ترويم جدتي

الخميس 2016/09/01
لوحة: حسام بلان

ذلك المساء، لا زلتُ أتذكر أَحْداثَه كما لو أنَّها حدثت البارِحة. أراها الآن بعيني طفل لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره. كان ذلك قبل أن تموت جدَّتي بشهور قليلة، وكنتُ الوحيد الذي تستقبلني كأحب حفيد عندها. كانت تحبّني حُبَّاً جماً يفوق حُبَّها لأحفادها الآخرين. كان لها أكثر من عشرين حفيداً من أولادها.

وكانت تخصَّني بأسرارها الصغيرة، التي لا تبوح بها سيدة بعمرها لأحد. ومن تلك الأسرار ما حكتْه لي عن بقائها مُستَيْقَظة لم تذق النوم لأيام، لأنَّ جدّي تزوج عليها.
قالت، وهي تلفُّ عمامتها السوداء حول رأسها، إنَّها لم تهنأ بعيش معه بعد ذلك الزواج. وحكتْ كيف أنَّها انتزعت بأسنانها طلقة من سَاقِهِ في معركة الشعيبة بين الإنكليز ضِدَّ الأتراك وأبناء العشائر. ولو لم تفعل ذلك لمات كما حدث للذين أصيبوا في المعركة.

كنت أسافر مع عمي من البصرة إلى بيت جدَّتي في السماوة أثناء العطلة الصيفية. وكان عمي قد خصَّصَ لها غرفة، وباحة واسعة مستقلة ترمح فيها دجاجاتها وديوكها، وخروف ضخم، ونعجة هزيلة، لها بقعة سوداء في رأسها. قالت لي «هذا الكبش جدَّك» وهذه المسكينة مشيرة إلى نعجتها «جدَّتك» أنظر كم هو خبيث، وهو ينطحها! كنت أضحك لتأنيسها الحيوانات.

في ذلك المساء الصيفي الذي لا أنساه، أمسكتُ بالزجاجة (المشعل) الذي وضعت جدَّتي له رأساً من التمر، تتوسطه سفيفة قطن، ويستمد وقوده من نفط مُلئت به الزجاجة، وتوجهنا إلى بيت عاتي.

الكهرباء لم تصل بعد إلى أطراف السماوة في ذلك الوقت. كانت جدَّتي موِلّدة حيوانات ماهرة، فهي توِلَّد البقرات، والعنزات، والنوق، وما أنْ تقع حالة مخاض لحيوان، حتى تُستدعى.

كانت مهمتها هذه المرة تَرْويم بقرة! وهذا ما سمعته منها، ونحن في طريقنا لهم، وهي عملية معقدة، ما إنْ رأيتها وعشتها حتى تغيرتْ حياتي، وعرفتُ أشياء عن الحياة لم أكن أعرفها من قبل. كانت البقرة قد ولدتْ عجلاً توفاه الله تعالى قبل يومين، فأخذتْ الأم تخور وتلعي، كما لو كانت امرأة فقدت وليدها.

وانقطع حليبها، فلم تعد تدِرُّه. وكان أشد ما يؤلم لعيها، الذي لا ينقطع ليلاً أو نهاراً، وانقطعتْ عن تناول ما يقدم لها من برسيم أخضر ونخالة. كانت مهمة جدَّتي الإيحاء للبقرة بأنَّها حملتْ وأنجبتْ ثانية !

وجدنا عاتي وأبناءه قد قيدوا البقرة في الزريبة، وجعلوها تبرك على قوائمها، وعلى ضوء المشعل، والفوانيس ربطتْ جدَّتي عينيَّ البقرة، وسدَّتْ مِنْخِريها بحشوتين من القطن. ووضعت على المِنْخِرين قراصتي خشب، لئلا تسقط الحشوتان، ولتمنع تنفسها من المِنْخِرين تماماً.

كنت أَنير لها الزريبة بالشعلة، وأنا أرتجفُ من الخوف. ثم رأيتها تخرج من ثوبها خنجراً وتجرح به عنق البقرة، فخارتْ مـتألمة، لكن الجدَّة لم تأبه لخوارها، وأدخلتْ خيطاً من النايلون في طرفي الجرح بمخيط، فازداد الخُوَار، ولكن جدَّتي لم تهتم، وأعطت طرف النايلون ليمسكه عاتي، وطلبتْ منه أنْ لا يشدَّهُ إليه حتى تطلب منه ذلك.

وأوقفتْ البقرة من بروكها، وطلبتْ كيساً مملوءاً بالدَّمْنِ فأعطوها، فوضعته في فرج البقرة. وأخذت تدفعه بكفها إلى داخل الرحم ببطء، وبين لحظة وأخرى كانت تطلب من عاتي أن يسحب خيط النايلون، ليشدَّ جرح عنق البقرة، فتخور من الألم، وضيق التنفس.

وبقينا على هذه الحال أكثر من ساعة، والظلال في الزريبة تتراقص أمام عينيّ كأشباح الجن، والبقرة تشعر بألم الجرح، فتظن مصدره رحمها المحشو بكيس الدمن. فتهتاج، ويزداد خوارها. وكدتُ أرمي الشعلة وأهرب من هذا الجحيم !ولكن إلى أين أهرب في هذا الليل، ومن دون جدَّتي؟ وفي لحظة انفراج رأيتُ الأولاد يأتون لجدَّتي بعجل صغير.
ربطتْ رقبته بطرف خيط النايلون، وأخرجت كيس الدَّمْن من رحم البقرة، وقد غطاه سائل الرحم الكثيف، وخمطتْ ذلك السائل بكفها، ومسحته برأس وبطن العجل، وتركته يرضع سرْسُوب البقرة ثم رفعت غطاء عينيها، وأزالت حشوتي منخريها، وقطعت خيط النايلون المعلق بجرح رقبتها بالخنجر. فنظرتْ البقرة إلى العجل الصغير، وأخذتْ تشمَّه، معتقدة أنه وليدها، وأنَّ ما مرَّ عليها من آلام أنَّما هي آلام المخاض.

ووسط تكبير الحاضرين، درَّ السَّرْسُوب غزيراً من ضرعها. فهتف الحاضرون: رَامَتْ.. رَامَتْ.. أي قبلتْ البقرة العجل وليداً لها. ولكن لم تكتفْ جدَّتي بهذا النجاح بل طلبت أن يأتوا بكلب لينبح بوجه العجل.

وما أن فعلوا حتى رأوا البقرة تهرع للدفاع عن العجل. فابتسمتْ وقالت، الحمد لله، أفرحوا رَامَتْ بقرتكم! علت الزغاريد في بيت عاتي، واستبقونا لنأكل الرز باللبن معهم. وبالرغم من مشاعر الفرح حولي ومنظر جدَّتي وهي تغسل وجهها، وتمسحه بفوطة، إلا أن عواطف متناقضة أخذت تنمو داخلي حول الأمومة وعواطفها الجياشة، وخداع البشر وحِيلَهم. صرتُ أكثر فهماً لمعنى أن تمدَّ يدك الحانية لإصلاح ما سببه الموت من فُقْدَان بعد تَرْويم جدَّتي لتلك البقرة.

(السَّرْسُوب: حليب البقرة بعد الولادة).

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.