تأملات بين رحلتين
الأربعاء؛ نهايات مايو؛ خروجي الأول من البيت، منذ عودتي من تونس إلى طهران، متشبثة بظهر صديقي على دراجته النارية ذاهبين إلى مقهى قريب ستفتتحه صديقته بعد بضعة أيام، وهو مضطر لزيارته اليوم لأنه مسافر غدا إلى أميركا، حيث يقيم.
زارتني أختي في اليوم الأول، ثم دخلتُ في نوم عميق وطويل، بعد سهر وانتظار مديد في مطار إسطنبول، وحكايات التأخر على الطيارة الذاهبة إلى طهران، وضياع حقائبي التي مازلنا لم نعرف مصيرها بعد؛ علقت أختي: “تعودنا”!
وفي اليوم التالي، أتى صديقي الروائي المقرّب. اعتدنا أن تكون زياراتنا قصيرة مثل هذه، كلما جاء إلى طهران، يتصل بي حين يكون قريبا من بيتي إن كنت في البيت لنشرب قهوة معا، نتحدث عن حياتنا، عمّا نريد أن نفعل، عن الكتابة والعمل، نستهزئ من أمور تدور حولنا، يشجعني على كل فكرة أطرحها ويقول لي في كل مرة “إني أرى مستقبلك زاهرا”، يحدثني عن تقدمه الطفيف في تعلم اللغة العربية وحبه لها وللعرب الذين يلتقيهم أو يعرفهم، فمن أجل كتابة نص أو رواية جديدة، وحبه للمغامرات التي تصنع الحياة كما يعتقد، صار يزور العراق كثيرا ويقترب من جبهات القتال أمام داعش. ثم يذهب سريعا بدراجته ويدخل حياة طهران. هكذا كأنه خارج من رواية، يدخل رواية حياتي اليومية، ويغادرها، دون أن نحدد موعدا مقبلا.
على دراجته نتحدث بصوت عال كي نسمع أصواتنا في ضجيج الشارع الذي أسكن فيه، أحدثه عن تونس (كأن الحياة منتشية فيها في كل وقت)، يقول لي صديقي “جميل أن يكون الشخص بلا شخص آخر! جمیل أنك امرأة حرة”.
بعد تونس وأيامها ولياليها السعيدة، المليئة بالشمس والأصدقاء، والموسيقى والحياة، أعود إلى طهران. لم أكتف هذه المرة في تونس بأماكن قليلة، فقد بقي الجنوب التونسي فقط، لم أزره خلال هذه الرحلة. فقد أوصاني الكلّ أن أزوره في موسم بارد.
أجمل اكتشاف لي خلال هذه الزيارة كان الغرب التونسي الأخضر، طبرقة، وذلك الشاطئ الساحر المحاذي للجزائر، الذي سمعت من أعاليه صوت موسيقى “الراي”. قال أصدقائي “كثير من الجزائريين يأتون هنا لقضاء العطلة، والتنزه”. كنت عرفت ذلك من قبل، من أصدقائي الجزائريين. ثم كانت “بنزرت”. حين دخلنا المدينة، وعبرنا الجسر، لنكون على شارعها البحري بالنخيل، والبحر، لم أتمالك نفسي من تسجيل فيديو، لأرسله إلى الصديقات والأصدقاء في طهران، مرفقا بصوت “بوب مارلي” وهو يغني في السيارة، ليعرفوا كم أنا سعيدة، وليشاركوني السعادة. رغم أنهم منذ الأيام الأولى، لا سيما وأنا أرسل الصور من أمكنتنا اليومية التي نجتمع فيها أنا وأصدقائي الرائعين في “الحمامات”، أمام البحر، ومع الموسيقى، واللون الزهري للنبيذ على الطاولات، ومع السماء الوضاءة بألوانها وغيومها، تخيم فوق البحر وتلك الأبنية البيضاء والشبابيك الزرقاء، كانوا يكتبون لي “لا تكفينا الصور، خذينا معك حيث أنت”. وأنا أكتب “سأكتري أو أشتري بيتا هنا، وستأتون كلكم لتزوروني، وتقيموا عندي”. ثم كانت “القيروان”؛ والهندسة المعمارية التي كنت أقرأ عنها، وأراها في الصور فقط؛ السوق القديمة، والأواني النحاسية والخزفية التي تأخذ عقلي معها. “نابل”، و”المنستير”، و”تونس العاصمة”. كنت غارقة في جنة من الموسيقى، والأصدقاء، والسهرات، والرحلات من مكان إلى مكان، ومن مدينة إلى أخرى، حين وصلت رسالة صديقتي في الهاتف الجوال، ذات مساء، فجأة “مريم، عيد ميلاد سعيد”! علما أن عيد ميلادي في نهايات تموز. في مثل ذلك اليوم بالتحديد، في العام الماضي، كنت أخرج من غيبوبة، ومن برزخ ما بين الموت، والحياة. وعاما قبل ذلك، كان صديقي المقرب، وشاعرنا الكبير، “محمد علي سبانلو” رحل، وتركني في فراغ. ثم وبينما كنت أخضع لعملية جراحية، دون أن أعرف أين أنا، وماذا حدث، ويحدث. حين كانت حياتي تنتشل من هاوية العتمة، وتعود إلى الضوء، وبينما أنا في لحظات العودة إلى الحياة، والكل ينتظرني خارج الغرفة. كنت أفكر أني في باحة مظلمة، تضيئها بعض المصابيح الملونة، وأسمع صوته يغني تلك الأغنية الفارسية القديمة التي كان يغنيها في كل مرة أزوره “إنها ليلة الأنس، يا مريم، تعالي تعالي”. كل تلك الأشياء تعود، وأنا جالسة في شرفة المطعم، أمام البحر، في الحمامات. أتحدث عن ذلك لصديقي الشاعر التونسي. أتصل بصديق مشترك عاش معه ثلاثين عاما في البيت نفسه، واسمعه يقول “إننا جالسون في البيت، نحيي ذكراه، فهذه ليلة رحيله”. نتحدث معه، وأقول “أشعلوا شمعتي له “.
رغم شعاراتي وتشجيع من حولي لي على نسيان الماضي لو كان حزينا، إلا أن المرء يبقى تحت سلطة أمور وأحداث ماضية، كانت علامة أو منعطفاً في حياته. كأن الأزمنة تتداخل فی بعضها، وهذا ليس أمرا سيئا أو جيدا. إنها الحياة.
تمرّ اليوم أربعة أسابيع على عودتي. في مثل هذا اليوم في تونس، وقبل شهر، كنت أودع أصدقائي، عائدة إلى طهران. يوم واحد قبل عودتي ذهبنا إلى مصنع النبيذ، واشتروا حصة لا بأس بها. المطاعم لا تقدم النبيذ خلال شهر رمضان. واليوم، وعلى عتبات العيد، ذاهبة إلى روسيا. موسكو وسان بطرسبورغ. أذهب الليلة، وما زال هواء تونسي في رأسي. لا تمرّ جلسة لنا دون أن أحدث أصدقائي عن تونس، ومسرّاتي هناك؛ وأنا واضعة في الحقيبة كتبا ترافقني في الرحلة التي علي أن أخوض غمارها بحمولة خفيفة جداً، يعود لي ذلك الشعور، وأنا وحيدة في مقهى، أمام البحر، في “ياسمين الحمامات”. شعور بكوني سعيدة، بكل ما أملك من أمكنة أحبها، بالعالم حولي، كائناته ومكوناته، بالشعر، والموسيقى، والطبخ، والرقص، والحياة التي عرفت حتى الآن كيف أسير فيها لتروق لي. كنت وحيدة في المقهى. أنتظر صديقي، وأتواصل مع صديق آخر. أقول له “لي رغبة أن أقرأ شعرا لبازوليني”. أشرب القهوة، وأبحث في الإنترنت عن قصائد مترجمة له. يرسل لي صديقي أيضا قصيدة للشاعر سبق أن ترجمها هو إلى العربية. أقرأها وأشعر بالسعادة. هناك لحظات سعادة، ألوانها زاهية أكثر من غيرها. إحداها كانت تلك.
اليوم وأنا أتهيأ للسفر إلى روسيا، في خضم كل ما قمت به منذ الصباح، من قهوة، وأنواع مختلفة من الموسيقى العربية، والفارسية، والأجنبية، والطبخ، والمشي، والاستعداد للسفر، والمكالمات الهاتفية، أشعر بمثل تلك الأحاسيس. وحدة (بمعناها الخاص بي) وسعادة (بمعناها الخاص بي)، ورغبة في قراءة شعر جيد (جيد وفق معاييري الخاصة). ورغم أني ذاهبة إلى عالم قد لا يرتبط به كثيراً، لكن بازوليني من نوع ما سيستقبلني شعره هناك.