تنويعات روائية لعبقرية النذالة
على هذا المنوال بنيت محكية «هوت ماروك» لياسين عدنان (منشورات الفنك، الدار البيضاء، 2016) مستلّة استعارة «القرين» من معتقد قديم، لتطريز مفارقات مجتمع ومدينة وحداثة معطوبة، حشد فيها الكاتب كل براعاته الشعرية والقصصية، ورصيده من منبت مسكون بالدعابة لإنجاز نص مرح عن النذالة البشرية.
تحكي الرواية مسار «رحال لعوينة» الشخص/السنجاب، فرد ملتبس وغير نمطي، وقلق ومثير للخيال، تصب في صورته روافد مزرية شتى، تفقده الكنه الإيجابي، لكن دون أن تحوله لشرير بسيط، يتمثل بالأحرى كمركّب عاطفي وظيفي لتناقض الشر وعبثيته، لهذا فهو يشخّص في الرواية صورة جميلة للنذل، أيمكن أن يكون النذل جميلا؟ ربما، فهي المعادلة ذاتها التي تجعل للشّر أزهارا (عند بودلير)، لنقل إنه «نذل خاص» لا يحقد على الآخرين، ويتأمل وجودهم دون ضغينة، ويأسف أحيانا لنزوعات النهش والقطم والجندلة، التي تنتابه بالرغم عنه، بيد أن الشيء المؤكد أن ما يركبه إحساس غير نزيه يتجسد في الرواية عبر صور «المغص» الذي يطحن الأحشاء بإزاء كل النجاحات العابرة للأهل والخلان والبشرية جمعاء؛ النذل في النهاية نتاج محيط ومسار حياتي وقيم اجتماعية ترخي بظلالها على الطبائع والأهواء، وجغرافيا معقدة من الخصاصة والصراع البدائي للبقاء بين الناس، هل يمكن أن نتحدث عن عبقرية للنذالة، يبدو الاستعمال مرتبكا ومازحا إلى حدّ ما، لكنه يضمر بعض ما يسعى إليه الروائي، فنحن أمام عجن لشظايا الهشاشة الطبعية والجبن المتأصل، والتملص من أيّ التزام أخلافي لربح موطئ قدم على هذه الحياة، هذا المسار الذي حولته الرواية المستندة إلى الالتباس واللّغزية والتمدد الأفقي المتوتّر، إلى قيمة روائية ذات عمق شيطاني محبب.
يضعنا الكاتب، منذ الوهلة الأولى أمام لعبة مماثلة تستهوي القارئ، وتجعله يتمادى في تصديق الأحداث المتداعية بنفس مشوّق، لحياة صغيرة للبطل صاحب العين الحسية المضاعفة والمتشعبة، القادم من وسط هامشي لأب عاطل يعيش على تلاوة القرآن في المقابر، وأمّ تنتظر ما يدخله عليها من كفاف يومي، استطاع أن يرتقي في مراتب الفاقة والحرمان بعد انتقال الأسرة للسكن مع العم الأعزب، في حيّ بالمدينة القديمة، وهناك ناضل الولد لاستكمال دراساته الجامعية، حيث يتعرف على النضال الطلابي بفصائله اليسارية والإسلامية، الثورية والإصلاحية، الشرعية والمحظورة، قبل أن يستقر به الحال متزوجا من زميلته «حسنية»، ومشرفا على محل للإنترنت في حيّ مراكشي شعبي.
هذه هي الحكاية الإطار التي خططها الروائي لتحقيق مآربه الروائية، تتصل فيما بينها في الارتكاز على استعارة «القرين» وتخييلها لعبقرية النذالة، تبدأ بالمماثلة الرمزية وتنتهي بالتجاور الفضائي مرورا بالتحاكي الاسمي والكلامي بين الواقع والافتراض.
ويتصل أول هذه المآرب بآلية التخييل، وبلاغة النوع الروائي، حيث يلتجئ الكاتب إلى توظيف «الأمثولة الحيوانية»؛ ليس بوصفها نسقا رمزيا، تنوب فيه أصناف الحيوانات عن البشر، ولا بما هي بنية حكائية مغلقة، قصاراها إجزاء الحِكم، والمفارقات السلوكية. ولكن بوصفها مرجعا لبناء صور الذوات الداخلية في انفعالها الغريزي وتصرفها المكتسب.
وتدريجيا يضعنا السارد أمام تفاصيل مدونة معقدة من القرائن والنظائر والصّور البلاغية المتقابلة، تؤصل لأخلاقيات الاحتيال والحسد والضغينة والوصولية والكذب والغباء والتوحش.. أي لمنظومة النذالة العبقرية، في أبهى تجلياتها. يقول السارد في مقطع تمهيدي «رحال يجد نفسه أقرب إلى السنجاب منه إلى أيّ حيوان آخر وكل حديث عن القرد والفأر والجرذ.. يفتقد للعين اللاقطة التي تعرف كيف تتنقل بنفاذ ما بين ملامح البشر ونظيراتها عند الحيوانات.. الفرق الأكبر يكمن في الأخلاق والسلوك وفن العيش، وكذا في التطلعات العميقة للحيوان، مما يؤثر بشكل لا شعوري في سلوك الإنسان المرادف له، وأدائه في العمل والحياة» (ص 19).
حين يفكر التخييل الروائي بشخصياته حيوانيا، فإنه يحول المنبى السردي إلى حقل لتبيين المشابهات التي تصوغ الظاهر والوجدان والذهنية، فينساق قائد المماثلة مع اللعبة إلى مداها المعري لمحيط القاع، ويتحول «رحال» إلى عين ليس فقط على الخارج والسطحي، وإنما بالأحرى على الداخل المستكين في زوايا معتمة من وعي الشخصيات؛ من وفيق الدرعي (الشاعر)، إلى المخلوفي (الأستاذ التقليدي)، إلى مراد والمختار وغيرهما من رفاق النضال الطلابي، إلى التجار وضباط الأمن والفتوّات، ومرتادي محل الإنترنت من العاطلين والعابرين ومسلوبي الإرادة.
تخطيط: حسين جمعان
وسرعان ما يضحى «القرين» هو عنوان جدل الإعلان والإضمار في فصول الرواية وفقراتها، ولا تدرك التصرفات والسلوكات الفردية، ولا المقاصد والمطامح الجماعية، بدون إدراك جوهرها الحيواني المقابل والمتعالي، وهو المبدأ ذاته الذي استبطن أغلبية نهج التمثيل السردي عبر عالم الحيوان؛ من الخرافة («كليلة ودمنة» مثلا) إلى الرسالة («الصاهل والشاحج» للمعري) إلى الرواية المرتكزة على مجتمع الحيوان («حديقة الحيوان» لجورج أورويل)، إلى القصة القصيرة الناهضة على مبدأ القرين («القرين» لمجيد طوبيا مثلا).
وتنفتح مرجعية القرين على مدار أوسع حين ننظر إلى الرواية بما هي تأويل للوجود المتشظي للفرد الذي قد نسمّيه «افتراضيا» أو «اسميا» أو «صوريا»، أو أيّ توصيف آخر دال على مفارقة الوقائع الموضوعية والالتباس بالصفحة الضوئية، وابتداع واقع وهمي يتصل بالأسماء والصور والكلام فقط، وكأن اقتران الفرد بالقرين الحيواني لا يكفي لتمثيل الكلبية البشرية، وسرعان ما يضحى الوجود الاسمي/الصوري أكثر براعة في تمثيل الخروج من جبلة البشر، إلى قدر الفأرة المجازية للحاسوب، وهو المأرب الثاني الذي تحققه الرواية.
هكذا يمكن إدراك «هوت ماروك» ضمن ضفاف الرواية التفاعلية، بالنظر إلى موضوعها، وبإدراك قدرتها على الاستناد إلى قاعدة التناظر الشبكي، المتفرع نصيا إلى برامج التواصل الاجتماعي والمواقع الصحفية التي تتيح إمكانية التعقيب والنقاش وصياغة فرقعات إعلامية تشغل الرأي العام. مع ما تستتبعه من الجدل الضروري للتخييل الروائي، وللرومانيسك المرح والهزلي، وما تنهي إليه من محو للأسماء وإعدام للمسارات، السلوك الذي تتقنه عبقريات النذالة البشرية في الفضاء الأزرق.
هنا مرة أخرى تتكثّف تجليات النزوع الفطري للقرين اللاإنساني إلى افتراس الآخرين، وقضمهم والتنكيل بهم، على نحو يجاوز ارتجالات الفضاء الجامعي الأحمر والأسود، المقيد باشتراطات الواقع الاجتماعي ومحاذيره، يقول السارد في مقطع دال «حائط على الفيسبوك يمتد إلى ما لا نهاية. لا حدود له، ليس مثل جدار المدرسة أو حائط التواليت. اكتب يا رحال اكتب. دبج ما شئت من رؤى وخواطر.. هذا فضاء آخر أكثر اصطخابا. بحر متلاطم الأمواج يصيب راكبه بالدوار» (ص 215).
ولأنه جدار مفتوح على أوهام العبقريات البشرية المتفاقمة فلن يمثّل في محطات التصوير الروائي إلا كتنويع على مرجعية «القرين» حيث تتماهى الأمثولة الحيوانية بتجليات التعالي الاسمي، فالجدار لن يكون، في يوم ما، ملكا لذات فردية، بقدر ما يمثل كقناع لامتدادها الرمزي المتحايل، ومرتعا لتعرية النوازع الفطرية، تلك التي يطل منها التوحش الشرير ظهير البداوة الغريزية المتأصّلة في الأنفس.
ومن ثم فلن تشكل الرواية في تخييلها لعبقريات النذالة البشرية إلا مرثية لفضاء المدينة المزيفة (مراكش)، الآيلة بعد رحلات طويلة بين حنايا المدنية الوهمية، إلى استنبات الريف المقفر بين جنباتها، فتتخايل بما هي أسطورة ملفقة تداري تشوهات الهشاشة المتأصلة في تكوين النضارة الطافية على السطح، بينما يكمن القرين الحيواني البدائي في العمق وبين الثنايا. وسرعان ما يزدحم السطح المبهر ذاته، بفائض البشاعة الممتد في النسوغ. من هنا تتجاوز استعارة «القرين» لحظتيها السابقتين، تتجاوز «الحيوان» و»الصفحة الزرقاء» لتستوطن الفضاء البدوي الموازي الساكن في العمق، مكثفة عبقرية النذالة البشرية ومشرعة حناياها على أوسع الحدود.
والشيء الأكيد أن رواية «هوت ماروك» تنطوي على مهارة تخييلية ظاهرة، وحبك أسلوبي أخاذ، وبراعة في تبطين السخرية، كما تستند على معرفة جمالية بالعربية لافتة، واستثمار متوازن لطاقتها النثرية، وإمكانياتها التعبيرية عن النوازع والأهواء الإنسانية، أودع فيها الكاتب كلّ مهاراته الذهنية والحسية المغتنية بسنوات طويلة من الممارسة الشعرية والقصصية والصحفية، وانخراطه المهووس في الشأن المجتمعي، ليفلح في المحصلة في التقاط راهن بلد تتقاذفه الإخفاقات السياسية والثقافية وتكلس القيم الاجتماعية المتحكمة فيها، كما تطحنه النوازع البدائية المتأصلة التي لم تفلح يوما أنوار السطح الملفقة في تبديد أثرها من العمق الراسخ.