ثقافة التضحية بالآخر
وصلني قبل أيام منشور يدعي التفاني والإخلاص في حب الوطن، بعد أن انتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو يروي قصة، يفترض أنها تاريخية وتعبر عن أقصى التضحيات من أجل الوطن، ولكن دلالاتها تكشف عن خلل عميق في ثقافتنا.
تتحدث القصة عن حطاب عجوز كان يقطع الأخشاب مع ابنه خارج مدينته، حين وصل جيش يريد غزو المدينة. وتقول إن الجيش طلب من الحطاب معلومات عن المدينة، فقال لهم اقتلوا هذا الشاب لأني أخشى أن يشي بي إذا أخبرتكم.
وحين قتلوا ابنه، قال لهم إنه كان يخشى أن يضعف ابنه ويقدم لهم المعلومات. ونتيجة ذلك أمر القائد جيشه بالانسحاب. وقال لهم إن موقف هذا الحطاب يعني أن سكان المدينة يحبون وطنهم وأن الجيش لن يستطيع الانتصار عليها.
وقد علق على القصة الآلاف من الأشخاص واعتبروها مثالا لحب الوطن والتضحية من أجله.
أخبرت المرسل أن القصة تعبّر عن ثقافة خطيرة، هي التي أدت بنا إلى ما نحن عليه، وصولا إلى تضحية الكثيرين بالوطن. وقد أثار ذلك ذهوله واستغرابه.
قلت له إن هذا الحطاب يعتبر قاتلا في جميع القوانين المدنية العادلة. وسألته: من قال للحطاب أنه ابنه سيضعف؟ ومن أعطاه الحق أن ينهي حياته؟ وأن يحكم عليه بالإعدام بسبب افتراضات في رأسه؟
ذلك الفتى له حق الحياة وأن يقرر مصيره بنفسه، وحتى أبوه لا يملك حق التضحية به. من حق ذلك الحطاب أن يضحي بنفسه، أما التضحية بشخص آخر فلا ينبغي أن تخطر بباله، حتى لو كان ذلك من أجل الوطن أو أيّ قضية مقدسة.
الشعب المعاصر الحريص على وطنه وقيمه، هو الذي لا يفكر أي فرد من أفراده بالتدخل في حرية الآخر وقراراته الشخصية، ناهيك عن تقرير مصيره والتضحية به، حتى لو كان ابنه.
أما الشعب القطيع فهو الذي تتداخل فيه الفضاءات الفردية وتجد فيه من يقول: لا مانع في مقتل عشرة أشخاص أو عدة آلاف من أجل الهدف الذي يراه ملائما للوطن أو القضية.
قلت له لو قيل لك «اقطع يد رجل ما، وسوف تنتهي كل مشاكل العالم” ماذا ستفعل؟ فأصيب بالحيرة. فقلت له بأنك ستكون مجرما إذا قطعتها مهما كانت هوية ذلك الرجل أو عقيدته، بل وحتى لو كان من بلد عدوّ، ومهما كان الهدف ومدى واقعيته أم لا.
من يعطيك الحق بأن تقطع يده من أجل قضيتك المقدسة؟ مثلما لا يحق لأيّ شخص آخر أن يقتلك أو يقطع يدك من أجل عقيدته أو وطنه.
حينها بدأ صاحبي يدرك الفكرة، وبدا وكأنه استيقظ من نومة عميقة. وقال: يبدو أننا منومون في مرجل ثقافي مبني على اختلالات كبيرة، ولا نستطيع التجرد للنظر للأشياء بحيادية. اقترحت عليه أن يمسح القصة ففعل، بل وبدأ بإقناع من يروّجون لها بالتوقف عن نشرها.
في ثقافتنا يكتسح الجميع من أهل وأصدقاء وزملاء، الفضاء الفردي لكل منهم دون استئذان، مما يجعل مصالح القطيع تتقدم وتسحق جميع حقوق الأفراد.
المجتمع المكون من أفراد مستقلين وأقوياء، يتمسكون بحقوقهم الفردية ولا يسمحون لأحد أو لأيّ سلطة بانتزاعها، يكون قويا لأنه يكون مجموع قوة كل أولئك الأفراد الأقوياء.
أما المجتمع الذي تُصادر فيه حقوق ومصائر الأفراد من قبل الآخرين أو السلطات، فإنه يكون مجتمعا هشا، لأنه بلا أشخاص أقوياء، على أسس سليمة وفردية.
الطفل الذي تحترم عائلته رأيه وفضاءه الشخصي ينشأ قويا ويحترم الآخرين، أما الطفل الذي تسحقه إرادة العائلة فإنه يكون قاسيا ومن السهل عليه التجاوز على حقوق الآخرين.
لذلك نجد أن مجتمعاتنا تنجب من يصل بهم الأمر لتفجير أنفسهم من أجل إلحاق الضرر بالآخرين.
علينا أن نستكشف حقوقنا الفردية وندافع عنها لكي نتعلم احترام حقوق الآخرين بما في ذلك حقهم في أن يقرّروا مصيرهم. لا يمكن لشخص أن يحصل على حريته كاملة، إلا إذا توقف عن التدخل في حريات الآخرين.
هناك كثيرون في شعوبنا يطالبون بحرياتهم المسلوبة، لكنهم يطالبون معها بمنع الآخر من فعل كذا أو لبس كذا أو شرب كذا، رغم أنهم يرددون أحيانا دون إدراك: إن حرية الفرد تنتهي عندما تمس حرية الآخرين.
تلك هي بعض بذور ثقافة القسوة وعدم احترام حقوق الآخر وفضاءه الشخصي، وهي من جملة ما أوصلنا إلى ما نحن عليه.