تحرير الجسد الأنثوي من أصفاد الخيال النمطي
الأنوثة المقموعة هي في جوهرها ذكورة مقموعة. والقمع بما فيه من طغيان للأدوات القاسية والمكمِّمة والمتوحشة أحياناً يحبس أولَّ ما يحبس الفكر، ويعيد تصنيعه بحيث يجعل القمع سائغاً، من جهة، ويخفّف من جهة ثانية من غلواء التناقض الذي يحسب له العقل القامع حساباً لافتاً.
بمعنى، أنّ العقل الذكوري القامع الذي سجن المرأة في تصوّراته، عمل في خط متوازٍ على إقناع المرأة بجماليات الحبس ومنافعه، وقد تعاضدت على تحقيق ذلك، في الثقافة العربية الإسلامية، سردياتٌ دينية وفقهية جعلت الأنثى (بما هي كائن ديني، كالذكر أيضاً) تذهب طواعية إلى تحديد المساحة التي تفضّلها لسجنها، وتأثيث ذلك السجن بما لذّ وطاب من الأصفاد!
ورغم التململات الكثيرة والمديدة للانعتاق، سواء برغبة المرأة الناقمة الثورية المتمردة، أو إرادة الرجل المتخلّص إلى حدّ ما من أوهام ذكورته وتشظياتها، إلا أنّ الدرب نحو تحرير كامل للمرأة لم يكن، ذات لحظة، متبلوراً في الثقافة العربية الإسلامية. وتكفي إطلالة على الخطاب الفقهي ليلمس المراقب أنّ المرأة تحتل الركن الأساسي في ذلك الخطاب الذي لم ينشغل بشيء قدر انشغاله بأحوال المرأة كافة، ما صغر منها وما كبر، وما ظهر منها وما بطُن!
وبين أضلاع هذا السجن التاريخي الطويل تكوّنت التصوّرات المأزومة، وتغذت على ميراث الخديعة، فاختزلت المرأة في الشهوة المحضة، وفي إثارة الغرائز في الوعي العربي والإسلامي، وألصقت بها أوصاف امتدت حتى القنطرة الحضارية الراهنة، إذ يضجّ الوعي الجمعي بتلك النعوت التي صارت أمثالاً شعبية، وبعضها أضحى مساطر، كأنما حتمية اجتماعية راحت تنشأ بتأثير تلك التصورات وسطوتها التي امتدت وغزت عقول شباب يافعين يرطنون بلغات أجنبية، لكنّ وعيهم المشقوق ترشح منه تلك التقيؤات الكريهة!
إذن، كيف يكون تحرير المرأة: الكينونة والجسد من سجن المعنى والوجود؟ هذا هو عصب خطاب التقدّم الذي نرومه الآن؛ تحريرها من الصور النمطية، ومن وهم التأنيث والتذكير الذي تورطت فيه تصورات العظمة، وردِّها إلى حالتها الأولى: إنسانة، بصرف النظر عن جنسها، وجهازها البيولوجي.
تحرير جسد المرأة يتوازى في الأهمية مع تحرير ذاتها، ولعله لا انفصال يمكن أن يُلمح بين الأمرين، فهما وجهان لحالة واحدة. والتحرير المقصود يرمي إلى دفع الجسد للإفصاح عن كل مكنوناته وهواجسه ومخاوفه وعريه وتطرفه وتزمته، عبر الكتابة والمقاربة الفكرية، والحفريات الاجتماعية التي يمكن أن تستوعبها وتغذيها العلوم الإنسانية كافة. وربما تكون العلوم الأخرى المتصلة بالطب والبيولوجيا مساعداً في هذه الخطوة من أجل كسر الوهم الناشئ عن أكذوبة الفوارق بين الجنسين، وهي التي روّجها العقل الذكوري لإثبات أنّ جسد المرأة أوهنُ من جسد الرجل، وأنّ قدرتها على التحمّل أقل. ويكفي هنا أن نذكّر بحكاية امرأة فلسطينية جاءها المخاض وهي تحرث في الحقل، فولدت جنينها، ثم قطعت الحبل السري بحجر صوان، وتابعت عملها، حتى حلّ الليل. ولعل أمهاتنا وجداتنا كنّ من تلك الطائفة التي تحدّت الأقدار بعناد!
كتابة الجسد تعني وعيه وتجاوزه وجعله معطى. وهذه خطوة مهمة تُضاهي أن تنظر إلى المرآة المكبّرة وتعلم علم اليقين أنّ هذا هو وجهك بكل تغضناته وبوافر التجعدات تحت العينين، وبالأنف الرقيق أو الضخم، والذقن الحليق أو المأهول بالشَّعر.
وما يجعل محاولات تحرير الجسد عبر كتابته تومئ إلى ضوء ما في آخر النفق هو عدد الكاتبات بالدرجة الأساسية، والكتاب بدرجة ثانية الذين مضوا منذ نحو عقدين في الغوص المتواتر في عتمات الجسد، والإفصاح عن تضرّعاته، وفتح كوى تكبر كل حين لتشرق الرغبة بوصفها حالة شعورية طبيعية، بل وحاجة، من دون أن يكون في ذلك ما يدعو إلى الاستهجان. وهنا يلاحظ أنّ ذهنية التحريم قد سقطت أو تراجعت، بدليل أنّ الكتب، وبخاصة الروايات التي تناولت موضوعة الجسد بجرأة فنية لافتة، قد لاقت انتشاراً واسعاً من قبل القراء العرب، ولا سيما القارئات. وهذا ملمح مهم جداً.
في زمن “السوشيال ميديا” تحطمت حواجز كثيرة، فصرنا نطالع ما سكن طويلاً تحت القشرة الاجتماعية المخاتلة. ثمة نار تندلع في هشيم التصوّرات العتيقة، وثمة نصوص تكتبها فتيات ونساء غالبيتهن دون الأربعين تمتاز بالطزاجة واللوعة الحقيقية والرغبة الصادقة في الانعتاق، والحديث عن المثلية الجنسية. فصار سؤال الجسد مشروعاً، وصار الحب واستدعاء أشعاره ونصوصه أمراً جاذباً. ولم تعد الكتابات المتطرّفة التي استقرّ الوعي المدجّن على وصفها بـ”الماجنة” تثير حفيظة المتابعين، حتى لو كانت هذه العمليات تتم أحياناً في عالم افتراضي، وبأسماء مستعارة سرعان ما تخلع استعاراتها وتبوح بأسرارها وهُوياتها.
هذه العملية ما تزال متواصلة، وتلقى قبولاً من قبل المتلقين نساءً ورجالاً حتى في بيئات انبنت عليها صورٌ وانطباعات بأنها محافظة أو متزمتة أو معارضة للانفتاح في حدود التعبير الأدبي والفني. وأهمية هذه العملية تنبع من كونها تناولت “تابو” الجنس بلا مخاوف، فضلاً عن أنها حطّمت التصورات النمطية عن المخيال الذي أطّر أحوال الجنس وتمثّلاته في “براويز″ ظلت قارّة حتى وقت طويل. هناك صور جديدة، وبعضها صادم وعنيف وغريب ومحلّق، عن تململات الجسد الأنثوي وعواصفه وبراكينه وارتعاشاته. ولم يكن لذلك أن يتبلور لو لم يخضع ذلك الجسد للمعاينة، أو لم لو ينكتب أو يُصوّر أو يُنحت، أو يحكى عنه. وهذا كله من فضل الانفتاح التكنولوجي وانفجار عوالم الاتصالات وعولمة “السوشيال ميديا” التي لا يُعرف لها حدود أو ضفاف.
وحتى لا تظل الأنوثة مقموعة، وحتى تستعيد الذكورة عافيتها على قاعدة المساواة الإنسانية والبيولوجية، يتعين أن يتم الاشتغال على التشريعات التي تُنصف هذين المكونين، وتعيد إليهما الاعتبار، ولعقليهما النضارة، بحيث تختفي الهواجس والظنون، وينكشط الوهم الذي يجعل المرأة ترى في الرجل وحشاً، أو يدفع الرجل أن يرى في المرأة، وحسب، شهوة مضمرة أو جسداً فيّاضاً بالفتنة والغواية، في معادلة يحكمها التربّص الذي ينزع عن الذات عفويتها، ويشعل الاضطراب في نفس الطرفين كلما التقيا وحدهما في مصعد!
وفي الطريق الطويل نحو تحرير الجسد الأنثوي من أصفاد الخيال النمطي، ينبغي المضيّ في نقد الخطاب الاجتماعي لدى جمهرة الفقهاء، الذين لا يعبّرون فقط عن النظام السياسي مجرداً، بل ومرتبطاً ارتباطاً عضوياً بآصرة ذكورية-بطريركية وجدت في المرأة ميداناً خصباً لاشتغالاتها المملوءة بالهواجس والطبقات الكثيفة من مركبات النقص وعُقده.
بهذا المعنى، يُنظر إلى معاناة المرأة العربية والمسلمة باعتبارها وجهاً من وجوه التنازع بين الديني والسياسي، فضلاً عن كونها معاناة مركبة تتغذى باستمرار من التفكير الذكوري الذي تعاضد مع تأويل ذكوري موازٍ للنصوص كشف الشروخ في النظر إلى دور المرأة ووظيفتها، وهو ما سلطنا عليه ضوءاً كاشفاً في كتابنا “الناطقون بلسان السماء”.
لعل الحاجة تلحّ من أجل تحطيم السجون الاجتماعية. لكن السؤال يبقى كيف وبأيّ أدوات. وهذا ما يتعين أن يساعد على الإجابة عنه المثقفون والسياسيون وطبقة المجتمع المدني والنشطاء والمشتغلون في الاجتماع والعلوم الإنسانية.
وما لا يغيب عن الأذهان، في ظننا، هو أنّ تحرير الجسد الأنثوي من التصوّرات النمطية يعني إغلاق دائرة الوهم الجحيمية التي حوّلت البشر إلى كائنات غير طبيعية، لأنها اختزلتهم في منطقة الحواس الغريزية المبهمة، وعطّلت الحرية الذاتية والأخلاقيات الإنسانية، بذريعة ذلك الشيطان الذي هو، بالحتمية الفقهية، ثالثُ الرجل والمرأة إذا اجتمعا، وما الشيطان في الحقيقة إلا جرثومة الخيال المريض التي أصابت الثقافة والاجتماع والحياة بالحُمّى والاضطراب.