تسعير حياة البشر
ما ثمن حياة ما؟ هذه ليست استعارة بل تعبيرٌ يحيل على أسئلة في صميم التصور السياسي في الغرب. ثمن حياة يوافق معادله المادّي، ماليّا أو مصالح اقتصادية أو سياسية أو غزوات عسكرية، كل شيء يباع ويشترى. “تسعيرة حياة” للباحث أرييل كولونوموس يصف بدقة المعادلات المادية للحياة البشرية، سواء أكانت العملية عادلة أو مجحفة، ووضعه ذلك موضع مساءلة فيه تشجيع على المحافظة على الأرواح، وفيه أيضا لجوء إلى توافق باهظ. فأن تكون حيوات البشر متساوية في الحقوق لا يعني أن وسائل إنقاذها أو حمايتها متماثلة أو ينبغي أن تكون كذلك. والصراع على أشدّه بين المتطلبات الإنسانية والإرغامات المادية، لاسيما في هذه المرحلة: عمّ نتخلّى لإنقاذ الأرواح أو حمايتها، وكم نفسًا يلزم كي نكسب حربًا؟
ولاء يهود فرنسا لإسرائيل
ساهم يهود فرنسا منذ الثورة الفرنسية في تطوير الديمقراطية والعَلمانية، ما عرف بمرحلة الفرنكو – يهودية. ورغم الاضطهاد الذي لحقهم من حكومة فيشي، ورغم إنشاء دولة إسرائيل، ظلوا متمسّكين بالاندماج، ولكن استقلال بلدان المغرب العربي وهجرة جالياتها اليهودية إلى فرنسا خلق منعرجا أول، فالوافدون الجدد لم يكن لهم نفس ثقافة الاندماج التي ليهود أوروبا الشرقية. ثم كان المنعرج الثاني خلال حرب الأيام الستة، حيث دعت إسرائيل كل يهود العالم إلى مساندتها بغير شروط، فظهرت الفرنكو – صهيونية التي اتسمت بالوفاء لبلد المنشأ بالإضافة إلى الوفاء لإسرائيل وسياستها أيّا ما تكن، فصارت مؤسسات اليهودية الفرنسية تسعى لإقناع اليهود بأن مصيرهم لم يعد مرتبطا بفرنسا، بل بـ”دولة/أمّة للشعب اليهودي” ذات منحى توراتي عنصري. ذلك هو محتوى “يهود فرنسا بين الجمهورية والصهيونية” لشارل أندرلين المراسل الأسبق من القدس لفرانس 2، طيلة 35 سنة.
الإنسان في عيون كاتب راصد
“كاتبٌ راصد” للفرنسي بيير باشي (1937-2016) يضمّ أهم مؤلفاته: أمام أمّي، الحبّ أيّام زمان، بلا حبّ، العمر المتقدم، وداعا، سيرذاتية أبي، محادثة في جاسّي، غباوة الذكاء. والمعروف أن باشي كاتب جامع، فهو مؤلف ومترجم وناقد وكاتب مقالات تحليلية، رصد كل ما يخص التجربة الإنسانية، فاهتم بالأدب الفرنسي اهتمامه بأدب شرق أوروبا من كافكا إلى سولجينتسين، وكتب في التاريخ والسياسة، ولكنّ هذا الكتاب خصص لمؤلفاته التي اعتنت بكل ما هو حميم، وكان صوّر فيها بأسلوب أنيق، عدّه مناوئوه بالنخبوي، أقرباءَه وأحبابَه، مثلما صوّر أولئك الذين همّشتهم الحياة الحديثة، غايته رصد دواخل الفرد في شتى ظروفه الاجتماعية، فقد كان “حسّاسًا بواجبنا كأفراد في أن نكون مَن نكون” بعبارة إيمانويل كارير مقدّم الكتاب.
تناغم العلم والأدب والفلسفة
كارلو روفيلّي، الأستاذ بجامعة مارسيليا، يجمع بين علم الفيزياء والفلسفة والإنسانيات. جديده بعد “نظام الزمن”، و”حقول” وخاصّةً “سبعة دروس موجزة في الفيزياء” الذي حقق نجاحا عالميا، كتابٌ بعنوان “كتابات متسكّعة” يتساءل فيه عن العالم الذي يحيط بنا، وطبيعة الزمن الذي يمرّ، علاوة على الأسئلة الفلسفية ذات الأجوبة غير المؤكدة. يضم الكتاب مجموعة من المقالات يتنقل فيها من لوليتا لنابوكوف، والمخدرات، والأسفار في القارة الأفريقية، إلى الإلحاد والخيمياء عند نيوتن، ومن الفلسفة التحليلية إلى أخطاء أينشتاين، فيلمس القارئ نظرة الكاتب الشمولية، التي يهتم من خلالها بكل ما يؤثث هذا العصر، ويحاول أن يبين ما تنطوي عليه من تناسق يتحاور فيه العلم والأدب والفلسفة بشكل متناغم، ما يعطي انطباعا بأن عناصر الكون يكمّل بعضها بعضا.
ليبرالية تحتية
الليبرالية، التي كانت تعد تاريخيا ضامنا للحريات الفردية ضد الاستبداد، صار ينظر إليها اليوم كسلوك خاص بالنخبة، وثقافة حكر على “المنتصرين في العولمة”، وفئات مدينية محظوظة تصم آذانها عن مشاكل الأغلبية. كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟ يتساءل عالم الاجتماع الألماني يان فيرنر مولر في كتاب “الخوف أو الحرية”. ويبين كيف ولماذا فرضت مثل هذه الأفكار نفسها بعد نهاية الحرب الباردة، وكذّبت انتظارات المنتصرين الليبراليين. واستنادا إلى تأملات المفكرة الأميركية جويت شكلار، يتوقف عند “ليبرالية تحتية” يعتقد أنها يمكن أن تضمن وجودا مستقلا، بعيدا عن الخوف. مثل هذه الليبرالية في رأيه يمكن أن تقدم بشكل غير مسبوق سياسة تقوم على فكرة الأمن للحيلولة دون الميز. وفي اعتقاده أن ذلك قد يساعدنا على الخروج من الصراع بين نخب ليبرالية وشعبويين.
التنقل كحق إنساني
وسط خرسانات أبراج المدن ما بين الخمسينات والستينات صاغ المفكر الكاميروني أشيل مبيمبي مصطلح “العنفوية”، لوصف العنف السياسي الذي يميز هذا العصر، والنزوع إلى حركة تدميرٍ وإزالةٍ للنسيج الحيّ تمارَس على المخيال والأجساد والأدوات وكل ما هو حيّ. فقد حوّل القرن الحادي والعشرون الإنسانية إلى مادة وطاقة وفضلات، ونفث في الأشياء والآلات أنفاس الحياة. لقد سبق لمبيمبي، الذي يعدّ من أهم نقاد ما بعد الكولونيالية، أن حلل تواصل “هَرْس” الأجساد السوداء منذ الاسترقاق، ولكنه هنا يتوقف عند صنع إنسانية زائفة عبر العالم، حيث باتت الشعوب والدول تقيم الحواجز حول نفسها لمواجهة المهاجرين، القادمين خاصة من القارة الأفريقية، وتستعبدهم حينا وتتركهم يموتون غرقا حينا آخر، ويلح على حق الناس جميعا في التنقل، لخلق كوسموبوليتية تقوم على المشترك الذي يوحّد ولا يفرّق.
هل تتألم النبتة؟
بعد الدفاع عن الحيوان حدّ المطالبة بعدم أكل لحومه نهائيا، ظهر من يدافع عن النباتات ككائنات حية تحسّ وتتألّم. يصدر ذلك عن عدد لا يني يتزايد من مفكرين يريدون منح النباتات ميزة أخلاقية وحقوقا وحتى اعتبارها شبيهة بالبشر. وهو ما تتصدى له الفيلسوفة فلورانس بورغا، مديرة البحوث في المعهد الوطني للبحوث الفلاحية، في كتاب “ما النّبتة؟ مقالة في الحياة النباتية”، تبين فيه أن النباتات بوصفها خالية من الوعي والحياة النفسية، تتوجّه إلى الخارج ولا تتوجّه إلى أعماق داخلية، ليست كائنات حسيّة، وحياتها التي لا تموت إلا لتنبعث هي نقيض التراجيديا. وفي رأيها أن من يدافعون عن وعي أو غير وعي عن إيثيقا نباتية، ويسوّون بين سائر أشكال الحياة، إنما يسيئون إلى القضية الحيوانية. والكاتبة تتوسل بالعلم والفلسفة لتبين أن النبتة، خالدة افتراضيا، خالية من صفة فردانية، قادرة على التكاثر بالتطعيم أو الافتسال، ولا يمكن أن تقارن بالحيوان.
الهاربون من دمار العالم
“أجيال القائلين بنهاية العالم” كتاب لإيف سيتّون من جامعة باريس 8 وجاكوبو رَسْمي من جامعة غرونوبل، يتوجّهون فيه إلى كل من أغرته فكرة الكوارث التي تهدد العالم، وهم في الغالب يائسون ولكن دون تشاؤم، كما يقول المؤلفان، يحاولون البحث عن أشكال الحياة التي لا تزال تتمنع على الرأسمالية النشيطة، وهم يشعرون أن قدرهم أن يتلمّسوا طريق النجاة في عالم يشهد منذ عقود انهيارات متواصلة، فيعبّرون عن ذلك من خلال أنشطة تجمع بين التمرّد والانعزال في أماكن بعيدة عن مخاطر محدقة، ليعيشوا حياة بدائية، خالية من كل ما يمكن أن يلوّث الطبيعة. والمؤلفان ينتميان إلى حقل العلوم الإنسانية، ولكنهما ناشطان إيكولوجيان، يداومان البحث عن شكل من أشكال الحياة التي يمكن تحقق آمالهما وآمال من يؤمن بغايات هذه الحركة.
اليسار وفكر الأنوار
منذ أعوام، ما انفك بعض الأصوات ينتقد نقدا راديكاليا ما يمثل جوهر إرث الأنوار أي العقلانية والتقدمية والكونية. هذه الانتقادات يتبنى أصحابها الدّفاع عن المهيمَن عليهم، وهو خط واسم تقليدي لمختلف تيارات اليسار. ولكن هل تنخرط ضمن الحركات الاشتراكية والشيوعية والأنارشية التي جعلت أفقها امتدادا وتوسّعا لنضالات الأنوار البورجوازية؟ في كتابها “اليسار ضدّ الأنوار؟” تجيب ستيفاني روزا، الباحثة المتخصصة في الأنوار والثورة الفرنسية، بالنفي، ففي نظرها، ثمة جانب كبير من قوى اليسار تتنكّر لفكر الأنوار، وتتنكر بالتالي لماضيها ونضال رموز تيارات على مرّ الحقب. والباحثة إذ تقوم بنوع من الجينالوجيا الفكرية لمناهضي الأنوار، تستعرض بعض المحطات من الحساسية الرجعية للرومنطيقيين إلى نقد العقل لدى فوكو، ومن جورج سوريل في بداية القرن العشرين إلى النزعة المحافظة لدى جان كلود ميشيا، وتدعو في الختام إلى اشتراكية جان جوريس، التي صالحت بين صراع الطبقات والنسوية ومناهضة العنصرية.
سرّ استمرار الأديان
يعتبر هانس جواس من أبرز ممثلي سوسيولوجيا الأديان والفلسفة الاجتماعية الألمانية. في كتابه الجديد “سلطات المقدّس” يطرح سؤالا حارقا عن مكانة الدين التي لا تتزعزع داخل الحياة الاجتماعية المعاصرة. وفي رأيه أن الرؤية الخطية للعلمانية كتراجع متزايد وعالمي للدين، والتفسير الصوفيّ لعودة الدينيّ ليسا مناسبين لمقاربة هذه الظاهرة المعقدة. وهو إذ يستعرض ويناقش النماذج الكبرى التي وضعتها الفلسفة وعلم الاجتماع منذ القرن الثامن عشر لفهم الحياة الدينية، يحاول أن يبني بديلا لسردية “فشل العالم”، ويعتقد أن فهم مستقبل الدين لا يمكن فصله عن تأوّل التوترات بين السياسي والديني، بين الدولة والمؤسسة الكنسيّة، اللتين أوجدتا فتحات استطاع الأفراد فيها بناء حريتهم وتحديد حياتهم المشتركة. كتاب يدعو فيه صاحبه إلى كونية حقوق الفرد، التي تتبدى على الصعيدين التيولوجي والسياسي في نبذ مزدوج للأنظمة التيوقراطية والدكتاتوريات العلمانية على حدّ سواء، والتحذير من إضفاء قداسة ذاتية على أوروبا ضدّ الإسلام.
بين عالم يأفل وآخر يهلّ
كنا نعيش في القرن العشرين تحت سقف التاريخ، وها نحن اليوم ندخل عصر الطبيعة. “لقد غادر الثديّي ذو القائمتين الإله عندما صار فاوستيا ليقع في التاريخ، ولكنه يكتشف أنه صار حيوانيا عندما خرج من التاريخ”. كذلك يصف ريجيس دوبريه الإنسان في كتابه الجديد “العصر الأخضر”، ويلاحظ في جدّ مشوب بالسخرية هوس الناس بالتجرد من أشياء كثيرة، والتخلي عنها نهائيا، كنبذ أكل اللحوم والسير بدل استعمال وسائل النقل الخاصة والعامة وما إلى ذلك من مظاهر وممارسات، ما يعني في نظره زوال عالم وظهور عالم جديد، وهو لا يعترض على ذلك بل يذكّر بالخيبات التي رافقت أفضل القضايا التي كانت تطمح إلى تقديم أجوبة عن صعوبة، ثم لا نلبث أن نفاجَأ بقضية أخرى.
أصول الثورة الجمالية
“زمن المنظر الطبيعي” هو كتاب جديد للفيلسوف جاك رانسيير. والزمن المعني هنا ليس تاريخ بداية قول الشعر أو رسم أزهار غابات وجبال وبحار على جدران حديقة، ولا هو تاريخ مولد هذه الكلمة ومعادلها في اللغات الأخرى، بل المقصود هو الزمن الذي فرض فيه المنظر كموضوع فكري مخصوص، تَشكّلَ عبر خصومات ملموسة حول تهيئة الحدائق، ووصف دقيق للحدائق العامة المزدانة بمعابد على الطريقة القديمة وللمسارب والدّروب الغابية، وقصص الأسفار في البحيرات والجبال والحديث عن الرسوم الميثولوجية أو العتيقة. والكاتب يبين كيف أن ذلك التوضيب غيّر معايير الفن ومعناه، الذي غيّر بدوره معنى المفهوم الأساسي للطبيعة في الاستعمال العام للنظر الفلسفي.