ثلاث‭ ‬قصص

الأحد 2015/11/01
لوحة: فيصل لعيبي

المرآة

هناك، على زاويةٍ مهجورة ٍمن هذا الزمن، ثمَّة قصرٌ قديم لا يزال منتصباً على أرضه، كشبح مسجون منذ أمدٍ بعيد داخل قارورة مرميَّة في بحرٍ من النسيان‭.‬

تلك المرآة الكبيرة والمخلوقة منذ عصور، والمعلقة على أحد الجدران في بهو هذا القصر‭..‬ انسدلتْ على زجاجها ستائرٌ سميكة من الوحشة، هذه الوحشة المعتمة التي داهمتها إثر الغياب المفاجئ لصديقها الغراب، غيابه الذي لوّث قلبها بخوف غامض، صديقها الغراب الذي ــ كعادته منذ سنوات ــ يحطّ بداية كل ليل على كتف القصر، ليسلي أشياءه المهجورة بنعيقه، وكان قد ورث هوايته هذه عن أجداده‭.‬

ضوءٌ شاحب للقمر كان يتسلل بخجل من النافذة ليتناثر في بهو القصر كيفما اتفق‭.‬ وكأنّه يرمي سلاماً كئيباً على الأثاث العتيق‭.‬

مرَّتْ الساعات ببطءٍ على مزاجها حتى منتصف الليل، والمرآة ترمق الفراغ وتتثاءب بملل ٍلساعات وهي تنتظر باشتياق غرابها العزيز‭..‬ الذي لم يأتِ بعد‭.‬

تنهدتْ في سرِّها، ثمَّ ــ علّها ترتاح من وطأة الملل ــ تسلّتْ بأن مشتْ بهدوءٍ في ذاكرتها على ملخص مقتضب لتاريخها الطويل، وكشريطٍ سينمائي‭..‬ موجزٌ للذكريات دار في خيالها‭.‬

بعد برهة سالتْ على زجاجها دمعتان، بكتْ بصمت وهي تحسد في سرِّها كلِّ البشر الذين توقفوا أمامها عبر العصور الماضية، ليتأملوا أنفسهم بها‭.‬

تأوّهتْ‭..‬ فهي رغم عمرها الطويل، إلا أنها لم تشاهد نفسها ولا مرَّة‭.‬

تمنّتْ بحسرة لو أنَّها تعثر على شيءٍ ما‭..‬ إن نظرتْ فيه ترى نفسها، فتكتشف حالها وتعرف ملامحها وتشاهد تفاصيلها‭.‬

على هذه الأمنية وبمرارة ذرفتْ المرآة كثيراً من دموع حزنها الأخرس في وحشة هذا الليل‭.‬

في سمائه الأخيرة، كان الله يراقبها فأشفق على آلامها‭..‬ عندئذٍ، بعث بملاك الموت إليها لينقذها من هذه الآلام‭.‬

هبط ملاك الموت بهدوءٍ على بهو القصر، ليتلوث رداء أبديته بقليلٍ من الغبار‭.‬

مشى بصمتٍ بارد بضع خطوات ثم توقّف أمام المرآة ونظر فيها، لم يشاهد نفسه على زجاجها، لم يهتم أبداً وكأنّه معتادٌ على هذا الأمر‭.‬

المرآة هي أيضاً نظرتْ في ملاك الموت، مستعينة بالضوء الشاحب للقمر‭.‬

أقل من دقيقة فقط‭..‬ ثمَّ، فرحٌ هائل بحجم تاريخها الصامت حلَّ عليها، فهزّها من أعماقها، تملكتها نشوة ٌعارمة وهي تشهق بسعادة‭.‬

هناك، في ملاك الموت ــ وكأنه مرآتها ــ شاهدتْ نفسها بوضوحٍ تام‭.‬

24 -01 -2013

‮ ‬امرأة‭ ‬جميلة‭ ‬على‭ ‬كرسي‭ ‬خشبي‭ ‬في‭ ‬زقاقٍ‭ ‬ببراغ

عندما دخلتُ هذه الحانة في أحد الأحياء المتواضعة ببراغ، لم يطردني مالكها فوراً كما ظننت، رغم تضايقه من شكلي، لهذا أيقنتُ في سري أنّه لم يعرف من أنا رغم شهرتي بين أصحاب الحانات‭.‬

طلبتُ الكثير من النبيذ وظللتُ أشربُ حتى ساعةٍ متأخرة من هذا الليل‭.‬

ضحكتُ بجنون وأنا أخبر مالك الحانة بأنّني لا أملك نقوداً، عندئذٍ ركلني إلى الخارج لأسقط تحت المطر في بركة ماء، لم أهتم لأمر ركلته، فأنا معتادٌ على ركلات أصحاب الحانات منذ سنوات بعد منتصف كلّ ليلة، نهضتُ وأنا أضحك ومشيتُ مترنحاً في أزقة براغ، أدندن بلحن أغنيةٍ قديمة‭.‬

ثمّة شيءٌ غريب يحدث الآن لي للمرة الألف! لا أعرف لماذا كلما شربتُ يضيع مني الجسر الذي أنام أسفله منذ سنوات؟ لهذا صرتُ أنادي جسري بصوتٍ عال بين الأزقة وأنا أترنح علّه يعثر عليّ‭.‬

فجأةً، وبجانب نافورةٍ قديمة في تلك الزاوية، على مقعدٍ خشبي شاهدتُ امرأةً جميلة جالسة بفستانها القصير، وقد اتكأتْ على يدها المستندة فوق حافة المقعد، غير آبهة للمطر‭.‬

يا إلهي ما أجملها‭..‬ اقتربتُ منها وأنا أخلع معطفي الرث لأرميه بهدوءٍ على كتفيّها حتى لا تستيقظ من نومها، فأحميها من المطر، نظرتُ إلى نهديها الناعمين من تحت فستانها وقد شفّ قماشه بسبب ماء المطر فارتعش جسدي‭.‬

جثوتُ أمامها ثمَّ حضنتُ ركبتيها وأنا أقبلهما بنهم، لركبتيها مذاقٌ شهي يصعب على أيّ مخمورٍ في ليل كلِّ هذا العالم أن يشرحه أو يفسره، حتى مطر براغ الغزير يعجز عن هذا، بعد القبلة السادسة ثمّة شخصٌ ما من بعيد بدأ يعزف على البيانو‭.‬

أمعنتُ نظري في ركبتها اليسرى على ضوء مصباح الزقاق، شهقتُ‭..‬ يا الله ما أجملني!

وجهي كان واضحاً على رخام ركبتها، كلّ الناس كلّ الأصدقاء كلّ العابرين في حياتي يقولون إنّني بشع، ووجهي دميم للغاية، حتى كلّ المرايا التي أنظر فيها تقول إنّني بشع، ركبة هذه المرأة الجميلة هي المرآة الوحيدة الصادقة في كل هذا العالم، رجعتُ لتقبيل ركبتيّها بحب‭.‬

عندئذٍ، انحنتْ هذه المرأة عليّ لتذكرني ــ همساً ــ كيف ماتتْ أمّي برداً، منذ زمنٍ بعيد وهي تتسول لتشتري لرضيعها حليباً‭.‬

ثمَّ دستْ أصابعها الناعمة في شعري، وراحتْ تفلّيه من القمل‭.‬

لماذا اختفى عازف البيانو؟ ابتعدْ، أرجوك ابتعدْ‭..‬ كل ليلةٍ تهجم في آخرها على روحي، أرجوك فقط هذه الليلة لا تقترب مني، ابتعدْ يا بكاء‭.‬

مسحتُ عن خديّ حبات المطر ودموعي، شتمتُ عازف البيانو‭.‬

فجأةً لمحتُ عن كثب رجلاً يركض مقترباً من بعيد وهو يصرخ بجنون:

ـــ ماريا‭..‬ ماريا‭..‬ مارياااااا‭..‬

اقترب منّا وهو بحالةٍ سيئة، كنتُ لا أزال جاثياً أحضن إلى وجهي ركبة هذه الماريا‭.‬

لم يكترث لوجودي، رمى بنفسه على المرأة وحضنها وهو يبكي ويهزها بشدة ويصرخ بقهر وندم:

ـــ لا تموتي يا ماريا‭..‬ أرجوك لا تموتي، كان يجب ألا تتركي المنزل وأنتِ مريضة‭..‬ أنا كل ليلة أشرب ثم أشتمك وأطردك، لماذا هذه الليلة بالذات صدقت طردي لك‭..‬ لا تموتي، أتوسل إليكِ‭..‬

انتبهتُ لذلك اللون الأزرق الذي استباح وجهها، يبدو أنها قد ماتتْ منذ ساعات‭.‬

كنّا أربعة، جثة هذه المرأة على المقعد الخشبي، الزوج جانب الجثة وأنا أسفلها، ومطر براغ‭.‬

حملها بعد أن يئس من رجوعها إلى الحياة ومضى وهو يهذي‭.‬

لا‭..‬ لن أخسر هذه الفرصة، قد أعيش لألف حياةٍ أخرى قبل أن أحصل على فرصةٍ كهذه‭.‬

عبرنا أزقة براغ زقاقاً زقاقاً، الحانات المتواضعة ذات الأبواب الموصدة لوّحتْ لنا وكأنّها تودع أرواحها، هو بين يديه جثتها ودموعه وأنا أتقافز حوله كمجنون وأتوسل إليه دون أن يسمعني، ضاع صوتي بين بكائه وبكائي:

ـــ أرجوك‭..‬ دعنا نتقاسم هذه الجثة يا صاحبي، سأعطيك معطفي، خذ أيضاً جسري الذي أسكن تحته‭..‬ أقبّل يدك، سأتنازل لك عن حصتي بعازف البيانو، أرجوك‭..‬ لنتقاسمها، لديك في بيتك كل فساتينها، وأكيد هنالك صورٌ ما مشتركة للذكرى بينك وبينها، لنتقاسمْها نحنُ الثلاثة، أصدقاؤها الأخيرون في حياتها، أخذ الموت روحها، خذ أنتَ كل جسدها، لكن أعطني فقط ركبتها، أريد ركبتها، ركبتها هي الدليل الوحيد في كلِّ هذا العالم على أنّني جميل‭.‬


لوحة: حسين جمعان

11 -02 -2014

نصف‭ ‬ساعة‭ ‬احتضار‮ ‬

جدّي دفن حبلي السري ثمّ زرعها فوقه، من وقتها لم أعد أعرف، هل أنا أنا، أم يحيى، أم شجرة الكرز؟

القذيفة التي سقطت عليّ تواً أقنعتني أن سنوات حياتي لن تتجاوز عدد أغصانها‭.‬

مرّة، في العاصمة سقطتُ فجرحتُ يدي، أمي في قصرها الصغير في الشمال استيقظتْ فجأةً خائفة، خرجتْ إلى الشرفة وتأملتْ شجرة الكرز، أسرعتْ وجلبتْ سلماً لتصعد بشجاعتها إلى غصن كسرته الرياح، لتضمده على مهل‭.‬

في الصباح كانت يدي معافاة‭.‬

ـــ لن تعيش طويلاً بعد رحيلي‭..‬ وداعاً يا من‭..‬

قال يحيى بثقة، مال إليّ ليقبلني بلطفٍ، حمل الحقيبة التي جمع بها كل لوحاتي دون إطاراتها‭..‬ لوّح لي ومضى، حدث هذا صباح اليوم، بعد ليلةٍ غريبة، تصالحنا فيها أنا وهو للمرة الأولى خلال ثلاثة عقود، قبل ساعات قليلة من سقوط إحدى قذائف الحرب عليّ في شارع الحديقة الكبيرة‭.‬

دمائي تنزف بغزارة، الدم: هذا اللون الغريب الذي رسمتُ به ذات سكرة ــ بعد أن غرس يحيى منتشياً سكيني في كتفي ــ أجمل لوحة لي، لون الدم وحده لون أصلي من بين كلّ ألوان الحياة‭.‬

استطعتُ بصعوبة أن أجرّ نفسي من بين القتلى والجرحى لأمشي بضعة شوارع حتى قصرنا القديم‭.‬

رفضتُ كل الإسعافات الأوليّة، كنت متأكداً أنني سوف أموت، لهذا‭..‬ الإسعاف الوحيد هو أن أرجع لقصرنا الصغير المهجور وأموت بين كراكيبه، تماماً في نفس المكان الذي ولدتُ فيه‭..‬ مع فارق غير بسيط، ولدتُ هنا بين أثاث فخم وبشرٍ أنيقين للغاية، وأموت الآن هنا أيضاً لكن بين الكراكيب وأشباح ذكريات حياة غريبة، وبقايا الأشياء وغبارها، وموجز سريع لحياتي كشريط سينمائي شاحب، يمرّ في الذاكرة مثل قطارٍ بصفير كئيب‭.‬

لا أظن أنه لديّ أكثر من نصف ساعة لأتذكر كلّ حياتي، حياتي الغريبة، وأنا أحتضر هنا، سوف أحاول:

لا أعرف من أين جاء أبي، يُقال إنه جاء من قريةٍ بعيدة وفقيرة مهووسة بالخرافات، أهل قريته طردوه منها عندما كان مراهقاً لكثرة تعدياته على أضرحة ومزارات وأمكنة مقدسة في تلك القرية‭.‬

العجوز التركيّة حكتْ لي كثيراً عن تلك الأيام، كيف أغرمتْ أمي بأبي وأجبرتْ جدي الذي يكره الفلاحين على زواجها من أحد أبنائهم‭.‬

مرّة، قالتْ لي العجوز التركية، في مساءٍ دافئ من مساءات حكاياتها:

ـــ يوم ولادتك بكى جدك‭..‬ أنتَ لم تكن تبكي مثل أيّ جنين يولد تواً‭..‬ هبطتَ من أمك صامتاً، صمتك الغريب أدهشنا، لم نعثر على تفسير مقنع له، أخذت من أمك زرقة عينيها وكل بياضها، وجهك كان تطوراً لجمالها الباهر‭..‬ لتبدو ضوءاً جعلنا نشهق وسوف يجعل كل من يراك فيما بعد يشهق، جدك لم يصدق‭..‬ ضمّكَ لصدره وبكى، في حياته كلها لم يبكِ‭..‬ وصفك بــ(عاصمة النساء) جدك الذي أمضى حياته محاصراً بالنساء، والدته ثمَّ زوجة أبيه، عدة عمات وخالات وشقيقات، دون أعمام وأخوال وأشقاء‭..‬ تزوج جدتك فأنجبتْ له خالتك وأمك، خالتك أنجبت ريما وأمك أنجبتْ سماهر ويسرى، ثمَّ أنجبتك لتكسر بكَ طوق النساء حول جدك‭.‬

هو من جعل شعرك الأشقر ينسدل على كتفيك كالحرير، ليسرحه لكَ كلّ مساءٍ فوق طاولته على الشرفة، وكأنّه يريد لكلِّ العابرين في حياته أن يشاهدوك‭.‬

يوم ولادتك لم يكن والدك في البيت، كعادته كان مع رفاقه يخطط ويتحدث ويشرح عن الحرب التي يجب أن تعيد العدالة إلى كلِّ الكوكب‭.‬

آهٍ أيتها العجوز التركيّة، حرب والدي جاءتْ بعد وفاته‭..‬ تأخرتْ كثيراً، ولم تقتل أحداً سوى ابنه‭.‬

العجوز التركية تعرف كل قصص قصرنا الصغير، ضاعتْ طفلة وتاهتْ عند سلخ لواء إسكندرون، مشتْ لليالٍ حتى وصلتْ إلى هنا‭..‬ كان جدي شاباً، أقنع أهله أن يلتقطوا هذه التركيّة الصغيرة، لتمضي حياتها في غرفة صغيرة ــ مع الكراكيب ــ على سطح قصرنا، تخدم العائلة وتحلم بأن ترجع يوماً ما إلى تركيا‭.‬

أول لوحة رسمتُها في قبو اللوحات حيث كان يرسم والدي بعيداً عن أمّي وجدّي، كانت لوجه العجوز التركية، ليلتها صعدتُ إلى غرفتها لأهديها لوحتي الأولى، عثرتُ عليها ميتة في سريرها، وحلمُها في الرجوع إلى تركيا مستلق جانبها جثةً ثانية‭.‬

عندما ولدت انتبهوا لي، فـ أسموني (يمان) هو لم ينتبهوا له، لهذا عاش خمس سنوات دون اسم، عندما انتبهتُ له، أسميته (يحيى)‭.‬

كان يحيى لثلاثة عقودٍ تقريباً سرّي الرهيب‭.‬ طوال عقد لم تتوقف المشاجرات بين أبي وأمي، وعندما لم تعد لديه قدرةٌ على تحمل غرورها وعجرفتها هجرنا، ترك لي قبو اللوحات لأتعلم الرسم وذهب ليعيش بعيداً عنا، لا أحد استطاع أن يرجعه طوال عقدين، فقط السرطان وحده استطاع أن يعيده إلينا قبل وفاته بأسابيع قليلة‭.‬

كانت أمّي تكابر في النهار أمام الجميع، لكنها كلَّ ليلة تبكي بصمت في سريرها‭.‬

في قبو اللوحات لن أرسم الفقراء والفلاحين كما فعل أبي، سأرسم الفتيات الجميلات، الجميلات اللواتي عشقتهن في حياتي من حارة القصور الصغيرة حتى الجامعة‭.‬

خلف كل لوحة عشيقة، وخلف كل عشيقة خيبة، والخيبة مجموعة ألوان تبكي على القماش‭.‬ عليّ أن أتذكرهنّ كلهنّ الآن قبل أن أموت‭.‬

رسمتهن، في غيبوباتي اللونيّة الغرائبيّة، نبيذاً وحزناً وشهوةً وابتسامةَ عشيقةٍ، أبدأ برسم الأنثى من نهدها، وأنتهي من رسمها عند ابتسامتها‭.‬

وحدها ناديا سوف أفشل برسمها، “ناديا لا أحد يستطيع أن يرسمها “، صرختْ في روحي كل شياطيني ويحيى يقهقه على جسدها العاري في قبو اللوحات‭.‬

ليلتها، بعد أن ارتدت ثيابها، قالت لي ناديا قبل أن تمضي:

ـــ قد لا أرجع ثانية إليكَ، أرديك أن تظلّ حلماً‭..‬ في زاوية حديقتكم يوجد شجرة كرز جميلة، علق عليها أرجوحة وانتظرني‭..‬ قد أرجع يوماً ما‭..‬

اللعنة على أنوثتها الباهرة، أمام كلّ عشيقاتي كنت أضع ساقاً على أخرى لأرسمهن بلا مبالاة، هي‭..‬ سجدتُ روحي بخشوعٍ أمام جسدها العاري وعلب ألواني تضرب عن نزيفها‭.‬

ناديا، هي وحدها سوف تنجح برسمي من بين كل أصدقائنا الرسامين‭.‬

معتز قال: وجهك عصيّ على الفرشاة يا صاحبي‭..‬ يشبه النبيذ، يُشرب لكنه لا يُرسم‭.‬

ريتا تمتمتْ: وجهك بحد ذاته لون جديد‭.‬

سمر همستْ: يمكن‭..‬ بعد ألف لوحة وألف عشيق، قد أستطيع رسمك‭.‬

سامي صرخ بعد عدة محاولات فاشلة في مرسمه في الأحياء العتيقة للعاصمة، وهو يكسر فرشاته بحنق: أنت لا أحد يستطيع رسمك سوى الله‭..‬

ورسمتني ناديا‭.‬

على عكسي تماماً في الرسم، ابتدأتْ من ابتسامتي وانتهتْ بزرقة عينيّ‭.‬

بين الجرعة الكيماوية الثالثة ووفاته بضع ساعات، بدا لنا كأنّه رجع شاباً، قال إنه يريد أن يرسم، ظننا أنه الحنين لفلاحيه وقريته، قال لنا سأرسم يمان‭..‬ وابتسم، أنا فرحت‭.‬

جلس خلف سلّم اللوحة ورسم لساعات قليلة، رسم بنشوة هائلة وكأنه يمارس الحب في ليلته الأولى مع أمي كما حكى لي ذات سكرة، بين سيجارتين من قهر‭.‬

ليلة أولى وأخيرة للحب بين فقراء الفلاحين بنزق مطرهم، وأناقة الأرستقراطيين النبيلة‭.‬

شعر بالتعب فرجع إلى سريره حيث استلقى‭.‬

شهقتُ وأنا أتأمل لوحته الأخيرة غير المكتملة، هذا الوجه عليها لم يكن وجهي، كان وجه يحيى، عندئذٍ عرفتُ أن أبي يعرف سرّي الرهيب القديم‭.‬

ابتسمتُ له ابتسم لي ومات‭.‬

بكيتُ وأنا أحضنه، في القبو أيضاً‭..‬ الجميلات في لوحاتي، الفلاحون في لوحاته، حتى العجوز التركيّة في قبرها، كلّهم بكوا‭.‬

بينما يحيى وحده كان يقفز حولنا كمجنون ويلتقط لنا صوراً تذكارية مع الجثة‭.‬

لعقدٍ كامل حاولتْ أمي أن تُدخل الله إلى قصرنا، كانت تشعر بأنه سلاحها الأخير لتهزم والدي، ولطالما حاول والدي أن يترك الله خارج قصرنا‭.‬

ثمّة سوء تفاهم كبير بين الله وأبي، أظن أنني ورثت سوء التفاهم هذا من أبي، هذه الحرب جعلتني أنتبه جيداً لسوء التفاهم هذا‭.‬

في طفولتي كنت أتخيل الله عجوزاً يقف بباب قصرنا، رجله الأولى في الداخل والثانية في الخارج‭.‬

في تلك الليلة شاهدته للمرة الأولى، ليس الله‭..‬ وإنما يحيى‭.‬

تسللتُ ــ بفضول الصغار ــ بعد منتصف الليل مثل أيِّ طفلٍ اشتاق لوالده إلى القبو، كان أبي نائماً، أصابعه ملوثة بالألوان ومن أنفاسه تفوح رائحة الخمر، تجولتُ بين لوحات فلاحيه، عثرتُ فوق الطاولة على نصف زجاجة نبيذ‭..‬ شربتها، ثمَّ صعدتُ إلى الأعلى وأنا أترنح، في عتمة الصالون وعلى ضوءٍ خفيف للقمر عبر النافذة شاهدتني أمي‭.‬

ظلها شاهق كما شخصيتها، بكل جلالها، شلَّها موت أبي وبهاؤها لم يُشل‭.‬

مشيتُ إلى الباب وفتحته، وضعتُ رجلي اليمنى خارج الباب وتركتُ اليسرى داخله‭.‬

صرختْ عليّ أمي بعنادها المعتاد: ارجع إلى سريرك‭..‬

لم أردّ عليها بسبب خوفي الدائم منها، سوف تنتهي حياتي وخوفي منها لن ينتهي، أجابها يحيى: لن أعود‭..‬

وقتها شاهدته أول مرة في حياتي، وبعدها لن نفارق بعضنا أبداً، وأيضاً، وقتها ــ للمرة الأولى والأخيرة ــ صفعتني أمي‭.‬

انتهتْ النصف ساعة، انتهى كل شيء، من يرسم جثتي؟

وأنا أغلق عيني، انتبهتُ من البلور المكسور لشباك غرفة الصالون، شجرة الكرز الشاحبة في حديقة جدّي، تنحني على جدار هذا القصر الصغير والمهجور، لترسم عليه بأغصانها، شيئاً ما‭.‬

29 -12 -2014

ــ ما سبق، ملخص قصصي لنص طويل جداً ــ

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.