ثلاثة‭ ‬رؤوس‭ ‬لمثلث‭ ‬لكي‭ ‬أتفادى‭ ‬متاهة‭ ‬الدائرة

السبت 2016/10/01
لوحة: نبيل السمان

لا ‭ ‬يتعلق‭ ‬الأمر‭ ‬فقط‭ ‬بقدرة‭ ‬السلطة‭ ‬على‭ ‬تزييف‭ ‬وعي‭ ‬الجماهير،‭ ‬وإنما‭ ‬بعدم‭ ‬قدرة‭ ‬المثقف‭ ‬على‭ ‬التواصل‭ ‬مع‭ ‬الجماهير،‭ ‬وإقناعها‭ ‬بنبل‭ ‬رسالته‭. ‬وقد‭ ‬ضيع‭ ‬بعض‭ ‬النبلاء‭ ‬أعمارهم‭ ‬فعاشوا‭ ‬حتى‭ ‬شهدوا‭ ‬نهايات‭ ‬تراجيدية‭ ‬لأفكار‭ ‬صاروا‭ ‬هم‭ ‬أنفسهم‭ ‬ضحاياها‭. ‬أحد‭ ‬هؤلاء‭ ‬نصر‭ ‬حامد‭ ‬أبوزيد،‭ ‬وقد‭ ‬تواطأ‭ ‬عليه‭ ‬اليمينان‭ ‬السياسي‭ ‬الرسمي‭ ‬والديني،‭ ‬واضطر‭ ‬للمغادرة‭ ‬والإقامة‭ ‬في‭ ‬المنفى،‭ ‬وفي‭ ‬زياراته‭ ‬لمصر‭ ‬كانت‭ ‬تؤلمه‭ ‬حراسة‭ ‬الشرطة‭ ‬وهو‭ ‬ذاهب‭ ‬لمناقشة‭ ‬رسالة‭ ‬علمية‭ ‬لأحد‭ ‬الباحثين،‭ ‬في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة‭ ‬التي‭ ‬وصفها‭ ‬سعد‭ ‬زغلول‭ ‬منذ‭ ‬حفل‭ ‬الافتتاح‭ ‬عام‭ ‬1908‭ ‬قائلا‭ ‬‮«‬هذه‭ ‬جامعة‭ ‬دينها‭ ‬العلم‮»‬‭.‬

يسهل‭ ‬اتّهام‭ ‬الجماهير‭ ‬بالغفلة؛‭ ‬فالضحايا‭ ‬لا‭ ‬يدافعون‭ ‬عن‭ ‬أنفسهم،‭ ‬ولا‭ ‬يجيدون‭ ‬دائما‭ ‬فنون‭ ‬هذا‭ ‬الدفاع‭. ‬وكما‭ ‬يتردد‭ ‬ـ‭ ‬عن‭ ‬حق‭ ‬ـ‭ ‬كلام‭ ‬في‭ ‬ضرورة‭ ‬الإصلاح‭ ‬الديني،‭ ‬إصلاح‭ ‬الخطاب،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬فقه‭ ‬جديد،‭ ‬فإنه‭ ‬يندر‭ ‬أن‭ ‬يتردد‭ ‬كلام‭ ‬شجاع‭ ‬مواز‭ ‬في‭ ‬نقد‭ ‬الخطاب‭ ‬الثقافي،‭ ‬والبحث‭ ‬عن‭ ‬خطاب‭ ‬جديد‭ ‬يناسب‭ ‬التباين‭ ‬الهائل‭ ‬في‭ ‬قطاعات‭ ‬وفئات‭ ‬أصبح‭ ‬الكثير‭ ‬منها‭ ‬جزرا‭ ‬منعزلة،‭ ‬حتى‭ ‬لا‭ ‬يظل‭ ‬منتجو‭ ‬هذا‭ ‬الخطاب‭ ‬هم‭ ‬مستهلكوه،‭ ‬تاركين‭ ‬الشارع‭ ‬لتضليل‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬ديني‭. ‬لم‭ ‬يعترف‭ ‬كثيرون‭ ‬بالقصور‭ ‬في‭ ‬تصوّراتهم‭ ‬القديمة‭ ‬في‭ ‬قراءة‭ ‬سيكولوجية‭ ‬الشعوب‭ ‬العربية،‭ ‬حتى‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬فاجأتهم‭ ‬الثورات‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬أيّ‭ ‬أطر‭ ‬جاهزة‭. ‬ويتراكم‭ ‬الخطأ‭ ‬في‭ ‬فجوات‭ ‬تشمل‭ ‬عدم‭ ‬دقة‭ ‬قراءة‭ ‬الخرائط‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وافتقاد‭ ‬إشارات‭ ‬صحيحة‭ ‬للتفاعل‭ ‬تستطيع‭ ‬الجماهير‭ ‬التقاطها‭.‬

وفي‭ ‬الحوار‭ ‬الشامل‭ ‬مع‭ ‬صادق‭ ‬جلال‭ ‬العظم‭ ‬أتوقف‭ ‬أمام‭ ‬ثلاث‭ ‬قضايا‭. ‬أولها‭ ‬قوله‭ ‬إن‭ ‬‮«‬الجماهير‭ ‬التي‭ ‬خرجت‭ ‬إلى‭ ‬ميادين‭ ‬التحرير‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬تونس‭ ‬والقاهرة‭ ‬وصنعاء‭ ‬هي‭ ‬جماهير‭ ‬متديّنة‭ ‬ولكنّها‭ ‬رفعت‭ ‬شعارات‭ ‬تتعلق‭ ‬بالحرية‭ ‬والكرامة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬والعدالة‭ ‬الاجتماعية،‭ ‬وهي‭ ‬قيم‭ ‬تعود‭ ‬في‭ ‬الأصل‭ ‬إلى‭ ‬الثورة‭ ‬الفرنسية‭. ‬فهذه‭ ‬الجماهير‭ ‬لم‭ ‬تقل‭ ‬في‭ ‬البداية‭ ‬مثلا‭ ‬بأن‭ ‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل‮»‬‭. ‬كنت‭ ‬أودّ‭ ‬التفرقة‭ ‬بين‭ ‬كون‭ ‬الجماهير‭ ‬مؤمنة،‭ ‬لا‭ ‬يمنعها‭ ‬الإيمان‭ ‬ـ‭ ‬بهذا‭ ‬الدين‭ ‬أو‭ ‬اعتناق‭ ‬هذا‭ ‬المذهب‭ ‬ـ‭ ‬أن‭ ‬تحترم‭ ‬المختلف‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬ملحدا،‭ ‬وبين‭ ‬كونها‭ ‬متديّنة؛‭ ‬فالتدين‭ ‬طريق‭ ‬غالبا‭ ‬ما‭ ‬ينتهي‭ ‬بالانحياز‭ ‬إلى‭ ‬شعار‭ ‬ديني‭ ‬ولو‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬‮«‬الإسلام‭ ‬هو‭ ‬الحل‮»‬‭. ‬والذين‭ ‬خرجوا‭ ‬تلقائيا‭ ‬في‭ ‬‮«‬جمعة‭ ‬الغضب‮»‬‭ ‬وأسقطوا‭ ‬حسني‭ ‬مبارك‭ ‬فعليا‭ ‬مساء‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬كانوا‭ ‬ينشدون‭ ‬الحرية‭ ‬ولم‭ ‬يرفعوا‭ ‬لافتة‭ ‬دينية‭. ‬وفي‭ ‬الأيام‭ ‬التالية‭ ‬لم‭ ‬يشهد‭ ‬ميدان‭ ‬التحرير‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬الشعارات،‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬تأكد‭ ‬لليمين‭ ‬الديني‭ ‬أن‭ ‬النظام‭ ‬يتهاوى‭. ‬وتجربة‭ ‬الميدان‭ ‬في‭ ‬أيام‭ ‬البراءة‭ ‬تثبت‭ ‬أن‭ ‬الحرية‭ ‬هي‭ ‬ما‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يُجمع‭ ‬عليه‭ ‬الشعب‭ ‬لو‭ ‬حسنت‭ ‬أدوات‭ ‬التواصل‭ ‬معه،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬الشعار‭ ‬منذ‭ ‬اندلاع‭ ‬الاحتجاجات‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬يناير‭ ‬‮«‬تغيير‭ ‬ـ‭ ‬حرية‭ ‬ـ‭ ‬عدالة‭ ‬اجتماعية‮»‬،‭ ‬أثق‭ ‬في‭ ‬أذني‭ ‬وهي‭ ‬تستغرب‭ ‬شعارا‭ ‬معدّلا‭ ‬صار‭ ‬أكثر‭ ‬شهرة‭ ‬ورسوخا‭: ‬‮«‬عيش‭ ‬ـ‭ ‬حرية‭ ‬ـ‭ ‬عدالة‭ ‬اجتماعية‭ ‬ـ‭ ‬كرامة‭ ‬إنسانية‮»‬،‭ ‬وأستند‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬إلى‭ ‬الفيلم‭ ‬القصير‭ ‬‮«‬نافذة‭ ‬ع‭ ‬التحرير‮»‬،‭ ‬لعمرو‭ ‬بيومي‭.‬

العظم‭ ‬يقول‭ ‬إنه‭ ‬منذ‭ ‬وقت‭ ‬مبكر‭ ‬كان‭ ‬‮«‬واعيا‭ ‬بمدى‭ ‬حضور‭ ‬وأهمية‭ ‬العامل‭ ‬الديني‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬وإمكانية‭ ‬تحوّله‭ ‬إلى‭ ‬ملجأ‭ ‬ومنقذ‭ ‬ولكن‭ ‬لم‭ ‬أتوقّع‭ ‬يوما‭ ‬أنه‭ ‬سيصل‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المستوى‭ ‬من‭ ‬الراديكالية‭ ‬الجهادية‭. ‬لكن‭ ‬الآن‭ ‬بعدما‭ ‬حصل‭ ‬هذا،‭ ‬أحاول‭ ‬أن‭ ‬أفسّر‭ ‬وأفهم‭ ‬لماذا‭ ‬اتجهت‭ ‬الحركات‭ ‬الدينية‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه؟‭ ‬طبعا‭ ‬العامل‭ ‬الأكبر‭ ‬حسب‭ ‬رأيي‭ ‬هو‭ ‬فشل‭ ‬العسكري‭ ‬والدولة‭ ‬الوطنية‭ ‬في‭ ‬ميدان‭ ‬التربية‭ ‬وغياب‭ ‬المعرفة‭ ‬العلمية‭ ‬في‭ ‬العالم‭ ‬العربي‭ ‬وغياب‭ ‬المؤسسات‭ ‬المواكبة‭ ‬للعالم‭ ‬الحديث‭ ‬وأسسها‭ ‬ومن‭ ‬بينها‭ ‬الديمقراطية‭ ‬والحريات‮»‬‭. ‬ربما‭ ‬يكون‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الربط‭ ‬تبسيط‭ ‬للظواهر،‭ ‬وعدم‭ ‬اهتمام‭ ‬بأوّل‭ ‬الخيط،‭ ‬ففي‭ ‬مرحلة‭ ‬يعتبرها‭ ‬بعض‭ ‬الهواة‭ ‬من‭ ‬الباحثين‭ ‬الحالمين‭ ‬تمثيلا‭ ‬لليبرالية،‭ ‬قبل‭ ‬1952،‭ ‬نجح‭ ‬الإخوان‭ ‬في‭ ‬تنفيذ‭ ‬بعض‭ ‬الاغتيالات،‭ ‬قبل‭ ‬وجود‭ ‬الحكم‭ ‬العسكري‭. ‬والنار‭ ‬الإرهابية‭ ‬ـ‭ ‬تحت‭ ‬راية‭ ‬الجهاد‭ ‬ـ‭ ‬تأكل‭ ‬حتى‭ ‬المختلفين‭ ‬في‭ ‬الرأي‭ ‬أو‭ ‬الرؤية،‭ ‬بمن‭ ‬فيهم‭ ‬أهل‭ ‬التيار‭ ‬نفسه؛‭ ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1953‭ ‬قُتل‭ ‬سيد‭ ‬فايز،‭ ‬ابن‭ ‬الميليشيا‭ ‬التي‭ ‬أسسها‭ ‬حسن‭ ‬البنا،‭ ‬في‭ ‬صراع‭ ‬إخواني‭ ‬ـ‭ ‬إخواني‭ ‬على‭ ‬قيادة‭ ‬التنظيم‭ ‬السري‭. ‬أهداه‭ ‬إخوانه‭ ‬صندوقا‭ ‬من‭ ‬الديناميت‭ ‬في‭ ‬شكل‭ ‬حلوى‭ ‬بمناسبة‭ ‬المولد‭ ‬النبوي،‭ ‬وأدّى‭ ‬الانفجار‭ ‬إلى‭ ‬قتل‭ ‬شقيقه‭ ‬الصغير‭ ‬«تسع‭ ‬سنوات»‭ ‬وطفلة‭ ‬تصادف‭ ‬مرورها‭ ‬تحت‭ ‬الشرفة‭ ‬المنهارة‭. ‬وتكرر‭ ‬في‭ ‬ستينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬تدريب‭ ‬الإخوان‭ ‬على‭ ‬تفجير‭ ‬الديناميت،‭ ‬هذا‭ ‬ما‭ ‬كتبوه‭ ‬ويرددونه‭ ‬بفخر‭ ‬عن‭ ‬أحداث‭ ‬1965،‭ ‬ثم‭ ‬نفذت‭ ‬جماعات‭ ‬تناسلت‭ ‬عن‭ ‬الإخوان‭ ‬اغتيالات‭ ‬لوزير‭ ‬الأوقاف‭ ‬حسين‭ ‬الذهبي‭ ‬وفرج‭ ‬فودة‭ ‬وغيرهما،‭ ‬ولم‭ ‬يكن‭ ‬لذلك‭ ‬علاقة‭ ‬بالديمقراطية‭ ‬التي‭ ‬يرونها‭ ‬كفرا‭.‬

‮ ‬العظم‭ ‬يرثى‭ ‬حال‭ ‬الفلسفة‭ ‬في‭ ‬مناهج‭ ‬التعليم‭ ‬بالمجتمعات‭ ‬العربية‭ ‬‮«‬السبب‭ ‬الرئيسي‭ ‬حسب‭ ‬رأيي‭ ‬يعود‭ ‬أولا‭ ‬إلى‭ ‬غياب‭ ‬الحرية‭ ‬في‭ ‬التفكير‭ ‬والتعبير‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الدول‮»‬‭. ‬هذا‭ ‬بيت‭ ‬القصيد،‭ ‬وما‭ ‬تحذره‭ ‬وتحظره‭ ‬الأنظمة‭ ‬الدكتاتورية‭ ‬العربية‭.. ‬عسكرية‭ ‬كانت‭ ‬أم‭ ‬عشائرية،‭ ‬كلاهما‭ ‬يصادر‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬المعرفة،‭ ‬وأحيانا‭ ‬يجرّم‭ ‬ما‭ ‬يسفر‭ ‬عنه‭ ‬الجدل‭ ‬والاجتهاد‭ ‬ونقد‭ ‬التراث‭ ‬البشري‭ ‬ونقضه،‭ ‬لأن‭ ‬السّير‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬السبيل‭ ‬إلى‭ ‬نهايته‭ ‬ينتهي‭ ‬بالمطالبة‭ ‬بحقوق‭ ‬كاملة‭ ‬للمواطنة،‭ ‬والمناداة‭ ‬باقتسام‭ ‬الثروة،‭ ‬والحق‭ ‬الطبيعي‭ ‬في‭ ‬السلطة،‭ ‬نزولا‭ ‬على‭ ‬إرادة‭ ‬جماهير‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬أحد‭ ‬أو‭ ‬تيّار‭ ‬فرض‭ ‬وصاية‭ ‬عليها‭ ‬إذا‭ ‬تمتّعت‭ ‬بحدّ‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬الوعي،‭ ‬ويظل‭ ‬هذا‭ ‬الوعي‭ ‬فريضة‭ ‬غائبة،‭ ‬ومعركة‭ ‬يحسم‭ ‬فيها‭ ‬النصر‭ ‬لجيل‭ ‬يستحقه‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.