تــوكـــاتــــا

الأربعاء 2015/07/01
لوحة: عدنان حميدة

اليوم أشهد جنازة صديقي وابن حينا. المسكين!عذب عذابا نكرا في محافظة الشرطة. جسده المكدود تبقّع بآثار المكواة. أعوذ بالله من شر ما خلق! لم يستخلصوا منه شيئا. البعض يقولون إن الشرطة أرادت أن تعرف سبب السرقة التي ارتكبها لأنها رأت فيها عملا سياسيا بالدرجة الأولى وفي صالح الرئيس أحمد بن بلة. أخوه الأكبر يعرف أن عناصر من الشرطة جاؤوا إلى الحي مستخفين في الزي المدني على سبيل تسقّط الأخبار ومعرفة كل ما يشاع عنهم. صديقي سرق، ارتكب جرما كبيرا، وشقيقه الأكبر لا يعرف كيف يشرح ما حدث على وجه التحديد. أبصر به وهو يغادر دارهم المهترئة برفقتي، ذلك كل ما في الأمر. ولذلك فهو يتمترس وراء الصمت المطلق. أنا أيضا أحرص ما أكون على حياتي. إذا كان صديقي هذا قد عذّب حتى الموت في محافظة الشرطة، فأنا قد أتعرض لخطر كبير إن أنا لم أضبط لساني. يا لتعاستنا في هذا البلد! خرجنا لتوّنا من حرب ضروس ضد المحتل الفرنسي، غير أن البعض من أشباه السياسيين زعموا أنه لا بأس من أن يسيل بعض الدم مجانا فيما بيننا، وزادوا فقالوا إن هذه العملية أشبه ما تكون بالحجامة الخفيفة التي تزيل وجع الدماغ.

توقعت كل شيء إلا هذه النهاية المفجعة. رافقته إلى المكان الذي ارتكب فيه حماقته. أنا لا أقوى على تبيان الأمور الآن. ولا أستطيع أن أتصور الطريقة التي ستتواصل بها الحياة في الحي بعد غياب صديقي هذا وصديق الناس كلهم. عرفنا عنه دائما وأبدا أنه سارق كبير، لكن، ما كنا نتفاداه لأنه كان يدخل قلوبنا دون استئذان. ما كان يسيء إلى أحد، ومجاله المفضل هو السرقة. لا يصارع أحدا بيديه، ولا يتمنطق سلاحا. يداه رهيفتان دقيقتان، يزلقهما أنّى أراد دون أن يلفت انتباه الشخص المسروق. أشهد أنه لم يتجرأ على سرقة امرأة أبدا على الرغم من أن المجال كان فسيحا دونه.

صديقي هذا يسرق أي شيء تمتد إليه يداه. أبصرت به يمارس هوايته في قلب حينا وفي الأحياء الأخرى المجاورة. حين جاء بحمار وربطه أمام كوخه، أدرك الجيران على الفور أنه هدية لشقيقه الأكبر، بائع الخضراوات على عربة مهترئة. شق عليه أن يبصر بأخيه يعاني الأمرّين، دافعا عربته المتعبة، مناديا على بضاعته بصوته الطفولي. أتراه كان يستعد لتطوير تقنيته في الاستحواذ على أملاك غيره من الناس؟ السرقة، حسبما قاله لي مرات ومرات، هي فن الانتقام من حالة البؤس التي أعيشها مع شقيقي الأكبر!

وما أسرع ما جاء صاحب الحمار إلى حينا مطالبا باسترجاع ملكيته. سارت الأمور بهدوء، وطأطأ صديقي رأسه، لا خجلا، بل إدراكا منه أنه لا يمكن سرقة حمار بأكمله من الأرباض المجاورة للحي دون أن ينكشف أمره. لم يتمالك نفسه من الضحك وهو يعيد الحمار إلى صاحبه. قال لي حتى الحمار كان منكوبا مثلي هو الآخر، فقد كان ظهره محروقا بالجبس، ما كان يحب أن تلصق به كناية من مثل سارق الحمار. لعل ذلك ما دفعه إلى أن يتحرك بطريقة أخرى. أخوه دعاه عدة مرات إلى مساعدته في تجارته الصغيرة، لكنه رفض رفضا قاطعا.

في المرة الثانية، عاد إلى الحي على متن دراجة نارية. سأله أخوه الأكبر: لعلك تريد أن تنطلق بصورة أسرع، أليس كذلك؟

الضربات يتلقاها في كل حين، غير أنه ما كان يرد الصاع صاعين لأنه يعرف أنه هو البادئ. شفة مشقوقة من أثر اللطم، جرح في اليد، أو عرج خفيف في الساق، والناس كلهم يعرفون على الفور أنه أخفق في إحدى عملياته. لا تعليق يبدر منه، ثم يدخل في صمت مطبق يحضر خلاله عمليات جديدة ويستعيد قوته. السرقة مجال معركة حقيقية في نظره. كان قيادة وجيشا في وقت واحد. عندما يعرّض نفسه للشمس في الصباح الباكر، أو يستلقي في الظل، وفنجان قهوة في يده، كنا نعلم أنه في راحة مطلقة. كان في مقدوره أن يظل على تلك الحال ساعات وساعات، معرضا جسده للشمس مثل ثعبان عجوز فاجأه الصقيع. من ذا الذي يدري ما كان يصطخب به ذهنه؟ عندئذ كنا نقول: هاهو المحارب قد عاد!

ظهوري إلى جانبه كان يعرضني لبعض الانتقادات. ولكن، هل في مقدور الإنسان أن يضرب صفحا عن طفولته، عن خطواته الأولى في الحياة؟ استحال عليّ أن أتجنبه، سواء في الحي أو في أي مكان آخر. هو صديق الطفولة. كبرت معه، ولعبت معه، وتشاجرت معه عدة مرات، خاصة في الصيف عند شاطئ البحر.

تزايدت الحرارة يوم التاسع عشر من شهر جوان 1965، بالرغم من هبوب ريح شرقية باردة، حتى أن أطفال المدارس انطلقوا إلى البحر قبل موعد العطلة الصيفية. صديقي، على عكس عادته، أخرج كرسيا صغيرا وفي يده فنجانه النحاسي الذي يعتز به لأنه ورثه عن والده. جلس إلى الظل، صالبا ساقيه كأنما يفكر في استراتيجية ما. إلى أين يريد الانطلاق، يا ترى؟ لم يغمض له جفن طيلة الليل، لأنه تشاجر مع شقيقه الذي ما عاد يتحمل خوارقه. ولما كان أقوى منه بنية فإنه ألقى به أرضا. واضطر الجيران للتدخل لوضع حد لتلك المقابلة اللامتكافئة. كان شقيقه الأكبر من النحافة حتى إنه كان يلبس سترتين معا لكي يدلل على ما يشبه وجوده. وكرر عليه قولته: سرقاتك الصغيرة محتملة إلى حد ما، أما أن تسرق حمارا من الأرباض المجاورة للحي، فذلك ما لا أقبله منك أبدا!

ظل الفنجان النحاسي على طرف ركبته مليئا بالقهوة، وضيق عينيه بمرور الوقت. لاحظت أنه بكى. خطوط حمراء نزلت على جانبي خديه. لعله لام نفسه لأنه ضرب شقيقه الأكبر ضربا مبرحا. الفنجان النحاسي، حسبما قاله لي، يجعلني أشعر بحضور والدنا المرحوم. أحس وكأنني أتلقى منه علقة ساخنة! حرصت على تهدئته داعيا إياه إلى أن يذهب ويطلب السماح من أخيه. قام ثم عاود الجلوس مسرعا. اعترف قائلا: أخي الأكبر جدير بأن يتلقى معاملة أحسن. أفضّل الموت على أن أستمر في تعذيبه! ولأول مرة في حياته تحدث عن الموت. الحقيقة هي أنه لم يظهر عليه أبدا أنه إنسان ميال إلى المرح على غرار غيره من شباب حينا.

فوجئت به يسألني: ألا تريد أن تصحبني إلى كاتدرائية السيدة الإفريقية؟

في أثناء الطريق، راحت شاحنات عسكرية تقطع الشارع المطل على البحر. العقيد هواري بومدين، فيما قيل لنا، قام بانقلاب عسكري ضد صديقه الرئيس أحمد بن بلة. تذكرت على الفور صورة للصديقين قبل سنتين أو ثلاث من ذلك التاريخ. كانا جالسين الواحد إلى جانب الآخر، والظاهر أنهما كانا يعلقان على أشد أسرار الوطن سرية.

أدرك صديقي ما يشغل بالي، فسألني ما إذا كنت أشعر بالضيق إلى جانبه. أتراني كنت بعيدا عنه جسدا وروحا في تلك اللحظات؟ لا شك في أن شيئا ما كان يعتمل في دماغه لكنه يجتهد لإخفائه عني. سرت إلى جانبه بصورة آلية دون أن أطرح عليه أي سؤال. ما جدوى الصداقة في هذا العالم الفاني إن لم تكن مشفوعة بالثقة؟ كيف لمناضلين، تعذبا أشد العذاب، من طراز أحمد بن بلة وهواري بومدين، أن يقطعا حبل الصداقة بينهما؟ ردد بعض الشبان في الشارع المطل على البحر أن أحمد بن بلة اقتيد إلى مكان ما في أعالي مدينة الجزائر مع عدد قليل من أتباعه الأوفياء.

التسلل إلى بنك من البنوك أمر ما كان من هوايات صديقي، لا ولا هو خطر بباله في يوم من الأيام. المهم في نظره هو أن يضع اليد على فريسة سهلة دون أن يعرّض نفسه لأيّ خطر. امتلاك دارة جميلة وتقديم يد العون لشقيقه الأكبر في نفس الوقت، ذلكم بالذات هو المشروع الذي ظل يداعبه منذ بعض الوقت. قلت له: أنت إنسان رحب الصدر، غير أن الطريق التي تسلكها ليست بالصحيحة! وبالفعل، ما كان يتجاوز العشرين من العمر، والمستقبل كله أمامه.

درنا حول حي سانت أوجين، ومررنا بمقبرة النصارى، ثم صعدنا الربوة التي تستقر عليها كاتدرائية السيدة الإفريقية في الجانب الغربي من الجزائر العاصمة. لم يندهش أبدا قبالة البناية العتيدة. أدركت على التو أنه سبق له أن زار المكان. تحرقت شوقا إلى معرفة ما كان يصطخب به ذهنه. اكتفى بأن ابتسم وهو يلقي عليّ نظرة خبيثة، ويحكّ لحيته الخفيفة. أتراه كان يريد التحول إلى المسيحية؟ كيف يمكن أن يحدث ذلك دون أن تكون له علاقة بأمور الدين أصلا؟ قمنا بدورة حول الكاتدرائية تحت شمس جوان اللاهبة. بضع فتيات جئن إلى المكان قبلنا، واتخذن مكانهن تحت ظل شجرة الكاليتوس في الساحة الواسعة المطلة على حي سانت أوجين والأفق البحري.

خوف غامض استقرّ في أعماقي، وسرعان ما شعرت به يدب دبيبا في أطراف جسدي. الخوف يتحول إلى شيء ملموس عندما يجد الإنسان نفسه وجها لوجه مع ما هو غامض في هذه الدنيا. فجأة، ولست أدري لأيّ سبب، انفجر صديقي ضحكا. لقد تبين له أن الخوف يسيطر عليّ. تلك هي طريقته لبلوغ ما يريده. يترك الفكرة تنضج على نار هادئة في دماغه، ثم يزرعها حواليه. وكان أن أدرت ظهري للأفق البحري بحركة أدهشته، ورحت أتأمل بوابة الكاتدرائية.

تساءلت مرة ثانية: ما الذي يتطلع إليه صديقي؟ ثم اقتربنا من بوابة الكاتدرائية الزاخرة بالنقوش والتهاويل، ورفعت عندئذ نظري صوب تمثال المونسينيور “لافيجري” الذي فقد ساعده الأيمن. حتى الأمور التي تنطوي على بعض المعاني ما كانت لتلفت انتباه صاحبي في تلك اللحظات. أطللت على داخل الكاتدرائية فلم تقع عيناي إلا على بعض الراهبات. لعل الظن قد ذهب به إلى أنهن يمتلكن بعض الحليّ أو شيئا من هذا القبيل.

ثارت ثائرتي، فقررت أن أتركه وحيدا في المكان، لكنه استمسك بي، وتناول يدي داعيا إيّاي إلى الدخول إلى الكاتدرائية. قلت له وأنا أحرر يدي من قبضته: ليست لديّ أيّ نية لكي أشعل شمعة أمام تمثال مريم العذراء. فقاطعني بقوة: ستتفرج على ما في داخل الكاتدرائية. أنت تحب شؤون الفن، أليس كذلك؟

سايرته صامتا. لم يبد على الفتيات الزائرات أيّ اهتمام بنا وبتحركاتنا. استرقت النظر من البوابة إلى الخارج وأنا أنوي الهروب من المكان. وقدّرت أن الخطوات القليلة التي تفصل مدخل الكاتدرائية عن الحاجز المطلّ على البحر خطوات فيها الكثير من العذاب. وكان أن تناوبت عقلي وقلبي أفكار ومخاوف لا حصر لها وأنا أعجز ما أكون عن اتخاذ أيّ قرار.

أبصرت في أثناء ذلك بفتاتين واقفتين تتأملان تمثال مريم العذراء. ودفعني صديقي بيمناه إلى الأمام. لم أستطع التقدم خطوة واحدة. شعرت بما يشبه الاختناق، بينما بدا هو في غاية الارتياح لأنه كان على وشك تحقيق هدفه. سحبني إلى الصفّ الأيمن، فجلس أولا، ثم استحثني على أن أفعل نفس الشيء. وفي غمرة من الدوخة الطاغية رحت أتساءل: ما الذي أفعله هاهنا؟ ألقى نظرة سريعة على كل ما يحيط بنا، ثم رفع رأسه شيئا فشيئا صوب تمثال العذراء السوداء المنصوب في أعلى القاعة الفسيحة. يا إلهي، تمثال أسود! مرّت بضع ثوان، وأنا مطرق برأسي مدللا على عدم رضاي. واضطربت دقات قلبي، وتلاحقت أنفاسي. انطبعت أمامي صورة التاج الذهبي الذي يلفّ رأس العذراء. وأدركت حينها أنه يريد أن يضع يده على التاج.

أبعدت عنّي يده وأنا أحاول أن أتمالك نفسي على الكرسي: أنا لست سارقا! وانطلقت صوب البوابة وقد جفّ حلقي من الغضب. لم أشعر بشدة الحرارة في الساحة الواسعة المطلة على حي سانت أوجين والأفق البحري. وجدت نفسي وحيدا بعد أن خلا المكان من الفتيات الزائرات. ما كنت أقوى لحظتها على استرجاع وتيرة التنفس الهادئ. وها هو يخرج من الكاتدرائية وعيناه تشعان فرحا بعد أن وجد ضالته. عقدت العزم على ألاّ أسير إلى جانبه. لقد اتضح هدفه: تاج مريم العذراء السوداء هو الذي اجتذبه. ولمّا لم أكن قادرا على تحويله عن مقصده عدت إلى الدار بمفردي.

لم ينشر أيّ خبر عما ارتكبه صديقي. كيف عالج الأمر، يا ترى؟ وفي أيّ وقت؟ ولم يتسرّب أيّ شيء عن هذه السرقة التي ختمت حياته. شقيقه الأكبر، وهو يترقب عودته طوال ثلاث ليال، حدس أنه وقع في محذور لا يمكن معالجته ولا الإفلات من قبضته. امتنع عن دفع عربة الخضراوات في أزقة الحي. تعرّق وجهه أكثر فأكثر. وفي اليوم الرابع تجرّأ على أن يطرح السؤال التالي: ما الذي ذهب يفعله في كاتدرائية السيدة الإفريقية؟ ليس هناك ما يسرقه منها اللهم إلا الصلبان!

جاءت سيارة شرطة لتتوقف أمام كوخ صديقي. وبلغ مسامع الجيران صوت أخيه الأكبر وهو يطلق صرخة رعب وألم. قيل له إن شقيقه انتقل إلى رحمة الله. حاول رجال الشرطة تبديد الفضوليين، لكن الجمع ازداد بعد أن اتضحت الحقيقة. صديقي مات تحت التعذيب بالمكواة حتى وإن لم يوضع أيّ تقرير مفصّل عن هذه الجريمة الرسمية.

قيل إنه فوجئ حوالي الساعة الثانية صباحا داخل الكاتدرائية. كان يحاول وضع يده على تاج العذراء السوداء. ولم يقدّم أيّ تفصيل آخر. الأمر الذي ظل عالقا بأذهاننا جميعا إنما هو التعذيب نفسه وآثار الكيّ التي نالت من جسده داخل محافظة الشرطة.

صمت يقابله صمت آخر في الحي، والسماء لا تريد أن تكشف عن الحقيقة. رجال الشرطة تمركزوا هنا وهناك درءا لأيّ مظاهرة. صديقي عذّب عذابا نكرا في مقر محافظة الشرطة، والمكواة فعلت فعلتها في جسده. لم اللجوء إلى استخدام المكواة لدفعه على الاعتراف بما فعل؟ ما كان صديقي إلا مجرّد سارق يبحث عن لقمة العيش؟ لا علاقة له بالرئيس أحمد بن بلة ولا بالعقيد هواري بومدين.

ها نحن متوجهون إلى المقبرة لدفن صديقي، ذلك الذي حاول سرقة تاج مريم العذراء السوداء من كاتدرائية السيدة الإفريقية. هناك في صدري ما يشبه آثار الكي.

سأعود بعدها إلى الدار لأنصت إلى مقطوعة “توكاتا”، من نغمة ري مينور للموسيقار “يوهانس سيباستان باخ”، تلك المقطوعة التي كان صديقي يتلهف لسماعها دون أن أدري السبب، وكلما تناولنا القهوة معا.

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.