تشريح الخيانة
لكلمة الخيانة وقعها الثقيل على النفس، كما في الآذان، ولصورة صاحبها في الأذهان هيئة وصورة ما للشيطان في الموروث الشعبي والذاكرة الجماعية لدى غالبية الشعوب من قبح ودمامة يثيران النفور الشديد لدى الناظر إليها، إلى درجة تفوق صورة القاتل والزاني شدة في القبح.
قد يستغرب البعض القول إن الخيانة لا تنتمي إلى عائلة الصفات والمفاهيم الشريرة، وليست صفة مستقلة عن غيرها، بل، وهنا تكمن المفارقة، ولب المشكلة، إنها تنبثق من أسرة القيم النبيلة: الحب والصداقة والوطنية والوفاء، وهي أشبه ما تكون بالعفريت الذي يظهر فجأة للبسطاء والمغفلين، فيثير فيهم الدهشة والرعب، أو بالجرثومة التي تنخر في الخفاء في أصل الشجرة؛ جرثومة تتضخم فجأة نتيجة خلل ما كامن في الأصل؛ وتعصف بالشجرة؛ شجرة الحب الخضراء، أو الصداقة والوطنية، بضربة قاصمة، وبما يشبه الضرر الذي تحدثه الاضطرابات الناشئة في أجهزة التنفس مثلاً، أو الدم، أو الاضطرابات العاصفة في النفس، من اكتئاب وهستيريا ووسواس قهري وغيرها.
والخيانة خيانات: خيانة عاطفية بين حبيبين، وأخرى زوجية، وثالثة بين الأصدقاء، ورابعة عسكرية وسياسية ووطنية، وكلّها موجعة ومؤذية، بل وخطيرة، بيد أن الخيانة العسكرية والوطنية هي الأشد ضرراً بين تلك الأنواع، لأن الضحايا فيها كثر، يتعدى التأثير فيهم العدد وكسر الخواطر والمشاعر، إلى قتل البشر ودمار البلاد والاقتصاد، واحتلال الوطن واستعباد الشعب.
ورغم اتفاق الجميع على أن الخيانة فعل شديد القذارة والخسة، وأن صاحبها كائن فاقد لإنسانيته، فإن تجسيدها في الحياة، وممارستها بالفعل، جار على قدم وساق، طالما في جِراب الخائن أكثر من قناع، وأجساد الفاعلين تختزن روائح الخيانة ولا تطلقها، كما حدث لزوج السيدة الهندية الخائن.
ولرائحة الخيانة قصة طريفة قد لا تسرّ الكثيرين، وهي أن سيدة هندية تدعى شانيكتا بالاوال كانت تشك بخيانات زوجها لها، فاهتدت بعد تجارب كثيرة إلى دواء عجيب أسمته “ka-fashto” لاحظوا تطابق هذه التسمية الهندية، طبعاً مصادفة، مع الكلمة الشعبية الشامية “آفشتو” والتي تعني القبض على الجاني متلبساً، غير أن “مفتاح الحقيقة”، وهذا هو معنى التسمية بالعربية، عبارة عن زيوت مستخلصة من عشبة عطرية، يقتصر مفعولها على الخيانة الزوجية، وعلى الخونة من الرجال خاصة، إذ تكفي قطرة واحدة من هذه العشبة، ممزوجة في شراب ما، قهوة أو شاي مثلاً، يتناولها الرجل المتهم، حتى تنطلق منه رائحة أشبه بالبخور، وتستمر لمدة يومين، تم تفسير ذلك على أنه نتيجة انخفاض مفاجئ في مستوى الحيوانات المنوية لدى الخائن؛ ولقد قررت الشركة الأميركية التي امتلكت براءة هذا الاختراع في تلك السنة 2010 أن تجعله سارياً على النساء أيضاً، وأغفلت، أو عجزت، عن تعميمه على مرتكبي الخيانات الأخرى، الوطنية والسياسية والصداقة.. ولعلها لم تعثر، أو لم تود العثور، على زيوت يمكن أن “تقفش” صاحبها؟
يذكر لنا التاريخ خيانات كثيرة وقعت في غير زمان ومكان، ومن قبل أناس من شتى الطبقات، العليا منها والدنيا، كما تروي حكايا الشعوب وملاحمها وأساطيرها قصصاً كثيرة عنها، تثير الاستهجان لدينا، وتجعلنا ندين الفاعلين لها، غافلين عن حقيقة ناصعة، وهذه مفارقة، أن الخيانة ليست عادة قديمة أكل الزمن عليها وشرب، بل فعل لا يني يتكرر منذ أقدم العصور، ويمارس أمامنا وتحت أنوفنا، بتسميات وأقنعة كثيرة، فنصمت عنها ونحن غافلون عن الوجه الحقيقي المتواري خلف القناع، وذلك عن جهل، أو نفاق، وبعض النفاق خيانة.
يطول الحديث عن ذكر ملابسات هذا التغافل عن الخيانة، أو القبض على أصحابها في وضع المتلبس. فشرح ذلك ملتبس ومتعدد المشارب، وخاصة ما يتعلق منها بالخيانات التي ترتكب باسم الوفاء نفسه، والحب، والإخلاص.
ومن أمثال هؤلاء كثر، في الماضي كما في الحاضر، ومعرفتنا بحقيقتهم اليوم ليست سوى نتيجة سقوط الأقنعة، أو إسقاطها، بفعل الزمن وكسر التماهي مع خداعهم.. وكذلك بفضل نباهة بعض من مزق أقنعتها بالقلم، ويحضرني اسم بروتوس كواحد من أكثر هؤلاء شهرة بصفته، الخائن النبيل، والذي ردّ على جملة صديقه المغدور يوليوس قيصر، الذي ساهم في الإجهاز عليه، الجملة الشهيرة: حتى أنت يا بروتوس؟ بالقول: أنا أحبك، ولكنني أحب روما أكثر.
ثم تبعها بخطبة للناس قدم فيها نفسه على أنه الأكثر حباً لقيصر “من منكم يكره أن يكون رومانياً، من منكم يكره أن يكون حراً، من منكم يحتقر نفسه، من منكم يزدري مصلحة وطنه؟ إذا كان واحد من هؤلاء فيكم، ليعترض، لأنه هو الذي يحق له أن يثأر لنفسه مني، لأنني لم أسئ لأيّ أحد سواه”.
ولقد سبق بروتوس، وبزمن بعيد، قائد آخر في الشرق، هو القائد هارباك، قائد جيوش مملكة ميديا، والتي كانت قائمة قديماً في الشمال الغربي من إيران الحالية، باقتراف فعل الخيانة، وتحت يافطة نبيلة، وذلك حين تحالف مع عدو مملكته الملك كورش بهدف إسقاط ملكه المستبد أستياك، فكانت النتيجة أن سقطت المملكة مرة واحدة وأخيرة، وذلك سنة 553 قبل الميلاد.
وبالمثل، وبعدهما بزمن تعاون الجنرال الفرنسي فيليب لافال مع النازيين بحجة مكافحة الشيوعية في بلده. رافضاً بشدة تهمة الخيانة أثناء محاكمته سنة 1945 واصفاً ما قام به بالعمل الوطني النبيل.
وثمّة نوع آخر ملتبس من الممارسات السياسية المنحرفة يضاف إلى هذه الخيانات، التي تتمثل في لجوء “الرفاق الأعداء” في الحزب الواحد، والأحزاب المتنافسة، إلى قوى معادية للوطن أو طامعة فيه، من أجل مساعدتها على التفرد بالسلطة، أو من أجل القضاء على تفرد الآخر القوي بالسلطة. وهو نوع يجد دائماً من يمنحه صكوك البراءة والشطارة، ولقد قدمت التجربة السورية في العقد الأخير من الزمن نموذجاً واضحاً وفاضحاً عليه، ومن الطرفين: موالاة ومعارضة.
ناهيك عن خيانات أخرى تكاثرت في ظل هذه الخيانة الكبرى، والتي جعلت الخيانة تزدهر وتتحول إلى غواية يمارسها الجميع، ويلعنها الجميع.
قد يختلف مفهوم الخيانة من زمن إلى زمن، ومن مكان إلى مكان، حسب الظرف ومستوى الوعي، وسلّم القيم ودرجة تطور المجتمع. ففي ظرف اقتصادي خانق عُدَّ تزييف النقود في بريطانيا خيانة عظمى، وفي ظرف ومكان آخرين، يتم اعتبار معارضة السلطة خيانة.
وفي جعبة الشعوب والتاريخ أمثلة لا حصر لها من خيانات صغيرة وكبيرة، حقيقية ومزيفة.
وكلها تحتاج إلى مراجعة وتشريح وتفصيل للكفّ عن إطلاقها بشكل مجاني على أفعال قد لا تكون سوى خيانة من منظور طرف؛ أحكامه غير سويّة، لسبب ما غير موضوعي، أو قد تكون رد فعل مدمر على فعل ظالم.
أو قد تكون لأسباب أخرى كثيرة، خفيّة وظاهرة، تجعلنا نسارع إلى الإدانة والرفض، ولا يستثنى الخائن نفسه من استنكار الخيانة، رافضاً أن يكون فعله خيانة.
ومن هنا يمكن أن نعدّ بعض الخيانات جهلا بالفعل الذي أقدم عليه صاحبه، وبعضها الآخر طمع في مال أو مكانة، وبعضها حقد وكيد. وبعضها لهدف نبيل كما يزعم أصحابها: بروتوس الروماني، وهارباك الميدي.
ونضيف إلى ما سبق دوافع أخرى، ومنها الأمراض النفسية الخفية أو الظاهرة، لا الوراثية كما يحلو للبعض تسميتها، والتي تدفع صاحبها إلى ارتكاب هذا الفعل، كالشخصية الهستيرية مثلاً، التي تتّسم بسطحية الانفعالات أو التمحور حول الذات وحب الاستعراض. يؤكد فرويد بهذا الخصوص على أن هذا النوع لا يستطيع مقاومة المغريات، بعكس الشخصية السوية. كما يؤكد تلميذه إدلر على أن للشعور بالنقص دوره في دفع صاحبه إلى ارتكاب هذه الجناية، فهو، الخائن، إن لم يستطع أن يعوض النقص لديه بما هو مرض له، وتحت تأثير مقارنة النفس بالآخرين، والعجز عن الوصول إليهم، لجأ إلى خيارات تضمن له التفوق عليهم، دون التفكير بالعواقب، ولا بأس عنده من أن تكون الخيانة واحدة من هذه الخيارات والوسائل.
قد يفيد أن نكرّر القول إن لا زمان للخيانة، ولا مكان، غير أن هذا الكلام يصبح تعميماً خاطئاً إن نحن أغفلنا ظروفا معينة، وأماكن بعينها، تنمو الخيانة فيها وتتسلل في كل أوردة المجتمع، وسمات هذه الأماكن والأوطان غير خافية على أحد، فالقهر واحد من هذه السمات، وغياب القوانين سمة أخرى، وفوضى المصطلحات، والافتقار إلى سلّم للقيم الاجتماعية والوطنية والأخلاقية، والتربية السيئة في البيت والمدرسة، وغيرها كثير، وكلها تجعل الخيانة مجرد رد فعل، ووجهة نظر ومزاج، بل وغواية.. وهذه هي الطامة الكبرى، ولكن، ولذلك علينا معرفة الخيانة وتشريحها، وبعدها إعلاء أصواتنا ضدها، عن إدراك ومعرفة، حينها يصبح الكلام نضالا، وذلك، وكما قال مارتن لوثر “قد يأتي يوم يكون فيه الصمت خيانة”.
ولقد أتى.