تفسيرات الثقافة ووعودها
نظرية الثقافة في تعريف رايموند ويليامز، هي «دراسة العلاقات القائمة بين العناصر في طريقة حياة، بأكملها. أما تحليل الثقافة، فهو محاولة اكتشاف طبيعة التنظيم التي هي عقدة هذه العلاقات».
يسعى كتاب «غبش المرايا، فصول في الثقافة والنظرية الثقافية»، أعداد وترجمة خالدة حامد «منشورات المتوسط، ميلانو، 2016»، أن يجتهد في بحث إشكالية كهذه، وعبر نصوص أساسية، منتقاة، لمفكرين ونقاد، وقع الاختيار عليهم، وهم: ريموند ويليامز، تيودور أدرنو وماكس هوركهايم، ستيوارت هول، كليفورد غيرتز، أنطونونيو غرامشي، بيير بورديو، ميشيل دي سيرتو، ميكائيل ريتشاردسون، بيل هوكس، وتيري إيغلتون. نصوص يتمثل مسعاها عبر مقاربات في شكل خطابات تفترض رؤى تحليلية لهذه الممارسة المعرفية والتخيلية.
يشخص جدل العلاقة بين المجتمع والثقافة بكون الأخيرة طريقة حياة موجودة في الفن والتعلم وفي المؤسسات والسلوك الاعتيادي، هذا ما تكشف عنه دراسة ريموند ويليامز «تحليل الثقافة»، والتي يبين خلالها الناقد، عن وجود ثلاث فئات منها، الأولى، فئة المثالية في ضوء القيم المطلقة المعبّرة عن صيرورة الكمال الإنساني، واكتشاف ووصف تلك القيم الموجودة في الحيوات والأعمال
. والفئة الثانية، التوثيقية، أي الثقافة بوصفها مجمل العمل الفكري والفني والخيالي الذي يصف ويقوّم التجربة عبر نشاط نقدي يقول إنه امتدادا لقيم التراث، في تمثّله للموروثات التي تؤسسها المجتمعات التي تظهر فيها هذه المرجعيات، فيما تشخّص الفئة الثالثة، في تعريف اجتماعي تعدّ فيه الثقافة توصيفا لحياة وطريقتها المعينة، التي تتعدى الفن والفكر إلى المؤسسات والسلوك اليومي. يسعى ويليامز، إلى تعزيز مفهوم للثقافة بوصفها تعقيدا أصيلا يقابل العناصر الحقيقية للتجربة، لا بكونها عائقا يمنع الوصول إلى أيّ نوع من التعريفات السليمة والمحددة.
في المقالة التأسيسية «صناعة الثقافة، التنوير بوصفه خداعا»، يصرح كل من أدرنو وهوركهايم، بتعددية الحضور الذي باتت تدمغ فيه الثقافة نفسها، أنها موجودة في صناعة الأفلام، المجلات، الأنشطة الجمالية، العمارة، وفي المظاهر التي تمجّد التقدم التكنولوجي، وفي طبيعة اتحاد يقدّم هوية زائفة للعام والخاص معا، والتي لا تتظاهر بوصفها فنا بل «محض عمل تجاري تم تحويله إلى أيديولوجيا»، لتسوغ السطحية التي تنتج عن عمد والتي تطلق على نفسها تسمية الصناعة.
إنها بالأحرى صناعة ثقافية من منظور تقني، قامت معاييرها على حاجات المستهلك، وهي في حقيقتها نتاج «سلطة أولئك الذين تكون قبضتهم الاقتصادية على المجتمع هي الأقوى». نتاج يعزز مبدأ الهيمنة على مجتمع بات مغتربا عن نفسه بأثر التضحية بتلك الفروق القائمة ما بين منطق العمل ومنطق النظام الاجتماعي، حيث لا أثر متأصل إلا في الأدوات التقنية والشخصية التي تشكل جزءا من آلية الانتقاء الاقتصادي الذي ينتصر فيها النمطي على الأسلوب الحقيقي. إن صناعة الثقافة هي بمعنى ما إنكار للأسلوب، فيها يكون الفرد وهما وخصوصية الذات سلعة احتكارية، حتى تتوقف فيها أن تكون نفسها لتتحول إلى محض مركز تلتقي عندها الميول العامة.
تضاهي هذه الرؤية، ما درج عليه حقل تخصصي، بات مستقلا في أطروحاته منذ سبعينات القرن الماضي، يدعى بالدراسات الثقافية، الذي يصفه ستيوارت هول في مقالته «الدراسات الثقافية وإرثها النظري»، بكونه تشكلا خطابيا وجدت نتائجه في أعمال أشخاص آخرين.
يقرّ هول، بأن الدراسات الثقافية قد دخلت من مجالات اليسار الجديد، وهي لم ترتبط بأيّ علاقة بالقضايا النظرية للثقافة، ولكنها نشأت من لحظة تفكر بنوع من الخطاب الماركسي ونقده لمفاهيم السلطة والعلاقة معها، إمكانيات رأس المال، قضايا الطبقة، الجندر والحركات النسوية، والتي باتت تاليا بمثابة توجهات نظرية تكدست على طاولة الدراسات الثقافية.
خطابات الدراسات تكاد تكون جهدا في إعادة إنتاج ما يعرف دائما، لكنها لم تنج، كذلك، من مشكلات الممارسة السياسية، أو ذلك التوتر الذي وصفه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، بكونه نتاج دراسة النص ضمن صلاته بالمؤسسات، والمكاسب، والهيئات، والأحزاب، والمعرفة، والأيديولوجيا. لقد انتصرت الدراسات الثقافية، حينما أوجدت لنفسها الاهتمام بتطورها النظري داخليا، والحفاظ على قضاياها الفكرية بكونها إشكالية مستديمة غير قابلة للحل.
لقد كان لمفهوم الثقافة، هيئة قوية وحدّ لا لبس فيه، ذلك حينما كان الغرب واثقا من نفسه، عقلانيا، ورعا، وتقدميا. إلا أن التحول جاء لأسباب سياسية وأخلاقية وعلمية، جعل من مفهومها ساذجا للغاية، وواضحا أكثر مما ينبغي، حيث ظهرت الحاجة إلى تمثيلات أكثر تحديدا، وباتت تعني الجزر، والقبائل، والأديان ، والجماعات العرقية. وهو ما يوضحه كليفورد غيرتز في مقالته «ثقافات»، غير هذا المفهوم «شأنه شأن أكثر الأفكار في العلوم الإنسانية قوة، قد تعرض للهجوم، كانت الأسئلة تخص أو تتعلق بما يخص تماسك طرق الحياة». وسط رؤية ومناخ كهذا انبثقت « الأنثروبولوجيا»، ذلك النوع الذي يدرس الثقافات ويتواصل بما يتصوّره الناس عن شأن الحياة الإنسانية عموما. وهو التخصص الذي يرى أن تاريخ تشكل مفهوم الثقافة يعيش في الحاضر كذلك، والذي وجب عليه أن يقرأ كذلك، الهامش المتاخم، ذلك الذي يجب على الثقافة أن تطلّ عليه.
في مقالته «خبرة الثقافة» يفترض مايكل ريشاردسون، في كوننا ولدنا في ثقافة معينة ذات معان محددة ومعرفة، نسعى كي نتلاءم في أن نكيّف أنفسنا معها. هي في طبيعتها ليست ثقافة واحدة بل ثقافات متعددة تؤثر كل منها فينا بطرقها المختلفة. لكن يبقى الاختلاف الثقافي لغزا، فكل مجتمع يدعو إلى إنشاء معايير ثقافية مختلفة ومغايرة للمجتمع الآخر، ما يجعل النوع الإنساني، بخلاف كائنات أخرى، بعيدا تماما في تماثله، حيث «الرغبة بالتمايز تعد جوهرية، بالنسبة إلى طبيعة البشر، فنحن نعرّف أنفسنا ليس بما نحن عليه، بل بما نحن لسنا عليه». ولكن في الوقت ذاته، يسعى الفرد بترسيخ كينونته بوصفه فردا متمايزا عن المجتمع. مثل هذا الدافع المزدوج، هو ما يدعونا كي نتحرك إلى داخل وخارج مختلف التشكيلات الثقافية، في أزمان وأماكن معينة، كي نؤسس لوجودنا في العالم. إنها أحد أسباب التماهي مع الثقافة التي حولنا، عبر الانفتاح على عوامل ثقافية معينة أو الانغلاق دونها، «فالثقافة لا تسعى إلى ترك بصمتها على الفرد، من خلال متطلباتها، بل تشكل فردا سيعيد خواصه نفسها إلى الثقافة، مما يغنيها بإسهامه».
مفهوم الثقافة شرك واقع بين تصوّرين، واسع كما في دلالته الأنثروبولوجية، وضيق كما في معناه الجمالي، إلا أن حاجتنا الملحة تتمثل بتخطي هذين التصورين، أي ما مدى مقدار ما تتضمنه بوصفها طريقة حياة. في مقالته «الثقافة في أزمة» يبين تيري إيغلتون، أن ثقافة ما بعد الحداثة تغطي تنوعا واسعا من الممارسات الثقافية، فيما تبدو ثقافة الحداثة خليطا بما هو خاص بها وأخرى غير خاصة بها. ذلك ما يؤدي إلى ممارسات تفتقد الدلالة التي يتم من خلالها إيصال نسق بعينه، وهو الأمر الذي يتفادى التعريف الشامل بالثقافة.
يفترض هذا الصراع بين معنى الثقافة الأوسع والأضيق في الوقت الراهن طابعا يبعث على المفارقة، فالذي حدث هو أن مفهوم الثقافة المحلي، بدا بالحضور عالميا وأصبح مهيمنا، فيما عززت ثقافة ما بعد الحداثة ممارساتها بكونها صراعا واقعيا لا توفيقا تخيليا، بمعنى أنها لم تعد نقدا للحياة بل نقدا يوجهه الهامشي إلى المهيمن فيها. هكذا تناضل الثقافة الآن كي تمد جذورها بين فوضى قوى السوق العالمية، وجماعات الاختلاف المحلي التي تناضل الأخيرة من أجل مقاومتها.