تَخَيَّلٌ نَقْديٌّ
هنا في هذا المقال، وقد أعطيته عنوان “كمتخيل نقدي”، أسوق افتتاحيات لا بـُـدّ منها: جاك دريدا “أنا لا أملك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي ـــ كتاب أحادية لغة الآخر”. عبدالفتاح كيليطو «لا تتكلم لغتي ولن تتكلمَّ لغتي ــ كتاب لن تتكلمَّ لغتي”. كاتـب مجهول «لغــة أنطقها ولا أكتبها، وأخرى أكتبها ولا أنطقها، فعلى أيّ حدّ أقف؟ ـــ مخطوط اللغة والآخر”. لنتخذ من قولة دريدا مَوطئ قراءة.
تُرى ما الذي قاد مبتكر التفكيكية إلى هذا التصريح الغريب؟ لغة واحدة يملكها مع أنها ليست لغته، أو بتعبير آخر: اللُّغة التي أتكلَّـم بها، اللُّغة التي أحفر فيها هويتي، كينونتي ليست لغتي، هكذا تمكن ترجمة قولة دريدا، كما لو أنَّ دريدا اغتصب الفرنسية عنوة؛ لتغدو لغةَ «أمّ» له، أو أنَّهُ انزلقَ إلى العَالم دون «لغة ــ أمّ»؛ فلم يجد مفرّا من البحث عن لغة، هوية، كينونة؛ ليصطدم بالفرنسية على حين غرَّة، فاتخذها مسكنا له؛ لينتهي من فداحة المأزق الذي وجد ذاتَهُ تتخبَّط فيها، فالكائن لا يمكنه أن يحيا دون مأوى سواء أتعلّق الأمر باللُّغة أو بالمسكن الاعتيادي، فـ«البيت» يقي الكائن من الاندلاق و«اللاـ هوية»، فاللغة مأوى تُنسَجُ فيه خيوطُ هوية الكائن.
بيد أنَّ الأمر ليس بهذه السهولة المتخيَّلة أو التي قد أتخيَّلها كقارىء لدريدا: فلو أنَّ دريدا اكتفى بالشطر الأوَّل «أنا لا أملكُ إلا لغة واحدة»؛ لَانْزَلَقَت المشكلة إلى مسار آخر، لكنَّهُ أضاف «ومع ذلك فهي ليست لغتي»، لغة ليست بلغتي ومع ذلك فهي ملكي، وفي حوزتي، أَتصرَّف بها كما أشاء ما دامت ضمن ممتلكاتي! إقرارٌ، يفجِّر الدَّهشة بين عيني المتأمِّل: أن تتكلّم لغة الآخر ثم تدَّعي امتلاكها في صلف!، لكن دريدا يصرُّ على هذه الصَّلافة «على أنَّ هذه اللُّغة، اللغة الوحيدة التي نذرت نفسي للتحدُّث بها، من المهد إلى اللحد، هي كما ترى ليست لغتي، والحقُّ أنها لم تكن كذلك مطلقا»، لكن أين لغته ــ الأم، ألا يمثِّل هذا العشق للغة الآخر تنكُّرا «للغة ـ الأمّ» بل وازدراء لها؟ بيد أنَّ دريدا صريحٌ في تأكيده: فالفرنسية هي اللغة الوحيدة التي نذر نفسه لها مع أنها لم تكن ولن تكون لغته على الإطلاق. وهنا يلفحنا لظى سؤال هرطوقيّ: ماذا لو أنَّ دريدا لا يقصد بالعلامة «أملك» ما يدلُّ على الاحتياز والحيازة، بقدر ما يشير إلى أمر مختلف تماما حسب تأويل قراءتنا؛ فمن التناقض بمكان أن أمتلكَ لغـةَ الآخر، آخِري ثم أدَّعي أنَّها لغتي الوحيدة، فأين هي لغتي، وما شأنها؟ ومن الذي يزعم أنه يمتلكُ اللُّغة؟ حتى سليلُ اللُّغة، وإن كان عَالِما بها، لا يمكن أن يذهب في هذا الإقرار إلى النهاية؛ وذلك يرجع إلى أنَّ اللُّغةَ رأسمال جماعيّ، ثروة يقتسمها الكلّ تندّ عن الامتلاك مطلقاً، فما بالك بغريب على اللغة!. لا شكَّ أن دريدا على وعيّ جسور بذلك؛ فهو لم يَرْمِ قولته على عواهنها شوقا للإدهاش بقدر ما يتعلَّق الأمر بوضعية الفيلسوف ذاته، فهو مغاربيٌّ، من يهود الجزائر، فإن لم تكن العبريـّةُ لغة له، فالعربيّـة، وإن لم تكن هذه، فالبربريـةُ، لكن الآخر ــ الفرنسيَّ اختطف مؤسِّسَ التفكيك من شِبَاكِ هذه اللُّغات وأُلفتها؛ ليشغفَ بلغته، الفرنسية وحدها، ليرتهن، من ثمَّة، مصير الفيلسوف بها، لكن الأمر، يقينا، يتجاوز الشغفَ إلى الامتلاك؛ لينقلب السِّحرُ على السَّاحر، بمعنى أنَّ هذا الوافدَ بامتلاكه للغة الآخر ـ الفرنسي؛ فإنَّما يزيحُ الفرنسيَّ عن امتلاكه للغته، كما لو أنَّ دريدا يقول للفرنسيّ: حسنا، أنتَ تمتلكُ لغتكَ ولكنَّك لا تتقنها، فدعني أمتلكها؛ لأنني أنا الذي أتقنها! فامتلاك اللغة رهنٌ بإتقانها؛ فهل، عطفا على ذلك، يمكننا إدراج قولة دريدا في سياق تأويل ثان: أنا لا أتقن إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي، هكذا عبر ترجمة علامة «أَمْلك» بـعلامة «أَتْقِن»؛ فهل المقصود بالإتقان هو التجلي في ثنائيتي: اللغة/ الكلام (سوسور) أو الكفاءة/الأداء (تشومسكي)؟ في الحالتين؛ فإنَّ سليلَ لغة «ما»، المعاف لغويا، يخضع «اللغة/ الكفاءة» لإنتاج «الكلام/ الأداء»، وبالتالي؛ فإنِّ قولة دريدا تتجاوز هذا المعنى الألسني للإتقان إلى «اللّعِبِ» باللُّغة، لغة الآخر، وزجّها في صراع مع ذاتها، حتى تبدو كما لو أنها لم تَعُد تتعرَّف على ذاتها بتصريفها وتحويلها لا كما تشتهي أو تشتهي الذات التي تتكلّمها، مالكها؛ وإنما كما يشتهي الآخر، المتقن لها، المالك الجديد، آخرُ مَالِكِهَا القديم، آخرُهَا الذي يبثُّها روحَ الغيرية، فتغدو لغة تستضيف لغة أخرى، لغة تهسهسُ بأنفاس الآخر، يكتب دريدا «إنني وأنا خارج اللغة الفرنسية لا أشعر فحسب بأنني تائه تماما، خائر القوى ومذموم، ولكن أشعر أيضا بأنني أعمل على تشريف أو خدمة كل الألسن المتكلمة، وبكلمة واحدة، أنا أكتب بطريقة ‘أجمل’ وأنا أشحذ همَّة المقاومة الموجودة في فرنسيتي، و’الصفاء’ الذي يطبعها، فرنسيتي التي أتكلمها بصوت عال، ومقاومتها المستبسلة للترجمة: على كلِّ اللغات بما في ذلك الفرنسية المغايرة لفرنسيتي»، هنا تتجلّى غرابة قولة دريدا وضوحا، فعلامة الامتلاك تُصْقَلُ على نحو حادّ بهاتين العبارتين «أنا أكتب يطريقة أجمل» و«الصفاء الذي يطبعها»، إذا كتابةٌ أجملُ وأصفى تلك هي المغامرة، المغايرة التي يرتكبها الآخر في لغة الذات عندما يمتلكها، يتقنها؛ ولهذا تبدو كتابة الطَّارىء على «اللغة ـ الأمّ» كما لو أنها ضربٌ من لغة غريبة في جسدها، لكنَّ دريدا ومن باب الإمعان في مراكمة التناقض لديه يكتب عبارتين أُخريين بالغرابة ذاتها:
1ــ “لا يمكن أبدا أن نتكلم إلا لغة واحدة، أو بالأحرى لسانا واحدا”.
2 ـ “لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة فقط، أو لا وجود للسان خالص”.
هكذا تُفـَاقِمُ عباراتُ دريدا من أزمة المنطق وحيرة القارىء، فالعبارة الأولى يمكن نقضها على الفور؛ ذلك أنّ الواقع الفعليَّ يتوفَّر على الكثير من مزدوجي اللغة أو حتى ثلاثي اللغة،…إلخ، لكنَّ دريدا يمضي كعادته أكثر من المعنى المألوف عبر التأكيد على أحادية اللُّغة أو اللِّسان «لا يمكن أبدا أن نتكلم إلا لغة واحدة»، كما لو أنَّ دريدا يقول: لا يمكن المغامرة إلا بلغة واحدة، لا يمكن إتقان إلا لغة واحدة؛ لإنجاز المغامرة، مغامرة الكتابة. بيد أنَّ العبارة الثانية تعصف بهذا التأويل، وتجعل القارىء يغرق في سخرية من نفسه «لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة فقط، أو لا وجود للسان خالص»، فكيف لا نتكلم إلا لغة واحدة، وفي الوقت ذاته ليس بإمكاننا أن نتكلم لغة واحدة! لا غرابة في الأمر البتة ولا تناقض، فاللُّغةُ لغاتٌ، لا وجودَ للغة خالصة، فكلُّ لغة ملوَّثة بلغاتها، لهجاتها، وباللُّغات الأخرى، كلُّ لغة تشحن طاقتها بالتَّناص والتَّلاص لإنتاج المعنى؛ فالتناصُّ قدرُ اللغةِ كينونة؛ ففي الوقت الذي أتكلّم لغة واحدة، فإنني أتكلم لغات، لغات بعيدة وقريبة تصرخ من شقوق هذه اللُّغة وفجواتها، تؤكّد على حضورها الغائب: لا يمكن أن نتكلم إلا لغة واحدة، ولكن في الوقت نفسه لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة، وإذ نتكلّم لغة واحدة؛ فإنَّ أكثر من لغة تتكلَّمنا، فالاختلاطُ، البَلْبَلة، التبدُّد أسٌّ في اللغة؛ ألم يشعر الرَّبُّ، وفق سردية العهد القديم، بجسامة خطر أحادية لغة أهل الأرض، فبلبل لسانهم حتى لا يسمع بعضُهم لسان بعض، هكذا يجد الكائن ذاته بين حدّين، التكلّم واللاتكلم، الإمكان والاستحالة.
الأمر ليس بهذه السهولة المتخيَّلة أو التي قد أتخيَّلها كقارىء لدريدا: فلو أنَّ دريدا اكتفى بالشطر الأوَّل «أنا لا أملكُ إلا لغة واحدة»؛ لَانْزَلَقَت المشكلة إلى مسار آخر، لكنَّهُ أضاف «ومع ذلك فهي ليست لغتي»، لغة ليست بلغتي ومع ذلك فهي ملكي، وفي حوزتي، أَتصرَّف بها كما أشاء ما دامت ضمن ممتلكاتي! إقرارٌ، يفجِّر الدَّهشة بين عيني المتأمِّل: أن تتكلّم لغة الآخر ثم تدَّعي امتلاكها في صلف
غير أنَّ عبارة الناقد المغربيّ، عبدالفتاح كيليطو، تصدمنا تماما، إذ يأخذنا الظنُّ إلى الحالة الحرجة في كونها ردا عنيفا على عبارة جاك دريدا، يقول كيليطو «لا تتكلَّم لغتي ولن تتكلمَّ لغتي»، العبارة موجَّهة إلى الآخر، الآخر الذي يتحفَّز للانقضاض على ملكية الذّات، على اللُّغة حيث تختبىء فيها الهوية وتُصان من عبث الآخر؛ لهذا انبثقت العبارة مقرونة بالعُنف عبر نفيّ حادّ يخترق زمني الحاضر والمستقبل «لا تتكلم» «لن تتكلم»، إنذار للآخر إذ [وإذا] حاول أن يتكلّم لغتي، أن يتقنها، أن يزيحني عن ملكيتي لها، كما لو أنني سأفقد هويّتي حالما يمسك الآخرُ زمام لغتي، لا مجال للضيافة، هنا، فعلى الضيف ــ الآخر أن يلتزم، أن يخضع لأخلاقياتها ولاء، ولا يجرح لغتي، فلغتي سرّيَّ، وعلى السرِّ أن ينأى عن الآخر ــ الضيف. يكتب كيليطو «في يوم من الأيام تبين لي أنني لا أحبُّ أن يتكلَّم الأجانب لغتي»، فالقضية لا تكمن في أن يتكلم الآخرُ لغتي؛ وإنما حينما يتجاوزُ الحدَّ ويمسكُ بأسرار لغتي؛ فإنه بهذا يعرّيني من هويتي، ويفضح سرّيَّ، ويجعلني قاب قوسين أو أدني من «اللا ـ هوية»، هذا ما جرى مع الناقد المغربي القدير في لقائه بطالبة أميركية عندما يكتشف أن الأخيرة تتقن المغربية الدارجة بكلِّ الأسرار التي تكتنفها «كانت عربيتها الدارجة ممتازة لا تشوبها شائبة، بل كانت قادرة على النطق بالحروف التي تزعج الكثير من العرب لعجزهم عن إصدارها كالقاف والعين والحاء. اندهشتُ ولأول مرة أحسست بأن لغتي تفلت مني وتتخلى عني، أو بالأحرى قامت الأميركية بالسطو عليها وانتزاعها من بين يديَّ. لحسن الحظ لم أكلمها بعد ذلك بالعربية الفصحى، لأنه لو كانت تتحدث بها أيضا، وهذا شيء غير مستبعد، فماذا سيبقى لي؟ ص 106». حال كيليطو مع الأميركية حال الفرنسي مع جاك دريدا، حال ناقد عربيّ صديق إزاء كتابات الشاعر والروائي سليم بركات «أكره سليم بركات حتى العظم؛ لأنه يفترع العربية بهذه الجمالية»، هكذا تنبثق الثنائيات: كيليطو/ الطالبة الأميركية، جاك دريدا /اللغة الفرنسية، الناقد/ بركات: هكذا نرى الذات في مواجهة الآخر، الآخر الذي يتموضع في لغة الذات؛ ليسلبه إياها باجتراحه لغة أخرى، بصمة خاصة؛ لتتكلَّم باسمه، وتصرخ بهويته. من هنا تتبدَّى صرخة الاستفهام بقوة في قولة كيليطو «فماذا سيبقى لي؟» لو أنَّ الطالبة الأميركية تحدَّثتْ بالعربية الفصحى! الثَّمنُ باهظٌ، بالتأكيد، فلغتي بيتي، مأواي حيث سأُزَاحُ منها/ منه بإقامة الآخر فيها/ فيه، ولذلك نلمس قسوة النفي التي تسم عنوان كتاب كيلطيو «لن تتكلم لغتي»: لن تتكلم لغتي أيها الآخر مثلما أتكلَّمها، لا ضيرَ أن تتكلّم، لكن دون أن تُتْـقِنَهَا، دون أن تشعرني أنها لغتكَ، فاللغة التي أتكلمها هي لغتي، هي أنا، وأنا لغتي، فحذارِ أن تقترب من سرّي، إذ عليك أن تلتزم بقواعد الضيافة وإلا: لا تتكلَّم لغتي، وإن اقتضت الضرورة: لن تتكلّمها.
في «مخطوط اللغة والآخر»، يواجهنا حدثٌ مختلفٌ؛ إذ يموقع الكاتب المجهول ذاته على الحدّ تماما حيث يكتب «لغــة أنطقها ولا أكتبها، وأخرى أكتبها ولا أنطقها، فعلى أيّ حدّ أقف؟»، في القولة ما ينبىء عن الألم من الموقع الذي تقيم فيه الذات، والتضرع للخلاص من هذه الحال المتشظّية بين الانتماء إلى «اللغة ــ الأم» حيث النَّطقُ دون كتابة والإقامة في «لغة ــ الآخر» حيث الكتابةُ دون نطق، هنا الحال مغايرة، للوهلة الأولى، لحال جاك دريدا الذي ارتضى الإقامة في لغة ــ الآخر، ونذر نفسه لها من المهد إلى اللحد، أي أنها غدت لغته الأم؛ فالأمر محسوم انتماء، كما أنَّها مباينة للنفي المضاعف الذي يخترق قولة كيليطو من حيث إنّه تحصينٌ للذات من عبث الآخر، بل إنَّ حال الكاتب المجهول هي الأقرب إلى روح «التفكيك» من حيث الإقامة في الحَدّ بين لغتين، بين لسانين وبين ثقافتين: فعلى أيّ حدّ أقف؟ هكذا يتساءل الكاتب المجهول في حيرة متألمة: على أي حدّ؛ فهل أنتمي إلى لغتي التي أنطقها فحسب، ومن ثـَمَّ لا أمتلكُ إلا لغة واحدة، أم أنتمي إلى اللغة (لغة ــ الآخر) التي أكتبها، ومن ثَـمَّ لا أمتلك إلا لغة واحدة مع أنها ليست لغتي؟ لا حَسْمَ في الأمر، فثمة صدعٌ، ثغرةٌ في امتلاك «اللغة ـ الأم» بغياب الكتابة، وكذا الأمر في «لغة ـ الآخر» بغياب النطق؛ ولذلك يكتب الكاتب المجهول في حاشية من هوامش مخطوط (اللغة والآخر) «لا لغةَ لي!»، ليردّ بذلك على محاجَّة دريدا «أنا لا أملك إلا لغة واحدة، ومع ذلك فهي ليست لغتي»، دريدا الذي ردَّ على المستعمر الفرنسي باستعمار أكثر فتكا بالاستيلاء على لغته، وكذلك على تحذير كيليطو «لا تتكلَّم لغتي، ولن تتكلّمها»، فالذي لا يمتلك لغة ليس معنيا بتسييج الذّات في وجه الآخر.
لكن الكاتب المجهول يستدرك في الحاشية ذاتها «لا لغة لي، لا تعني أنَّ (لا لغةَ لي)، وإنما تعني مسافة العبور بين لغتين»، هكذا، ليست ثمَّة ملكيّة، وكلُّ ما في الأمر هناك مسافة يسلكها الكاتب المجهول «أنا لا أملك إلا مسافة بين لغتين»، هذا ما تهجسُ به قولةُ الكاتب المجهول، ثمة دربٌ يعبرها من لغة إلى أخرى، عبورٌ يستحيلُ إلى لغة جديدة، بين لغتين ينبثق لسانٌ جديدٌ، لا هو باللغة ــ الأمِّ، ولا بلغة ــ الآخر، لسانٌ «بَيـْنَ بَيـْنْ» وغير محسوم في انتمائه، لا إلى الذَّات ولا إلى الآخر، لكنَّه متصدِّعٌ، يشفُّ عن فجوات، ممرّات، ثغور، أرشيفات تنتاب جغرافيته، هكذا يقترب الكاتب المجهول من دريدا لا في «أحادية لغة الآخر»؛ وإنما في أحادية لغة تتكلَّم أكثر من لغة «لا يمكننا أن نتكلم لغة واحدة فقط، أو لا وجود للسان خالص».
إنَّ الإقامة على الحَدّ هي التي تتيح التنقُّل والسَّفر والاستعارة والإعارة، وجعل الاستحالة ممكنة، فعبر الإقامة يغدو المقيم نهبا للغتين، للغات، بؤرة صراع عات، فكلُّ لغة تفتكُ بالأخرى، وتبطش بها وفق حروب التَّنَاص التي لا هدنة فيها البتة، حيث النَّهش والاقتطاع هما القانون السَّائد، وحتى في حال انتصار إحداهما، فإنَّ الأخرى لا تعترف بالهزيمة، إذ تكمن اللغة المسيطرة بفحيحها في نطق العابر وكتابته.
تقودنا «لا لغة لي!» إلى تفكيك «أُحادية اللغة»؛ لتفتحها على التَّعدُّد، والاختلاف، والمغايرة وتبيح للآخر أن يتكلَّم لغتي الآن وفي المستقبل، فلغتي لا تكون إلا حين تستضيف الآخر؛ ليطعِّمها بلغته، لأنّ الأصل في الضيافة ألا تكون مرهونة بشروط وقيود؛ لنذهب أبعد ونقول «لا لغة لي!» هي إرادة الآخر في مناكحة اللغة ــ الذات؛ لتقول ما لا تستطيع الذَّات أن تقوله وتكتبه بها وفيها، ذلك أنَّ الذَّات تقع تحت طائلة أساليبها في صناعة الكلام؛ فتموت اللُّغة، أو تكون في النَّفس الأخير، ولهذا تأتي «لا لغة لي!» لتؤسّس ممرَّا، لقاء بين لغتين في لغة لا تعترف إلا بالإشراق سلطانا في الكتابةِ، كتابة تفرُّ من التَّشاكُل إلى حضن الاختلاف النبيل، فلا لغة بالتماثل، ولا لغة بالانغلاق، وإنما هي في هذا «اللقاء» الذي يربطها مع اللُّغات؛ لأنَّ اللقاء يمنحها القدرة على الكتابة/ الحياة.