تسجيل الوقائع وروايتها

الجمعة 2016/04/01

منذ سنوات طويلة أتدرّبُ على كتابة مقتطفات من شهادات وسير وتواريخ شخصية وعامة تروي حوادث وتجارب من حياة أشخاص أصادفهم. أفعل ذلك بعدما أستنتج أن ما عاشوه وخبروه في حياتهم يستدعي الرّواية.

في مطلع العام 2000، مثلًا، حملتني أول حادثة كبرى مفاجئة ودموية شهدها لبنان، وقام بها شبّان عكاريون وطرابلسيون إسلاميون إسلامًا جهاديًا تحت اسم “جماعة التكفير والهجرة”، على جمع شهادات وسير عن أحوال مدينة طرابلس ومجتمعها في النصف الثاني من القرن العشرين. وحتى العام 2010 تجمّعت لديَّ مادة كتاب رويت فيه سيرة اجتماعية وحربية لمدينة طرابلس.

وفي العام 2001 قمت برحلة بريّة في شمال سوريا وكردستان العراق وصولًا إلى مدينة السليمانية، فكتبت وقائع هذه الرحلة ومشاهداتي فيها عن بلاد المهانة والخوف الأسدية والصدّامية.

وبعد مصادفتي شابًا من حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، روى لي في العام 2003 سيرة حياته في مجتمع بلدته المحلّي طوال سنوات الحرب وما قبلها وبعدها، شرعتُ في جمع سير وشهادات عن وقائع الحروب ومجتمعها في بعض المناطق اللبنانية. وبما أن “حزب الله” شهد ولادته وتأسيسه في ضاحية بيروت الجنوبية التي حوّلها مجتمعًا حربيًا حول نواة سمّاها “المربع الأمني”، استكملتُ جمع سير وشهادات عن المجتمع المحلي الريفي ما قبل نشوء الحزب الخميني في الضاحية وفي أثناء نشوئه، وصولًا إلى اكتمال ما سُمّي “مجتمع المقاومة الحربي” في تلك المنطقة.

المادة هذه تروي سيرة تفصيلية لضاحية بيروت الجنوبية منذ ما كانت تسمّى “ساحل النصارى” نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، وحتى صيرورتها اليوم ضاحية “حزب الله” وحده لا شريك له، بدءًا من ثمانينات القرن الماضي.

في العام 2005، وفي غمرة تحرّر لبنان من القبضة الأمنية والعسكرية لـ”سوريا الأسد”، صادفتُ رجلًا سوريّ الأب لبنانيّ الأم، فروى لي سيرته السوريّة واللبنانية وسيرة تنقله لسنوات طويلة في 15 سجنًا من سجون الأسد. هذا لأن العنف والترويع حمله مرة على شتم حافظ الأسد في مكتب سكرتير وزير التربيّة السوريّة. رواية الرجل المروّعة دعتني إلى طلب تسجيل سير وشهادات تروي ما يعيشه السوريون في بلادهم التي كانت تندُر الأخبارُ والشهادات والكتابات فيها عن حياتهم ومجتمعهم وحوادثها. ظننت آنذاك أن وجود ألوف العمال السوريين المنتشرين صامتين مهمّشين منذ سنين طويلة في الديار اللبنانية، تسهّل ذلك الأمر. لكني سرعان ما اكتشفت أن صمتهم وهامشيتهم لا ينطويان على الخوف من الرّواية والخبر فحسب، بل كذلك على ما يمكن تسميته إرادة الخوف والكتمان التي اجتثَّت مقدرتهم على الخبر والرّواية عن حياتهم وبلادهم، كما في الديار اللبنانية حيث اكتفوا بتحصيل القوت وكفاف العيش.

فالنظام البعثي الأسدي الذي تسلّط على سوريا تسلطًا طغيانيًا شبه استعماري في مرآة الثورة السوريّة الراهنة حوَّل البلاد سجونًا ومعتقلات تمحو الذاكرة والخبر عن الناس والحوادث، وتقْصُر إرادة الكلام والتعبير إمّا على الكلمات الأبدية الخاوية للبعث والرئيس القائد، وإمّا على التواصل الآني الوظائفي شبه البيولوجي بين البشر. لذا كان على جمع السير والشهادات عن سوريا الأسد أن ينتظر الحدث السوري الكبير المستمر منذ آذار 2011. أي عندما بدأ السوريون النطق والكلام بأجسادهم وألسنتهم في الديار السورية الصامتة الخرساء في سجون الكتمان والخوف والترويع.

والحق أنّ ما جمعته من سير وشهادات عن سوريا ما قبل الثورة وفي بداياتها ونشرته في كتاب “موت الأبد السوري”، ليس سوى غيض قليل من فيض ما رواه ويرويه السوريون منذ بدء ثورتهم وما يستمرون في روايته بعد صمت مديد، ليصير لهم ولبلدهم ومجتمعهم حياةً وتاريخًا يخرجانهم من ذلك الأبد الأسدي الخاوي والمميت. وهو أبد احتل سوريا احتلالًا استعماريًا وجمّدها في الزمن، كأنما لا وجود للبشر فيها إلا عبيدًا منذورين للقتل، إذا لاحت في أفق حياتهم بارقة للحرية. هذا وكان شويعرٌ أو زجّال لبناني مبهور بسلطان الأسد قد أنشد في القرداحة ربما قائلًا “أسد/ والناس تحتك عدد”. اليوم بعد ما حدث في سوريا وسواها من بلدان الربيع العربي، يلوح في بلدان هذه المنطقة كلها أفقٌ حالك السواد من الدّم والدّموع والدّمار والتهجير. وهو أفق يتصدره، إلى بقايا قدامى الطغاة الدّمويين، نسلٌ من طغاةٍ جدد نشأوا وتربّوا في متاهات صحارى الطغيان القديم وسجونه التي خرجوا، أُخرجوا منها وباشروا إنشاء إمارات عسكرية دينية وظلامية، سرّية أو علنية، في رعاية شعارات كثيرة منها “الأسد أو نحرق البلد”. وكذلك كمثل قول الرئيس الإيراني “إن جنرال الحرس الثوري حسين همداني قتل في سوريا دفاعًا عن آل بيت النبي محمد”. هذا بعدما أنجز الجنرالُ مهمّته في قتل وترويع شبان انتفاضة الحرية في إيران عام 2009. ومن تلك الشعارات أيضًا أن “حزب الله” الخميني الملبنن، يقاتل في سوريا كي “لا تُسبى زينب مرتين”. وهذا وصولًا إلى إعلان رأس الكنيسة الروسية الأرثوذكسية أن الجيش الروسي يقوم بـ”حرب مقدسة” في سوريا. وكان سبق لجنرال الحروب المدمّرة في لبنان أن حوّل جماعته وأشياعه المسيحيين مصفقين، كأهل ذمة، لقتال الحزب الشيعي الإيراني الملبنن في سوريا، تحت شعار “حلف الأقليات في الشرق”، وذلك توق مستميت من جنرال متقاعد للوصول إلى سدة الرئاسة في جمهورية ممزقة ومشرفة على الانهيار.

ماذا تستطيع الصحافة والكتابة والرّواية أن تروي اليوم من وقائع هذا العالم المسترسل في متاهة الدّم والترويع والدّمار والهجرات؟

هل من شيء آخر سوى تسجيل هذه الوقائع وروايتها؟

لا أدري؟

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.