تأمل في الشعرية العربية
ومنذ “نقد الشعر” لقدامة بن جعفر في القرن الثالث الهجري وحتى الآن مازالت العرب تتأمل شعريتها حتى وصلت إلى استخدام مناهج البحث الأوروبية في النقد الأدبي.
لن أوسّع من حقل تأملي هذا ليصل حدود النقد الأدبي المتخصص، بل تأمّلي هذا هو أقرب إلى النظرة الفلسفية المهجوسة بالوصول إلى العام .ولهذا كان سؤالي الأرأس هو: هل هناك شعرية عربية رغم اختلاف الأزمان والأمصار؟
الجواب بنعم .فكل شعر مكتوب بلغة العرب ينتمي إلى الشعرية العربية سواء كان كاتبه شاعراً من موريتانيا أو كان شاعراً من كردستان العراق. وليس أحد بقادر، إذا ما قرأ قصيدة عربية لا معرفة مسبقة لديه بها مغفلة من الاسم أن يخمّن إلى أيّ بلد من بلدان العرب تنتمي.
وإن انتماء الشعر إلى هذا البلد أو ذاك من بلدان العرب لهو انتماء جغرافي وليس انتماءً لنمط من الشعرية خاص بكل بلد .وليس من الحكمة أن نتحدث عن اختلاف شعري كيفيّ بين شعر هذه المنطقة أو تلك من مناطق العرب .والأقرب إلى الصواب النظر إلى اختلاف الشعراء أنفسهم بمعزل عن انتماءاتهم الإقليمية .وعندها سنجد تنوعا بين شعراء مختلفي البلدان واختلافا بين شعراء بلد واحد.
وعندي بأنه لمن الصعب أن نتحدث عن سمات جوهرية للشعر الفصيح في هذا البلد أو ذاك، فيما يمكننا أن نتحدث عن الاختلاف في الشعر الشعبي بين هذه المنطقة أو تلك .وهذا تعبير عن طبيعة الثقافة الشعبية السائدة في المعنى الموضوعي .فشعر مظفر النواب المحكي لا يختلف عن شعر الفرّا إلا في درجة الشعرية وليس في الماهية لأن الثقافة الشعرية الشعبية واحدة في المنطقتين .فيما هناك تشابه في الشعر المحكي اللبناني والساحل السوري والجليل الفلسطيني، وهكذا.
فيما الشعر الفصيح ليس له هوية منطقة أو قطر أو بلد .بل إن الشاعر الفرد هو المعبّر عن شعره .غير أننا قادرون على تتبّع أنماط من الظواهر الشعرية نشأت في هذا القطر أو ذاك دون أن تحدد ماهية البلد الشعرية كلها.
فمدرسة أبولو الشعرية المصرية ظاهرة مصرية لأنها مرتبطة بجماعة مؤسِسة لها منهم أحمد أبو شادي وإبراهيم ناجي .غير أن الظاهرة الرومانسية في الشعر انتظمت الساحة الشعرية العربية كلها في تلك المرحلة من أبوالقاسم الشابي في تونس إلى اللبناني خليل مطران إلى السوري عمر أبوريشة .أما من هو الأكثر شاعرية من بين هؤلاء فهذا لا يعود إلا إلى الذائقة الشعرية للمجيب، وإلى معايير نقد الشعر ..الخ .وليس إلى شعرية البلد الذي ينتمي إليها.
وليس هذا فحسب، فإن الشعر العربي بعامة قد عاش التحولات نفسها تقريباً، بمعزل عن مسألة البدايات .فالشعر الكلاسيكي العربي الذي استعاد حضوره في بدايات القرن العشرين، شعر بحور الفراهيدي والقوافي وحتى الأغراض، شعر عمّ البلاد كلها ومازال مستمراً على هذا النحو على الساحة العربية كلها.
بل إن المتأمل ليندهش من هذه الظاهرة الغربية اندهاشاً سرعان ما يزول في كشف أسباب تعايش القديم والحديث في كل أنحاء حياتنا العربية من الشعر حتى الأزياء مروراً بالأفكار.
فما زال الشعر الكلاسيكي في مديح السلاطين مستمراً، ومن الصعب على الذائقة الشعرية الغنية الآن بإنجازات الشعرية الراهنة لقصيدة النثر أو التفعيلة بأغراضها الجديدة وجماليات لغتها أن تدرج قصائد الجواهري المدحية في عداد القيمة الشعرية، بل هي أقرب إلى الصورة الكاريكاتيرية لمدح المتنبي لسيف الدولة إذ تعوزه موهبة المتنبي ولا شك.
بل إن الشعر الكلاسيكي الحماسي الوطني المباشر مازال يحاكي شعر الفخر القديم وقس على ذلك لا فرق بين هنا وهناك.
وفِي المقابل فإن الشعر العربي الجديد شعر التفعيلة وشعر قصيدة النثر قد عم الساحة الشعرية العربية .والسؤال عن أيّ البلدان العربية الأكثر شعرية من في هذا الشعر الجديد سؤال لا معنى له .فأنا مثلاً أميل إلى اعتبار صلاح عبدالصبور المصري أكثر شعرية في جديده من شعرية العراقي سعدي يوسف .والسياب العراقي أكثر شعرية من الفلسطيني سميح القاسم وهكذا ..لماذ؟ لأن هذه الأحكام تابعة لذوقي وثقافتي ومعاييري أنا.
حتى المسرح الشعري العربي الذي يعود لخليل اليازجي في مسرحيته البسيطة “المروءة والوفاء” الفضل في إبداعه عربياً أو لسليم البستاني في مسرحيته “قيس وليلى” صار ظاهرة شعرية عربية عامة .من مسرحية أحمد شوقي الشعرية “قيس وليلى” إلى مسرحية “الإزار الجريح” لسليمان العيسى مروراً بمسرح صلاح عبدالصبور الشعري، ومسرحية “مأساة الحلاج” للمصري صلاح عبدالصبور هي أهم المسرحيات الشعرية العربية التي اطلعت عليها أنا .وتتفوق بما لا يقاس على مسرحية “الإزار الجريح” للسوري سليمان العيسى، و على مسرحية “شمسو” للعراقي خالد الشواف وهذا التفوق على السوري والعراقي لا يعود لمصرية الصبور بل لموهبته فقط.
نخلص إلى القول: إن التمايز والاختلاف في الشعرية العربية تمايز يعود إلى الأفراد وليس إلى المناطق والأقاليم .والحق أننا نحن أبناء بلاد الشام والعراق ومصر نحتاج إلى معرفة أكثر في مظاهر الإبداع العربي الشعري بعيداً عن تلك النزعة بالريادة والتميز في الشعر والرواية وسواهما من صنوف الإبداع.
وبعد: لقد كتبنا مرة في صحيفة “العرب” قائلين “ومن ثقافة الحوار يولد القبول بنسبية الحقيقة، التي لا تتناقض مع موضوعيتها، وليس بالنسبية المطلقة، لأننا إذا انطلقنا من نسبية مطلقة تصبح كل الأحكام على مستوى واحد من الحقيقة، عندها لا يكون حوارا، والنسبية المطلقة تطيح بمعايير الحقيقة، وبالتالي كيف يمكن أن نؤسس ذهنية حوار انطلاقا من فكرة الوصول إلى الحقيقة، مع الاعتقاد بأن هناك أحكاما صائبة وأحكاما مخطئة؟ فالنسبية لا تلغي صحة أحكام أو خطأ أحكام، وخاصة في المعارف الأدبية والعلوم الإنسانية”.
والحق، إن الأيديولوجيا مفسدة للحوار ولانتصار ثقافة الحوار ولكن متى تصبح الأيديولوجيا مفسدة للحوار؟ عندما تتحول الأيديولوجيا إلى أساس للمعرفة والتقويم ويصبح التعصب بأيّ صورة من الصور مصدر أحكامنا .إن الانحياز الأيديولوجي لا ينتج حوارات مثمرة بل التضاد الذي هو نفي الآخر، والآخر في ثقافة التضاد غير موجود، بل في ثقافة تقوم على التضاد لا تقوم فيها ثقافة الحوار، لأن أهم شرط من شروط الحوار هو الاعتراف بحق الآخر في الرأي وحريته في التعبير عن الرأي المؤسس بدافع المعرفة والمعرفة فقط حتى ولو كان الرأي يقع في تناقض مع الرأي الآخر، والنقيض لثقافة الحوار هو ثقافة الإقصاء .وعندي أن الحوار هو أداة تحرر من ذهنية الإقصاء والنفي والحقيقة المطلقة، وما أحوجنا نحن العرب إلى تجذير ثقافة الحوار في عالم يضج بالاختلاف .الاختلاف والاعتراف بحق الاختلاف يجب أن يقود إلى الحوار طريقاً لتطوير الأفكار والتحرر من التعصب، وكل تعصب مرذول.