تمرين العقل
يبدو أن منطق التفكير لدى الإنسان العاقل يستوجب ترابط الإدراك والتحليل والفهم والملاحظة والاستنتاج. والمطلوب من التفكير هو تشكيل منطق من خلال استيعاب الأفكار بعد بلورتها ثم بثها بالتعبير عنها أو تفعيلها اجتماعيا في أفضل الحالات، حسب اعتقادنا، من خلال تعليمها أناسا آخرين. والتفكير الإبداعي، على عكس ما يشاع لاستخدام ملكة التفكير اليوم، هو بالأساس وقبل كل شيء فردي شخصي عقلي يخص الإنسان كفرد بصفة مستقلة ويمكن أن يكون التفكير جماعيا في بعض الأحيان لكنه يستوجب الاستغراق الفكري في التحليل والملاحظة قبل التصريح بالأفكار جماعيا وإلا لن يتجاوز التفكير عتبة الانطباع أو الانفعال العاطفي وفي أفضل الحالات سيفرز هذا النمط الجديد من التفكير، ألا وهو التفكير الجماعي، مجرد تعليقات لا ترتقي إلى مستوى الحجاج والإقناع والتأسيس لمنطق متماسك.
ما نلاحظه اليوم من خلال متابعة الإنتاجات الفكرية التونسية المعاصرة من جهة أولى، غلبة التفكير الجماعي في الساحات العلمية على التفكير الفردي للأخصائيين، ومن جهة ثانية تمازج التفكير الجماعي العلماوي بالتفكير الشبكي الانفعالي. والخطير في الأمر أن من سمات التفكير الشبكي الانفعالي التسرع في كل مراحل التفكير لعل أبرزها الاستنباط والتأمل والفهم والتأويل والموضوعية والحكم كما يمجّد هذا النمط التفكيري المستحدث ردّ الفعل والأحكام القيمية فينتج منطق تفكير مبعثر وفوضوي يدفع نحو سبل الشعبوية. وهذا أمر ليس بغريب بل يمثل بالنسبة إليّ نتيجة حتمية بالنسبة إلى كل مجموعة بشرية تقبل وتتعود على نظام النصوص المجزّأة القصيرة والتي لا تحمل نفس السياق عبر كل التطبيقات والمواقع الرقمية وكل الشاشات.
لا يعني هذا التسلسل المنطقي دفعكم للتفكير الضدي أي ترك الشاشات والتسلح بالأفكار التي تحملها الكتب مثلا، هذا ضد ذاك، لا، لكن التفكير النقدي يستوجب علينا مقارنة توظيفات الباث للشاشة، لعل أبرزها القنوات الفضائية التونسية على سبيل المثال، بكيفية استعمال المتقبل للرسائل المبعثرة هنا وهناك عبرها. وأخيرا تفكيك تفكير الإنسان التونسي من خلال مشاركته في ما نسميه الخطاب الافتراضي المبثوث.
ولا شك أن المؤسسة التربوية التونسية، بكل مستوياتها، دأبت على العمل لتدريب العقل التونسي على التفكير اعتمادا على تكوينه في كل المجالات الفكرية من أجل التمييز والنقد البنّاء لكن التشكل الثقافي للأفكار في المعيش اليومي للإنسان التونسي يستوجب تحقق عملية انسجام عملية التدرب على التفكير النظري داخل أسوار المؤسسة التربوية مع تجريب نجاعة هذا التفكير في الواقع من خلال التنشئة الاجتماعية التي تحصل داخل الأسرة والمشهد الاتصالي المبثوث من خلال الشاشات وثقافة الشارع المحفوفة بالمخاطر. وإذا بدأ التفكير العلمي من خلال المؤسسة التربوية بالسؤال فإن التفكير من خلال التجريب فهو مبنيّ بالأساس على المقارنة. وفيما تحيلنا عملية مقارنة تجربة بتجربة أخرى الى التفكير الذاتي، غالبا، خاصة في غياب المرجعية العلمية وعملية التدقيق والاستغراق الفكري، تحيلنا مقارنة تجربة معيش يومي بتفكير نظري علمي سويّ الى المنطق الموضوعي، فالموضوعية تهدف إلى عقلنة المسائل إذن إلى إيجاد انسجام بين العملية الفكرية النظرية والممارسة الواقعية بالتجربة.
فإذا ما حصل عدم انسجام وتضاد بين ما يتلقاه الإنسان التونسي من معارف وأفكار نظرية وبين الواقع المعيش لتطبيق هذه الأفكار نسقط في فخ تتفيه عملية التفكير النظري وكل أهدافه وشعاراته وحتى آلياته لأن تكرار المفارقات بين التفكيرين النظري والعملي سيُنسّب الإنسان المتعلم أو المفكر من أهمية التفكير النظري، في مرحلة أولى، ثم سيفقد هذا التفكير أهميته وناجعته بالنسبة إلى المتعلم، لكن ذلك سيدفع الإنسان المفكر إلى الحيرة وعدم الرضى وكلّ أشكال التفكير المبعثر والفوضوي والانفعالي لينساق الشاب إلى الدرجة القصوى من الهمجية واللاقيمية فيلجأ إلى الثقافات الفرعية والسلوكات المحفوفة بالمخاطر ويطبّع بالتالي مع ثقافة الشارع. وبذلك نفسر طغيان الطابع الإدماني على الممارسات الثقافية للشباب التونسي وكل أشكال العناد والثورة اللامعيارية.
ونلاحظ تزامن هذا الواقع الثقافي الجديد، منذ2011، مع تدعيم الخطاب الإعلامي بعد الثورة التونسية لثقافة الشارع والثقافة المضادة مهمّشين بذلك أهمية المؤسسة التربوية وما تبثه من قيم ومعارف لتأسيس منطق تفكير نظري سام، وبذلك أصبح هذا النمط الأساسي للتفكير عرضة للسخرية والتحقير وهو حسب اعتقادي الشكل الأول والمنطقي من أشكال انتقام الإنسان التونسي من تنامي ظاهرة عدم الانسجام بين التفكير النظري وواقع تطبيق التفكير. المرحلة الثانية هي ضرب صورة حامل خطاب المؤسسة التربوية في شخص المربين والإطارات التربوية عبر بث تمثلات خاطئة حول المربين والاستنقاص من شأنهم ووضعهم موضع الاتهام والتضخيم من أخطاء القلة القليلة منهم وتعميمها على كل المربين. وأخيرا استعباد المربي ماديا من خلال خصخصة مؤسسات التربية لضمان تدخل منطق التفكير الشبكي على منهجية العمل التربوي خاصة على عملية التفكير النظري.
وهكذا تدخل كل من هب ودب في العملية التربوية استنادا إلى تمثلات لا تمتّ بصلة إلى العلم حتى فقدت الجماعات العلمية التربوية نجاعة أفكارها داخل المجتمع ولمع نجم رأس المال المتلاعب بآليات التفكير النظري فوجّه التمثلات والتعليقات إلى تقدير المادة على الفكر والاستهلاك على الإنتاج والتحريض والشتم عوض الحجاج والحوار والنقد خاصة من خلال الشبكات الاجتماعية الافتراضية.
وهكذا هُمّش الجانب النظري وعملية تطوير العقل بالعلم والإستراتيجيات وغلب التفكير النفعي فسادت كل قيم التحيل داخل المجتمع وتسليك الأمور فسقطت قيمة المواقف خاصة السياسية منها وصعد السفسطائيون البارزون خاصة من خلال المشهد الإعلامي.
إن الرأسمالية تهيمن اليوم على وسائل الإعلام كما أن شيوع فكرة إفلاس الدولة التونسية وضعفها ماديا يقسم المجتمع التونسي إلى نصفين: عبيد المادة والسرعة والسهولة في كل مجالات الحياة وبلوريتاريا التفكير والإنتاج في كل المجالات. لكن فكرة الإفلاس تدفع الكثير من الشباب، حوالي مليون طفل خارج أسوار المؤسسة التربوية التونسية، إلى هجر المؤسسة التربوية فيمتنع عن تأسيس تفكير نظري سويّ وسليم ويحرم من تشكيله تدريجيا.
وإلى جانب كل ذلك نعيش اليوم حالة المجتمع الرقمي المتفجر حيث يجد الشاب نفسه مواكبا لصراع أنساق تفكير متباينة على مستوى الشكل كسرعة البث والتقبل وكذلك المحتوى لنصوص متكاملة مترابطة معقدة ونصوص مجزأة بسيطة.
تجدر بنا الإشارة إلى أن مهام المؤسسة التربوية، في سبيل تمرين العقل على التفكير النظري السوي ودفعه على العمل به في أرض الواقع، التدرج بالأفكار من البسيط إلى المعقد والاعتناء بالمضمون وتنسيب الشكل. تنقلب الآية ويتحول منهج التفكير إلى الانطلاق بالمعقد وتمجيد الشكل على المضمون داخل الفضاء الرقم وخارجه هذا ما لا يلائم التوازن النفسي للشباب وسيدفعهم إلى تقديس المادة وسيبعدهم عن ملكة التفكير أصلا ويغرقهم في بحر الإغواء.
ولأن التفكير المُحكم بعقل مُحكم صعب وغير ناجع بالنسبة إلى القطب الليبرالي، وهو قطب تشكله دول المركز المنتجة للتجديدات التكنولوجية والتمثلات الداعمة للنمط المجتمعي الداعية له من خلال ترويجها لها في زمن السرعة، على الإنسان، داخل بلدان الأطراف، أن يختار بين صعوبة تأسيس تفكير نظري سوي عبر المؤسسة التربوية والعمل على الإنتاج (فيستنتج أن المادة والمال ليسا هدفا حياتيا في حد ذاته) أو الانسياق إلى الاستهلاك والسهولة التي توفرها خاصة الآلات واللوغاريتمات والفضاء الإلكتروني عموما.
إذن أرى أن الاختيار واجب على كل فرد من أفراد المجتمع الإنساني. إما الإبداع أو الاتباع، إما الإقناع بتوضيح مختلف وجوه الحقيقة والدفاع عن حقوق البشر أو الانصياع للأيديولوجيات المتخاصمة التي يحركها صنّاع مجتمع المعلومات المتسرع داخل القرية الكونية، إما الأنانية وسد مسار الوعي لربح مصالح ضيقة ومتناهية أو التعاون من أجل تحقيق أهداف سامية ونبيلة.