توغّل في الحالة
خيوط رقيقة من ضوء هادئ تنسكب على الأرضيّة الخشبيّة. طاولة سوداء تصطبغ ببياضٍ عشوائيّ لأوراق مبعثرة. تجلّى الهدوء بوقار في أرجاء المكتب.
رائد يخاف الطّيف. خوفٌ صريح من هالة ضوئيّة داكنة، يتبعه الطّيف أينما ذهب، في يقظته، وفي أحلامه، كجلاد ينتظر سجينه. الأمر بات صعبا، مربكا. وفي نهاية المطاف ما بيده حيلة. يتساءل دائما، يتوجّس أبدا.
تستهلّ المدرّسة الحصّة الصّباحية بتفقّد تمارين الرّياضيّات، توقّفت عند طاولة رائد، تفحّصت كرّاس تمارينه مليّا مستغربة من صفحات مليئة بأشكال متداخلة كمتاهة؛ لم ينجز واجباته. طلبت منه أن يحلّ المسألة على السبّورة. تقدّم رائد بخطوات بطيئة ثابتة واثقة. اختار طبشورا وحرص على ألاّ يصدر صوتا نشازا عند الكتابة ثم شرع في إنجاز ما طلب منه.
- رائد… هل نمدّك بمعطيات المسألة؟ سألته المدرّسة.
- لا، بسيطة، سأحلّها. أجاب بإيجاز.
انهمك في الكتابة بسرعة متناسقة حتى أنجز ما طلب منه على أكمل وجه. كان يعلم أن لا شيء سيقف عائقا أمامه في حلّ المسائل الحسابيّة. يكتب بانتشاء وروحه تنبثق متهيّجة من عالم عجيب ومدهش.
مساء ذلك اليوم كان واثقا، عازما. تعمّد برحيق الفوز في القسم وابتهج لسهولة هذا العالم الدّراسي في الوقت الذي كان زملاؤه يكدّون لغاية نيل المراتب الأولى. اقترب من باب منزله الرّئيسي. أمر ما يحدث. تململ ناظرا حواليه بحذر حتّى ارتعدت فرائصه لذلك الصّوت المتهدّج الذي باغته فجأة.
- لا يغرّنّك حلّ المسائل.
- ماذا تريد..؟ دعني وشأني. يتمتم رائد بتقطّع.
- أنا مصيرك.
نفض رائد غبار الحوار عن ذهنه وهمّ بدخول المنزل. أدار قفل الباب مرّة، مرّتين، ثلاثا. قبع هناك مدّة لا بأس بها من الكرّ والفرّ مع باب حديديّ عتيد. شعر بألم يعتصر كتفيه الضّئيلين تحت ثقل محفظته. خمسُ دقائق كانت كافية ليتخلّص من جحيم الباب. تراجع خطوات قليلات إلى الوراء وعيناه متشبّثتان بالقفل. توقّف هنيهة ثم استدار وانطلق بسرعة مستنشقا نفسا عميقا كأنّه عبر باب الخلاص الأبدي.
- لا أستطيع… حنفيّة المياه مغلقة أنا متأكّد.
دون أدنى حراك يقف ذليلا أمام الحنفيّة كأنّه ارتكب خطيئة كبرى، منكمش الأوصال كطائر تائه فتك به الصّقيع. ركّز ناظريه علّه يلمح مياها منسابة منها أو يسمع صوتها كي يمتلئ اقتناعه بوجوب إغلاقها. يتقدّم رويدا، يحكم غلقها. الألم يعتصر يديه. لا مناص من المحاولة؛ مرّة، مرّتين.. يتسمّر في مكانه بلا حراك مسترجعا نسق أنفاسه الخائفة. يحاول مرّة أخرى. فراغ يلفّ رأسه لفّا، يتجرّع الحريّة ثم يتأهّب لضربة سوطٍ من الطّيف الجاثم في ركن المطبخ بنظراته السّاخرة وبشاعته واضحة التّفاصيل.
يمرّ الأسبوع ثقيلا شاحبا. ينتظر رائد يوم السّبت للذّهاب مع والديه إلى مدينة الملاهي طمعا في سلام داخليّ يلهيه عن سطوة الطّيف المستبدّ. كان له ما أراد. اختار لعبة السّيارات الكهربائيّة واختار سيّارة صفراء. قادها بثقة في المضمار ممتلئا بسعادة لا توصف. قهقهات الأطفال الصّغار ما تنفكّ تؤنسه. أفاق من تلك النّشوة على صوت ارتطام عنيف، التفت إلى الخلف. كان الطّيف يقود سيّارة حمراء مركّزا نظراته على رائد. “لا مناص أيّها البائس″، يردّد وهو يبتعد بسيارته إلى ركن المضمار ليعود ويصدمه مجدّدا. ازداد خوف رائد. أخذ يصيح ويتخبّط هلعا حتى تلقّفه والداه وأخرجاه من اللّعبة متبادليْن نظرات قلقة كأنّهما تأكّدا من حالته بعد تمحيص. خرجوا من مدينة الملاهي ودلفوا إلى مجمع بنايات طبّيّة في أطراف المدينة. ارتفع المصعد الكهربائي طابقين ثم دخلوا عيادة.
شرح الوالد الحالة التي انتابت رائد للطّبيب الذي شبك يديه وعدّل نظّاراته مستقرئا ملامح الطّفل الحائر في صمت، وما إن أتمّ الوالد سرده حتى بادره الطبيب بالسّؤال قائلا:
- منذ متى تجلّت هذه الحالة لديه؟
تململ الأب في مكانه ثم قال وهو يطالع وجه ابنه:
- منذ ثلاث سنوات أو أكثر؛ إنّه دائم القلق والفزع.
طالت حصّة التّشخيص. ورغم محاولات الطّبيب تهدئة رائد، كان الولد يخوض معركة عسيرة. ما إن يهمّ بالإجابة حتى يتشخّص له ذلك الطّيف مجدّدا. يأمره قائلا ” قل له إنّك بخير، أنت لا تحتاج إلى مراجعة نفسيّة”، يبتلع رائد ريقه. يحكم قبضته على يدي والدته الهلعة. الطّيف يهدّده، يتوعّده ويطبق سطوته على عقله الصّغير.
تأكّد الطّبيب من شيء ما. همهم قائلا:
- رائد، أرأيت النّافذة المطلّة على الشّارع الرّئيسي تلك؟ أغلقها من فضلك.
نهض رائد من مقعده واقترب من النّافذة. “لا تذهب أيّها الأحمق، سأفتك بك هل تعلم؟”، يصيح الطّيف. يتردّد رائد. تشجّعه والدته. يتحمّس قليلا. يقترب أكثر. يمسك مقبض النّافذة. يصرخ الطّيف “لن يفيدك حماسك، ستكرّر إغلاقها مرّات ومرّات “. يتغاضى رائد عنه. يغلقها ثم يتسمّر في مكانه.
- “أحسنت رائد، عد إلى مكانك “، يهتف والده.
“أرأيت!؟ إنّها مفتوحة”، يصرخ الطّيف فيهمّ رائد بإغلاق النّافذة مجدّدا حتّى يحثّه الجميع على العودة. دماؤه تغلي، عيناه تحمرّان وتجحظان.. يحاول العودة إلى مكانه لكنّ بصره يظلّ مسمّرا على النّافذة.. يكرّ، يفرّ. صرخ أخيرا “إنّها مغلقة ” ثم عاد مهرولا وارتمى في أحضان والده.
همس الطّبيب لوالديه “رائد مصاب بالوسواس القهريّ، هذا أمر شائع، لا تقلقا”.
دقّ جرس المخبر معلنا موعد الخروج من العمل وضجّ المكان بأصوات الموظّفين ككلّ مساء أثناء المغادرة. انتهى رائد من كتابة تقرير عمله على كمبيوتره المحمول وهمّ بمغادرة المكتب. مكث مستندا إلى كرسيّه هنيهة. فتح درج المكتب مخرجا دمية خشبية لشبحٍ بشع الملامح ملفوف بسلسلة حديديّة رقيقةٍ. نظر إليه ساهما ثم أعاده داخل الدّرج وغادر المكتب في نشوة منتصر.
كان المكتب هادئا بعد مغادرة الموظّفين، نسمات متقطّعة برائحة دفاتر الأرشيف تجول بين أروقة المخبر. سرَت رعشة خفيفة في درج طاولة رائد تلتها موسيقى أوبرا، نقيّة، عميقة.