحى أسطوريا ومتضاربا أحياناً.
الفتيات على الضفّة بقين يندبنها أياماً أملاً في معجزة تحدث وهي إن تعيدها الرحمانيات حية إلى البر وقد كن يغنين لها وللرحمانيات غناء فيه الرجاء والاستعطاف للرحمانيات، والتغني بخصال عزيزة. و لكن مع مرور الوقت دب اليأس في نفوسهن. وتحوّل ذلك الغناء البديع الحزين إلى صياح. وعويل موحش مما دفع أهل الجوار إلى صرفهن، تاركات الاسم الجديد للمنطقة “جرف الصياحات”، وصدى تلك الأصوات بقي يتردد طويلاً على امتداد الجرف ليأخذ تردداً ملتوياً يحيط بالمدينة بشكل مفزع خصوصًا للذين تشرّبوا تلك القصة، وبعدها أصبح أهل النهر يديرون أبواب بيوتهم عن النهر لا يريدون المزيد من النكبات و ذكريات الحزن والغرق.
ذلك النهر الذي عجز عن إغراق هارون الرشيد هو الذي ذهب بعزيزة مغنية القرباط الجميلة ذات الوشوم الكحلية والحلي المزورة الذهبية الفاقعة، والعصابة الحمراء والسوداء
محاذية للنهر. مرت سيارة محمد عبدالوهاب في طريقه إلى بغداد، وهو الذي لم يكن يحبذ سفر الطائرة، أكلَ من خبز التنور الساخن مع الجبنة والزيت والشاي في مقهى وسط الميادين ارتاح لساعات وأكمل رحلته لكنه لم يزر القلعة. ولم يترك صوت الصيّاحات أيّ أثر على موسيقاه.
نادت الأم على الولد هيا لتذهب إلى بيت العمة. وقد كانت زيارته الأولى إلى بيت عمة والدته ، كانت الأم تسحبه بسرعة وخطواته الصغيرة تلهث وهو يجري مع أمّه بعباءتها الديرية السوداء، فقط وجهها ويدها التي تمسك الصغير ما يبان من تلك العباءة، وكأن عباءةً ديرية يدحرجها الهواء تخطف صبياً.
ماهي إلا دقائق حتى وصلا. لم يكن الباب باب بيت العمة موصداً كالعادة ولكنها قبل أن تدفع الباب وتدخل ضغطت على الجرس إيذاناً. ثم دخلت لتعانق عمتها الهادئة التي لم تنتبه لوجود الطفل إلا لاحقاً بعدما تركته يد أمه.
لكن قبل ذلك ومن لحظة دخوله البيت العجيب أصبح الولد في دهشة متعاظمة من غرابة وجمال وعجائبية ما يرى في كل زاوية من زوايا البيت .
كان أولها ولاتزال يده بيد أمه أن رأى نحلة كبيرة عند قدمه حاول أن يطردها. لكنه اكتشف أنها محنطة في بلاط البيت. ظنها صورة. لكنه دقق وهو ينحنى ليرى أنها في حيز بلّوري داخل البلاطة وكانت في البلاطات الأخرى أشياء أكثر وأعجب وصار يتتبع البلاط، واحدة واحدة وقتها تركته يد أمه المشغولة بالحديث مع عمتها متجاهلةً استغراب الولد لما يرى، وقتها تحرر الصبي. لكنه صار يتحرك بحذر وفضول واندهاش بين أضلاع البلاط ليجد وردة في فقاعة ثم خواتم متداخلة فضية اللون في أخرى ثم كرة صغيرة مضلّعة وملونة وهكذا.. لكنه فجأة حوّل نظره إلى أعلى و صرخ: ماما عندهم شجرة بيض (وذلك فعلاً ما رآه) شجرة تحمل بيضاً حقيقياً. وبينما الولد يقترب من الشجرة أوقفه حاجز الحديقة المنزلية حيث الشجرة شجرة البيض داخل الجنينة واشتد ذهوله مرة أخرى، لكن مما رآه للتو. فقد رأى نبتة صبار ولها ثلاثة أنواع مختلفة من الزهور. زهرة صفراء وأخرى زهرية وثالثة حمراء قانية. وليس كما كان قد رأى في صباريات بيت جده. حيث كل نبتة ملتزمة بزهرتها الخاصة، وفي خضم اندهاشه سمع صوت طيور القطا. وصاح ماما: قطا، وهو يشير إلى السماء. هنا ابتسمت أمه وقالت: لا ابني. شوف هنا القطا يمشي في الجنينة وعلى الفور تاهت عينا الصبي في هذا المنظر المبهج فهو محب للطيور، ورأى ذكور القطا الجميلة في خطواتها السريعة القصيرة تذرع الجنينة. يا للعجب، هذا الطائر البري الخائف يألف البيوت. لا شك أن هناك روح سَمِحة في هذا البيت تزرع فيه الطمأنينة والأنس.
كل شيء في هذا البيت. جميل وعجيب. هكذا قال الفتى لنفسه، والذي لم تعد تدهشه أفلام هاري بوتر بعد. بل أصبحت مملة ومكشوفة ومتوقعة. عندما شاهد أحدها ذات مرة في فيلم عند بيت جيرانه .
فما رآه في هذا البيت أكثر طرافة وغرابة. علاوة على أنه حقيقي وليس في شاشة. بل إنه يستطيع العودة إلى بيت العمة متى أراد. فالبيت قريب. وأصبح يعرف طريقه.
هنا انسل الولد إلى إحدى الغرف حيث لوحة جون كونستابل الفتى والعربة (وكأنها منظر من قرى الفرات لولا اختلاف طريقة بناء سقوف البيوت في اللوحة عن بيوت قراه).
دخل الطفل في مرحلة أخرى من الاستغراق والمتعة. ولم يعد يتعجب من أي شيء. بل على العكس أصبح يستمتع و يسافر مع الموجودات فهو في سفر واقعي تمامًا وخيالي جداً.
خلال تجواله بالغرفة لمس الطفل رأس طائر الصقر بلطف شديد وكأنه يلمس رأس قطة أليفة، هذا الطائر القابع على منصة صغيرة زاوية الغرفة.
ولكن ما جذب الفتى أكثر هو خزانة من البلّور تحتوي على مئات القطع الأثرية. وبعض العجائب الحديثة منها عدد كبير من الأساور والأختام والجرار وقطع الخزف (معظمها من قلعة الرحبة). ربما تلك الفخارة ذاتها التي كانت تحملها أورنينا أو على الأقل شديدة الشبه بها تلك التي تظهر في العملة السورية الورقية آنذاك (عشر ليرات). وربما قطعة الحجر الصغيرة الأخرى تلك من حطام حائط القلعة الذي ركله حصان الإمام علي (حسب اسطورة الأهالي). وذلك الفانوس الزيتي (السراج) من مقام المتصوف السريج الذي يقع بين مزار عين علي و مقام الشبلي. لكن مقام وقبر الشيخ أنس بن مالك يقع في مقدمة تلك الأوابد الشهيرة والتي تتوسّطها القلعة، تلك المعالم تأتي مصطفة على مشارف الحماد وهي تطل على سهل الفرات البديع أمامها .
تلك الأوابد جزء من تاريخ وضمير كل مياديني حتى وإن لم يكن معظمهم يعي حقيقة ومعاني تلك الأماكن يحتفظ يوسف بتلك لمشاهد كصورة أزلية ثابتة في وجدانه وتكوينه، بل إنها كذلك في وجدان كل أبناء المنطقة. كان الأولياء يحرسون الميادين والتي أصبحت تمتد وتتوسع في المنطقة ما بين تلك المقامات والمدينة القديمة، وهي قلب الميادين. وقد كانت محاطة بسور لاتزال بعض أجزائه في بيوت من حارة الجيش. لكن القسم الأكبر الحاضر هو العلوة وهي أعلى منطقة في المدينة.
وبين تلك العلوة والقلعة كانت ميادين المبارزات والقتال والاستعراض تتم وكل ذلك حدث بعد انحسار النهر وظهور تلك المساحات الشاسعة ذات التربة الغنية (الطمي) من حوض النهر.
شخص نظر الطفل إلى منظر أو لوحة القلعة (كانت مرسومة بالزيت ومعلقة في ذات الغرفة التي لازال يكتشفها يوسف الآن، هذا المنظر هو الذي كان يحدق به من سطح منزله منذ ساعة ونصف (على الأرجح) وقد كان آخر ما رآه فيها بعد أن نادته أمه للرجوع إلى البيت.
قال لها ياالله جاي. لكنه أبحر في سفينة كانت في زجاجة (كيف دخلت هناك؛ لاشك أنه مارد علاء الدين من فعل ذلك). إذ كيف لسفينة حقيقية أن تدخل في زجاجة. لا شك أنه فعل السحر. لكن عينا الطفل دخلتا عبر الزجاجة حتى ظن نفسه على متن تلك السفينة وسمع هدير البحر وأصوات النوارس وحبال الصواري وصريرها، وحتى أنه شم الملوحة والرطوبة في الجو. أما المرساة فقد كانت ملقاة في زاوية من الخزانة. وتلك المقتنيات من أساور وخواتم وعملات من شتى الأنواع لا شك أنها تعود إلى القراصنة هكذا قال لنفسه .
صار الولد بشوق دائم لزيارة بيت العمّة، وفي إحدى اكتشافاته للأصداف الهائلة طلب أن تفتح الخزانة وأن يلمس قطعة واحدة. وكانت صخرة صغيرة ولكنها تبدو كأنها من عاج. ولم تكن ثقيلة أبداً. لا شك أن أحد أبناء العمّة أحضرها من بحر بعيد. فضوله دفعه أن يقرّبها من أذنه بل لاصقت أذنه هنا بقي يستمع لدقائق ثم بعدها قال لأمه سمعت البحر الذي تحدثينني عنه وعرفت السفن لا رأيتها للتو. وكان مغمض العينين وقت الإنصات، ثم فتح عينيه وعاد بنظره إلى تلك السفينة. وقال مثل هذه السفينة تماماً والماء نفسه والأصداف أيضا.
هذه الصورة بقيت في خيال الفتى تأتيه كل حين، وقت تخلو المخيلة من الصور تظهر، تماماً مثل فاصل إعلاني في مسلسل مشوّق لكن هذا الفاصل أصبح أكبر فصل في حياته.
تذكر هذا وهو يعبر مع مجموعة من اللاجئين بحر الشمال
قال في خلده مستغرباً ومستدركاً ومتأكداً، وكأنه يقول لنفسه أعرف أنني على حق. لقد مررت بهذه التجربة من قبل ..