ثقافة الشاعر الأوحد والجزر التي لا تلتقي
لا يزال البعض من مثقفي العالم العربي الجدد يبحث ويفتش في نقاشاته السريعة والاعتباطية، عن معنى وحدانية المثقف العربي، وهذا ديدن قديم اعتاد عليه المثقفون العرب منذ قرون عديدة، ولكن تم تكريسه في سنوات القرن الأخير، وأقصد بوحدانية المثقف العربي البطل، أي أن مجموعة من المثقفين ( قد تكون شخصاً واحد) تبحث وتجد مبررات لتسمي فلاناً بشاعر الأمة العربية، أو فلاناً بفيلسوف العرب، أو آخر كفنان العرب.. ويشتعل الشجار بين المثقفين حول أحقية فلان أو علاّن بينما تقبع الأمة العربية هناك بعيداً تعد أغانيها وسيرها الشعبية فلا ثقافة تصلها ولا فن ولا أدب. فنسب نشر الكتب والقراءة في دنيا العرب تعد من أقل النسب قياسا بما هي عليه في بقية دول العالم ، فمن يحدد أو يكرس فلاناً هم أولئك الذين يتداولون الاسم في وسائل الإعلام صحافة أو تلفزيونا أو راديو وجميعها في أمة العرب تحت سقف الوطن والدين والعادات والتقاليد.
أي أنه من غير الممكن أن يكون شاعر العرب مثلاً شاعرا ماجنا مثل أبي النواس، أو نجيب سرور، أو غيره ممن ارتكبوا المعاصي بالنسبة إلى السلطة السياسية – الدينية – الاجتماعية.
تعشق عادة شعوب المشرق من عرب وكرد وشركس وأرمن وتركمان وغيرهم، أفعال التفضيل: الأفضل، الأكبر، الأعلى، الأضخم، الأجمل.. وفي هذا انسياق خلف إله تحطم دونه بقية الأوثان التي كانت تُزار أو تعبد. فهو واحد مفرد تقدم إليه الذبائح والقرابين، ويستشهد بكلامه وتنقل عنه الخطب، والحكم والمواقف والنوادر والتفاصيل… بينما بقية الأوثان مهرطقة وآثمة.
وهذا بالطبع ما يحصل في شأن التكريس الثقافي العربي، فمن يفعل هذا هي الدولة الشمولية المركزية التي تتحرك بوعي وإدراك يهدفان إلى توجيه أذرعها لتقديم رموز يعبّرون عنها. تفاقم هذا الأمر مع ظهور جمال عبدالناصر، بوصفه نموذجا ساحقا ماحقا في تجربة عبادة الفرد الحاكم، وأصيب المجتمع المصري والعربي بعدها بهذه العدوى، “التفكير الشمولي” حتى بات كل مثقف يرغب بأن يصبح إلهاً يعبد (يجب أن نأخذ بعين الاعتبار نسب جنون العظمة وجنون الارتياب العالية لدى المثقفين عموماً وهو أمر شائع في دنيا الثقافة العربية في ظل سيادة المثقف النظير للطاغية والدكتاتور، فهذا أيضا من شأنه أن يكون العراب البطاش، الرعاش المتمركز على ذاته، مع أنه يظهر باستمرار صاحب طريقة ومريدين).
وهذه حال مرضية لا شفاء منها تجعل العشرات من مثقفي الأمة العربية دكتاتوريين بالفطرة، لا يرون إلا أنفسهم، شحيحو الرأي والنقد والتفاعل، فهل يمكن لـ”إله” أن يتفاعل مع “العامة”، المثقف الإله المتوحد خلق ليتلو الحكم على عباده ومريديه لا ليستفتيهم.
حتى أن أحد أكبر مثقفي سوريا عُمراً، وهو شخص ينام في الطائرات والفنادق أكثر مما ينام في سريره يردد في لقاءاته التلفزيونية والصحفية أنه لا يقرأ لأيّ مثقف سوري، ويعتذر بصوته الخفيض الكهين. أكثر من ذلك يعتذر عن عدم معرفته بجل مثقفي العرب.. على أن هذا موقف نقضيٌّ، فالرجل لا يرى في الثقافة العربية أصلاً ثقافة ذات ملامح مكتملة.. وله مآخذ عليها تمتد إلى ألف وبضعة قرون.. ولكن كيف من الممكن لمثقف عاش وتربى في تلك البلاد، ولا يكتب إلا بلغتها، ألا يتابع ما يكتبه مجايلوه وأترابه، حتى لا نقول الأجيال التي تلت؟
الجواب نجده عند المريدين، فإن كان الله الموحد كريماً رحوماً لدى اليهود والمسيحيين والمسلمين، فإن الأتباع يبحثون دوماً عما يبعث النزاع والتنابز والصراع وحتى الإلغاء.
إذا كان مريدو القطب الصوفي في التاريخ الثقافي العربي قد شربوا فكر معلمهم وصاحب طريقتهم، وأحاطوا علما بمصادره ومناهله فإن مريدي الشاعر الأوحد غالباً ما يجهلون مصادر الأخ الأكبر هذا بل وحتى جل نتاجه، فهم غالباً ما يطوفون على العناوين، ويسبحون في المقدمات والجذاذات التي أنتجتها قريحته. فكيف بهم يعرفون ما يكتبه فلان أو غيره من أتراب شاعرهم وأدبه، أو فكر مفكر وفلسفة فيلسوف. إنهم مثقفو الملخصات. في عصر السرعة ووسائل التواصل الحديثة.. وغالباً ما لا يجد المريدون هؤلاء الناشطون عبر وسائل التواصل الاجتماعي ليل نهار، شعراء وناثرين ممن لا يتورعون عن إبداء آرائهم في نتاجات لم يقرأوها لشعراء وناثرين، ولا يفوتهم التعليق بلغة العارف على كل شاردة وواردة في الثقافة والاجتماع، وهذا لعمري أمر شائن.
عن نفسي أحاول دوماً أن أبتعد عن المكرس، باحثاً بإصرار عمن هم في مجرى يعاكس التيار، في الرواية والشعر والسينما والموسيقى. وبعيداً عن هؤلاء المفتونين بالأضواء والنجوم. في نظري أن الثقافات التي لا يوجد في هوامشها فن مضاد، فن ينتمي إلى ما يسمى بفن الأندر جراوند، لا حياة جديدة فيها ولا فنّ يتطلع نحو المستقبل. عادة ما يجد شخوص الأندر جراوند روائع من الموسيقى والشعر والغناء والأدب، والطبخ والمشروبات، هؤلاء يبدون في نظر ثقافة الشيوع والشائعة مهرطقين، لاسيما أنهم يؤمنون بوحدانية (شاعر العرب – أو قيثارة العرب – أو أي ممن تجري عليهم أفعال التفضيل). ثقافة الهامش تنتج نجوما من نوع آخر، أشخاص يبحثون عن الحقيقة والبساطة، والجمال، دون أفعال التفضيل.
من هم فوق الأرض، من المكرسين ستجدهم في كل مكان في المسارح وصالات السينما، وإصدارات الكتب، وبرامج التلفزيونات الحكومية، والكتب المدرسية، وأغلفة المجلات الرسمية، في كل مكان حيث يستمر السطح بلا عمق، والتكريس دون قراءة، وإن حدثت القراءة فلا “مقارنة” بين نص ونص أو بين صنيع مبدع وصنيع آخر، فهي ثقافة الجزر التي لا تلتقي.