تحرير الجنس في السينما التونسية
الملاحظ الجيد للسينما التونسية الحديثة، خاصة تلك التي تطرح النقاشات والاهتمام الدولي، لا بد أن يكتشف بأن أغلبية المواضيع التي تعالجها تلعب فيها على حبل الضدين، لتصل إلى هدفها، أهمها الصراع الكبير بين الحداثة والتقليد، وبينهما يتم طرح «الثيمة” التي يُرى بأنها جوهرية، وأغلبها تحرير الجنس من المفاهيم المتداولة، والتعرض لمشاكل المرأة وما تعانيه من كبت عاطفي وهيمنة ذكورية، وعليه كان موضوع التشبث بالحداثة وما تحمله من قيم حضارية وإنسانية، وما تعنيه مفاهيم الحرية والانعتاق من الماضي، هو الغالب عليها، من أجل محاربة التقاليد البالية التي تجعل من المرأة سقط متاع، ووسيلة إنجاب فقط، فيما تقوم بكبت أحلامها وطموحاتها، أما التفاصيل فتنقل عادة عن طريق سلطة الأسرة والمجتمع والمدينة، وما تحمله هذه الفضاءات من متناقضات، بين من يتمسك بالماضي وتقاليده، وبين من يتطلع للمستقبل وما يحمله، لكن الجنس حاضر بقوة لدى كل طرف، سواء في السرّ أو العلن، من هنا يكمل دور هذه الأفلام التونسية الحديثة، التي تحررت من «الطابو” وقدمته في مشاهدها بكل حرية وبعيدا عن أيّ سلطة، وهذا ما نجده مثلا في أفلام كل من «عصفور السطح” لفريد بوغدير ومرورا بـ” الدواحة” لرجاء عماري، ووصولا إلى فيلم «على حلة عيني” لليلى بوزيد و”نحبك هادي” لمحمد بن عطية.
دخلت السينما التونسية مطلع تسيعنات القرن العشرين في عهد جديد، بعد أن لامست مواضيعها القضايا المسكوت عنها، وانخرطت في عملية تحرير الجنس وتقديمه في عدة مشاهد، مع إظهار جسد المرأة ومفاتنها بكل حرية، في عملية تفاعلية لكسر «طابو” جسد المرأة، وما يحمله من مفاهيم جاهزة وموروثة من قبل مجتمع منغلق على نفسه، خاضع لنظام تحميه سلطة دينية، لديه صورة وأحكام مسبقة عن المرأة، فما بالك بجسدها وبتفاصيله الصغيرة والمثيرة، وعليه جاء عمل المخرج التونسي الكبير فريد بوغدير «عصفور السطح” (1990)، ليفتح مساحة شاسعة من النقاش حول ماهية العُري، ويدُخل السينما التونسية في دائرة الاهتمام الدولي، بعد أن أخرجها من محليتها التي جثمت فيها لعقود من الزمن، وهذا من خلال فيلم «عصفور السطح” الذي تدور قصته في الحي الشعبي المعروف بتسمية «الحلفاوين” الواقع في تونس العاصمة، أين نقل المخرج عدسة كاميرته إلى هذا الفضاء الروحي والجمالي، لينقل نبض شوارعه، بيوته، وأزقته المُغرقة بالمعاني، الضاربة في عبق التاريخ، إذ يحكي كل تفصيل من الحيّ قصته بصمت، أطلق المخرج العنان لأبطاله في هذا الحي، من أجل أن يؤلفوا فسيفساء مجتمعية، متباينة ومتماسكة، أطلقهم لينقلوا لنا فترة مهمة في حياة كل واحد فينا، وهي مرحلة المراهقة، عن طريق الطفل نورا، الذي بدأت الأسئلة تراوده كما راودتنا جميعا، أسئلة تتعلق بالجسد، واللذة، والفرق الفيزيولوجي بين المرأة والرجل، الفرق بين من يعيش اللذة ويحس بها، ومن يسمع عنها، ويرى حرارتها في عيون الآخرين، من خلال هذا الطرح وُفّق المخرج بوغدير في اختيار المرحلة العمرية التي سلّط عليها الضوء، وهي الأسابيع القليلة التي تفصل الطفل نورا عن مراهقته، والفاصل المهمّ الذي يسبق سن الإدراك الحسي للأشياء، وعليه جاء ملخص العمل كالتالي «نورا صبى صغير، سوف يصير بعد عدة أسابيع مراهقا، ويبلغ سن الإدراك الحسي، إنه لم يتجاوز الثانية عشر، والمرحلة التي يعيشها تتمركز فيها حيرة الانقسام بين عالم الرجال الذي يجلبه نحوه، وعالم النساء الذي لا يزال يحميه، فهو يحب أن يظل صغيرًا حتى لا يفقد عذوبة وحنان النساء، أم هل يجب أن يتمرس في مدرسة الشارع ليعلمه عالم الرجال، يجد نورا الحل ويتعلم كيف يعيش معهم بفضل حكمة الشخصيات العديدة التي تحوطه، تلفظه النساء من الحمام، فيتلصص عليهن، ويتلذذ، ويصبح حمام الحلفاوين شاهدًا على حالة تحول نورا من طفل إلى شاب”.
وقد فسّر المخرج فريد بوغدير في هذا الفيلم العديد من المظاهر الجنسية التي كانت تُعتبر من الأشياء غير المفهومة لدى فئات واسعة من المجتمع، من خلال نقله لصورة محكمة ومنسوجة بإقناع، وبعيدة كل البعد عن مفهوم إقحام جسد المرأة في الفيلم، حيث كان حضوره مفسّرا دراميا، عن طريق عيون طفل، وبهذا الفيلم يكون فريد بوغدير قد فتح الباب على مصراعيه، للعديد من المخرجين والمخرجات التونسيين، لتوظيف الجنس، والتطرق له دون عقدة، وهذا ما لمسناه ورأيناه بقوة في عمل المخرجة رجاء عماري في «الدواحة” الذي تم إنتاجه سنة (2009)، حيث استطاعت هذه المرأة/المخرجة أن تنقل المشاكل الجنسية لدى المرأة، حيث عمل الفيلم على تصوير هذه المعاناة، من خلال أسرة متكونة من أمّ، وابنة كبرى في الثلاثين من العمر، ومراهقة صغيرة، يعشن في قبو قصر مهجور، ويتحصّلن على قوتهن من خلال الحياكة اليدوية، أو زرع مساحة الحديقة، يعشن منطويات منعزلات عن العالم الخارجي، ومن حين إلى آخر يكسر هذا الصمت المطبق على حياتهن حفلات ابن صاحب القصر، الذي يأتي مع صديقته سلمى لممارسة طقوس اللذة والمتعة، ومن هنا تتقد شرارة الجنس لدى الابنة الكبرى، التي لا تجد سوى العادة السرية لتحرير لذتها، فيما تبحث الأخت الصغرى عن أنوثتها من خلال اكتشافها أحمر الشفاه، وزجاجات العطر، ومن هنا تبدأ رحلة الحرمان الذي يعكسه القحط الجنسي لدى النساء الثلاث، لتدخل سلمى كمرآة عاكسة للحضارة والحرية والانعتاق، أين تحاول تحريض عائشة البنت الصغرى على مقاومة الوضع، والبحث عن مساحة للحرية، والتخلّي عن الماضي والسلطة التقليدية التي تمثلها الأخت الكبرى والأم، لينتهي الفيلم بتحوّل سلمى إلى ضحية بعد أن تقتلها الأخت الكبرى، فيما تقضي عائشة على حياتها بموسى الحلاقة، في عملية فعل وردة فعل، نقل الفيلم عبر العديد من مراحله عوالم وصورا جنسية متعددة، تظهر الرغبة الجامحة التي ولّدها الضغط والبيئة والمجتمع، وكل امرأة من الأسرة وحتى الوافدة الجديدة، قد أدّين وقدمن حكاية لها دلالتها الواضحة ومغزاها القوي.
حضر الجنس في العديد من الأفلام التونسية، وقد تعرّضت أغلبها لمشاكل المرأة ومكبوتاتها، نذكر منها فيلم «الخشخاش” للمخرجة سلمى بكار، ونقلت من خلاله الفراغ العاطفي وما ينتج عنه، من خلال زوجة تعيش عدم الإشباع الجنسي من طرف زوجها، بسبب شذوذه الجنسي، ومن هنا تولد عندها رغبة الإدمان على الخشخاش، بعد أن تخلّى عنها زوجها جنسيا، رغم عديد الطرق التي اتخذتها ومارستها لإيقاد شهوته، لتنتهي حياتها في مستشفى أمراض عقلية، ناهيك عن أفلام «حلق الوادي” و”المشروع» ” عرس الذيب” و”بنت فاميليا” وخلافها من الأفلام الأخرى التي كان الجنس أحد ثيماتها.
آخر هذه الأفلام التي اشتغلت على «ثيمة” الصراع بين الحداثة والتقليد، هو فيلم «نحبك هادي” للمخرج محمد بن عطية، الذي دخل به المسابقة الرسمية للدورة السادسة والستين من مهرجان برلين السينمائي الدولي في دورته الأخيرة، وقد خرج من هذا المهرجان العريق بجائزة العمل الأول، وجائزة أحسن ممثل التي تحصل عليها محمد مستورة الذي أدى دور «هادي براك” في الفيلم، ينقل العمل قصة بسيطة بطلها هادي الذي يعيش حياة تقليدية بسيطة في مدينة القيروان -مدينة متمسكة بعاداتها وتقاليدها ومحافظة- تربطه علاقة خطوبة بفتاة تقليدية من نفس المدينة، لمدة ثلاث سنوات، وبعد هذه الفترة تقرر تحديد موعد للزواج بعد ثلاث أيام، لكن خلال تلك الفترة تعرّف هادي المنطوي على نفسه إلى فتاة تونسية مقيمة في فرنسا في مدينة المهدية -مدينة ترمز للانعتاق والحرية والحداثة- وهناك تواصل معها جنسيا الكثير من المرّات، وعندما عاد لخطيبته وأثناء أحد اللقاءات أراد أن يقبّلها، غير أنها امتنعت ورفضت، بحجّة أنه سيقوم بهذا بعد الزواج، من هنا اتّضح صراع الحداثة والتقليد بين النقيضين عن طريق الجنس، بعد هذا عاد هادي إلى أحضان حبيبته في المهدية، بعد أن وقع في حب هذه الفتاة التونسية/الفرنسية، وقرّر الهرب معها إلى فرنسا، التي ترمز للحرية والمستقبل والحداثة في أكمل صورها وأتمّها، بعيدا عن سلطة أسرته التي رسمت حياته وقررت كل شيء بعيدا عنه وعن قراراته، من هنا تتضح بوضوح رسالة الفيلم، وهي أن تونس منغلقة على نفسها، تحكمها سلطة التقاليد، لا تخلق متنفسا للفرد أو المجتمع.