ثلاث‭ ‬ورقات‭ ‬عراقية

الأربعاء 2017/03/01
لوحة: سعد يكن

الورقة‭ ‬الأولى

‮ ‬

عامان‭ ‬ونصف‭ ‬العام‭ ‬في‭ ‬موسكو

‮ ‬

في‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬ثورة‭ ‬تموز‭ ‬عام‭ ‬1958،‭ ‬انقطع‭ ‬الأمل‭ ‬بإعادة‭ ‬العلاقات‭ ‬مع‭ ‬ذوي‭ ‬القربى‭ ‬في‭ ‬إيران. ‬وانهمك‭ ‬جيلنا‭ ‬في‭ ‬الأحداث‭ ‬العاصفة‭ ‬التي‭ ‬أعقبت‭ ‬الثورة. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1959‭ ‬تخرجت‭ ‬في‭ ‬كلية‭ ‬العلوم‭-‬جامعة‭ ‬بغداد،‭ ‬الدورة‭ ‬الثالثة‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬الجيولوجيا. ‬وحصلت‭ ‬على‭ ‬بعثة‭ ‬حكومية‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬لنيل‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1960‭.‬

وبعد‭ ‬إكمال‭ ‬جميع‭ ‬إجراءات‭ ‬السفر‭ ‬زارنا‭ ‬في‭ ‬البيت‭ ‬الشهيد‭ ‬سلام‭ ‬عادل،‭ ‬سكرتير‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬العراقي،‭ ‬والمرحوم‭ ‬عامر‭ ‬عبدالله‭ ‬عضو‭ ‬المكتب‭ ‬السياسي‭ ‬آنذاك،‭ ‬اللذان‭ ‬كانا‭ ‬يعلمان‭ ‬بالطبع‭ ‬بنيتي‭ ‬في‭ ‬إكمال‭ ‬الدراسة،‭ ‬وطلبا‭ ‬منّي‭ ‬التريث‭ ‬في‭ ‬السفر‭ ‬الآن‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إكمال‭ ‬الترتيبات‭ ‬للسفر‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬أيضاً‭ ‬ولكن‭ ‬للدراسة‭ ‬في‭ ‬أكاديمية‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬السوفييتية،‭ ‬أي‭ ‬المدرسة‭ ‬الحزبية،‭ ‬وذلك‭ ‬لدراسة‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية‭ ‬والاقتصاد‭ ‬والفلسفة. ‬وما‭ ‬كان‭ ‬لي‭ ‬أن‭ ‬أرفض‭ ‬قرار‭ ‬الحزب‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬آنذاك‭ ‬مسؤول‭ ‬التنظيم‭ ‬الطلابي‭ ‬لمدينة‭ ‬بغداد. ‬فوجئ‭ ‬الأهل‭ ‬برفضي‭ ‬للبعثة‭ ‬الدراسية،‭ ‬وهم‭ ‬الذين‭ ‬كانوا‭ ‬يحلمون‭ ‬بأن‭ ‬يحصل‭ ‬ابنهم‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتوراه. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬بإمكانهم‭ ‬أن‭ ‬يثنوني‭ ‬عن‭ ‬توجهي‭ ‬للدراسة‭ ‬الحزبية. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬بادرت‭ ‬إلى‭ ‬إرجاع‭ ‬المبلغ‭ ‬الذي‭ ‬قررته‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬للسفر،‭ ‬وإلغاء‭ ‬عقد‭ ‬البعثة‭ ‬تمهيداً‭ ‬للسفر‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬ولكن‭ ‬لهدف‭ ‬آخر‭.‬

إلاّ‭ ‬أن‭ ‬خطة‭ ‬السفر‭ ‬كادت‭ ‬أن‭ ‬تنهار‭ ‬كلياً‭ ‬بسبب‭ ‬حادث‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬في‭ ‬الحسبان. ‬ففي‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬اندلعت‭ ‬الإضرابات‭ ‬العمالية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بغداد،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مجمع‭ ‬مصانع‭ ‬إنتاج‭ ‬السيجاير. ‬وفي‭ ‬عشية‭ ‬السفر‭ ‬كُلفت‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الحزب‭ ‬بمتابعة‭ ‬إضراب‭ ‬العمال‭ ‬الذي‭ ‬اندلع‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬الوثبة‭ ‬وفي‭ ‬محلة‭ ‬صبابيغ‭ ‬الآل‭ ‬والعوينه،‭ ‬لإيصال‭ ‬المدد‭ ‬إلى‭ ‬العمال‭ ‬المضربين‭ ‬والمعتصمين. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬العمال‭ ‬متحصنين‭ ‬في‭ ‬معملهم‭ ‬“معمل‭ ‬سيجاير‭ ‬غازي”‭ ‬مقابل‭ ‬المدرسة‭ ‬الثانوية‭ ‬الجعفرية‭ ‬في‭ ‬شارع‭ ‬الوثبة. ‬وكلفنا،‭ ‬باسم‭ ‬مشتاق‭ ‬وأنا،‭ ‬بمتابعة‭ ‬وضع‭ ‬المضربين‭ ‬وإيصال‭ ‬المعونات‭ ‬إليهم‭ ‬وتنظيم‭ ‬الصلة‭ ‬معهم. ‬واضطررنا‭ ‬إلى‭ ‬التسلل‭ ‬عبر‭ ‬“عگد‭ ‬النصارى”‭ ‬الذي‭ ‬جرى‭ ‬تطويقه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الشرطة‭ ‬وأفراد‭ ‬الجيش. ‬وفي‭ ‬لحظة‭ ‬اختراقنا‭ ‬للطوق،‭ ‬هاجم‭ ‬المحلة‭ ‬أفراد‭ ‬من‭ ‬الشرطة‭ ‬والجيش‭ ‬وشرعوا‭ ‬باعتقال‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬هناك‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬كان‭ ‬يمرّ‭ ‬بالأزقة‭ ‬الضيقة‭ ‬المحيطة،‭ ‬واعتقلنا‭ ‬نحن‭ ‬أيضاً. ‬ولكن‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرة‭ ‬طوّقنا‭ ‬جندي‭ ‬من‭ ‬المفرزة‭ ‬المهاجمة‭ ‬وبدأ‭ ‬الحديث‭ ‬معنا‭ ‬باحترام‭ ‬ونحن‭ ‬لا‭ ‬نعرفه. ‬تبين‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الشخص‭ ‬يعرف‭ ‬هويتنا‭ ‬وأراد‭ ‬حمايتنا‭ ‬من‭ ‬الاعتقال،‭ ‬وأفهم‭ ‬ضابط‭ ‬القوة‭ ‬المهاجمة‭ ‬أننا‭ ‬طارئين‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬الأمن‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬شاكل‭ ‬ذلك‭ ‬ليطلقوا‭ ‬سراحنا. ‬وأوصلنا‭ ‬هذا‭ ‬الجندي‭ ‬النبيل‭ ‬إلى‭ ‬زقاق‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬شارع‭ ‬الرشيد‭ ‬وهكذا‭ ‬نجونا‭ ‬من‭ ‬الاعتقال‭.‬

‮ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬حال‭ ‬رحت‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬أستعد‭ ‬للسفر‭ ‬الذي‭ ‬سوف‭ ‬يتم‭ ‬بعد‭ ‬يوم‭ ‬فقط. ‬وتطوعت‭ ‬الأخت‭ ‬العزيزة‭ ‬سعاد‭ ‬حبه‭ ‬كعادتها‭ ‬في‭ ‬مرافقتي‭ ‬إلى‭ ‬زقاق‭ ‬“تحت‭ ‬التكية”‭ ‬قرب‭ ‬الشورجة‭ ‬لشراء‭ ‬معطف‭ ‬سميك‭ ‬“يليق”‭ ‬ببرد‭ ‬موسكو‭ ‬الخيالي‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬“اللنگات”،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬سوف‭ ‬أحتاجه‭ ‬من‭ ‬ملابس‭ ‬دافئة‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬البلد‭ ‬الغريب‭ ‬علينا‭ ‬بجوّه‭ ‬وتقاليده؛‭ ‬أي‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي. ‬ومع‭ ‬الاستعداد‭ ‬بدأت‭ ‬أدشّن،‭ ‬وبدون‭ ‬أن‭ ‬أعلم،‭ ‬تغييراً‭ ‬في‭ ‬مسيرة‭ ‬حياتي‭ ‬والذي‭ ‬قربني‭ ‬لاحقاً‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬أتوقع‭ ‬ذلك‭ ‬من‭ ‬إيران‭ ‬وشعبها‭ ‬وثقافتها‭ ‬من‭ ‬ناحية،‭ ‬ومن‭ ‬ناحية‭ ‬أخرى‭ ‬استبداد‭ ‬وجبروت‭ ‬حكامها‭ ‬كما‭ ‬سنرى‭ ‬في‭ ‬تطور‭ ‬الأحداث‭ ‬اللاحقة‭.‬

في‭ ‬خريف‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬سافرت‭ ‬بالطائرة‭ ‬إلى‭ ‬بيروت‭ ‬وللمرة‭ ‬الأولى‭ ‬بهدف‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي. ‬وكانت‭ ‬بيروت‭ ‬آنذاك‭ ‬ملاذاً‭ ‬لأنصار‭ ‬العهد‭ ‬الملكي‭ ‬الذين‭ ‬غادروا‭ ‬البلاد‭ ‬أو‭ ‬فصلوا‭ ‬من‭ ‬وظائفهم‭ ‬في‭ ‬السفارات‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬ومن‭ ‬بينهم‭ ‬صهري‭ ‬وزوج‭ ‬أختي‭ ‬والوزير‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الملكي‭ ‬المرحوم‭ ‬عبدالرزاق‭ ‬الأزري،‭ ‬وخالي‭ ‬الأصغر‭ ‬المرحوم‭ ‬محمد‭ ‬جواد‭ ‬الصفار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يشغل‭ ‬منصب‭ ‬القنصل‭ ‬العراقي‭ ‬في‭ ‬بيروت‭ ‬وفصل‭ ‬من‭ ‬السلك‭ ‬الدبلوماسي‭ ‬بعد‭ ‬الثورة. ‬بقيت‭ ‬في‭ ‬ضيافة‭ ‬خالي‭ ‬لفترة‭ ‬قصيرة‭ ‬في‭ ‬بيته‭ ‬في‭ ‬حيّ‭ ‬المزرعة‭ ‬دون‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬عن‭ ‬وجهتي. ‬بالطبع‭ ‬عرفت‭ ‬أختي‭ ‬العزيزة‭ ‬المرحومة‭ ‬شعاع‭ ‬حبه‭ ‬بوجودي،‭ ‬ودعتني‭ ‬لزيارتها‭ ‬في‭ ‬شقتها‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬الأبيض‭ ‬المتوسط‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الروشة. ‬وما‭ ‬أن‭ ‬دخلت‭ ‬البيت‭ ‬حتى‭ ‬وجدت‭ ‬حشداً‭ ‬من‭ ‬الأقارب‭ ‬والمعارف‭ ‬ممن‭ ‬تركوا‭ ‬العراق‭ ‬لعلاقتهم‭ ‬بالنظام‭ ‬الملكي. ‬وبدأ‭ ‬الهجوم‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الشيوعي‭ ‬“والبعبع‭ ‬الخطير”‭ ‬القادم‭ ‬من‭ ‬العراق. ‬واشتدت‭ ‬ألحان‭ ‬العزف‭ ‬على‭ ‬نغمة‭ ‬“السحل”‭ ‬و”الكفر‭ ‬والإلحاد‭ ‬والإباحية‭ ‬وحرق‭ ‬القرآن”‭ ‬و‭ ‬åمصادرة‭ ‬أموال‭ ‬الناسò،‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يردده‭ ‬أحمد‭ ‬سعيد‭ ‬من‭ ‬إذاعة‭ ‬صوت‭ ‬العرب‭ ‬وكل‭ ‬ما‭ ‬تردده‭ ‬التيارات‭ ‬العراقية‭ ‬والعربية‭ ‬التي‭ ‬اتخذت‭ ‬موقفاً‭ ‬عدائياً‭ ‬من‭ ‬التطورات‭ ‬في‭ ‬البلاد. ‬إن‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬النغمة‭ ‬ما‭ ‬كانت‭ ‬إلا‭ ‬محض‭ ‬ادعاءات‭ ‬مصطنعة‭ ‬ومفبركة‭ ‬عن‭ ‬أفعال‭ ‬لم‭ ‬أصادفها‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬وتنطوي‭ ‬على‭ ‬الكثير‭ ‬من‭ ‬التزييف‭ ‬والتأليب‭ ‬فحسب. ‬وحشرت‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬“الوليمة”‭ ‬في‭ ‬وضع‭ ‬لا‭ ‬أحسد‭ ‬عليه. ‬ولم‭ ‬يسعفني‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الجدال‭ ‬الحامي‭ ‬الوطيس‭ ‬إلاّ‭ ‬الأخت‭ ‬العزيزة‭ ‬شعاع‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تبدي‭ ‬نحوي‭ ‬على‭ ‬الدوام‭ ‬آيات‭ ‬من‭ ‬التعاطف‭ ‬والود‭.‬

ذهبت‭ ‬متلصلصاً‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬مرة‭ ‬إلى‭ ‬السفارة‭ ‬السوفييتية‭ ‬علّني‭ ‬أحصل‭ ‬على‭ ‬تأشيرة‭ ‬الدخول‭ ‬السوفييتية،‭ ‬التي‭ ‬تقرر‭ ‬إرسالها‭ ‬إليّ‭ ‬في‭ ‬بيروت. ‬وبعد‭ ‬مرور‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬شهرين‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬التأشيرة،‭ ‬وتوجهت‭ ‬بطائرة‭ ‬الخطوط‭ ‬الجوية‭ ‬الهندية‭ ‬إلى‭ ‬پراگ‭ ‬العاصمة‭ ‬التشيكية،‭ ‬حيث‭ ‬كانت‭ ‬پراگ‭ ‬المنفذ‭ ‬الوحيد‭ ‬للوصول‭ ‬إلى‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت. ‬ووصلت‭ ‬موسكو‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬طائرة‭ ‬الخطوط‭ ‬الجوية‭ ‬السوفييتية‭ ‬عشية‭ ‬العام‭ ‬الجديد،‭ ‬عام‭ ‬1961. ‬ولم‭ ‬أصدق‭ ‬نفسي‭ ‬عند‭ ‬نزولي‭ ‬من‭ ‬الطائرة‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬أبيضَ‭ ‬ناصعاً. ‬فدرجة‭ ‬الحرارة‭ ‬كانت‭ ‬25‭ ‬مئوية‭ ‬تحت‭ ‬الصفر. ‬وكدت‭ ‬أتجمد‭ ‬من‭ ‬شدة‭ ‬هذا‭ ‬البرد‭ ‬العجيب‭ ‬والرعب‭ ‬منه. ‬وانتابني‭ ‬هاجس‭ ‬غريب‭ ‬وقلق‭ ‬وتساؤل‭ ‬عن‭ ‬مدى‭ ‬إمكانية‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬تغلفها‭ ‬قوالب‭ ‬الثلوج. ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬مستعداً‭ ‬من‭ ‬حيث‭ ‬الملابس،‭ ‬التي‭ ‬اقتصرت‭ ‬على‭ ‬المعطف‭ ‬الذي‭ ‬اشتريته‭ ‬من‭ ‬سوق‭ ‬“تحت‭ ‬التكية”‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬ولا‭ ‬يلبسه‭ ‬الموسكوفيون‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬الربيع،‭ ‬وحذاء‭ ‬أنيق‭ ‬من‭ ‬صنع‭ ‬المرحوم‭ ‬الحاج‭ ‬عباس‭ ‬الكاهچي‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬ينفع‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬إلاّ‭ ‬لحضور‭ ‬المسارح‭ ‬والأوبرا. ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬حال‭ ‬تأقلمت‭ ‬لاحقاً‭ ‬بعد‭ ‬تزودي‭ ‬بمعطف‭ ‬روسي‭ ‬حقيقي‭ ‬أشبه‭ ‬باللحاف‭ ‬وقبعة‭ ‬من‭ ‬الفرو‭ ‬وجزمة‭ ‬مبطنة‭ ‬بالفرو‭ ‬لتقيني‭ ‬عذاب‭ ‬البرد‭ ‬الروسي‭ ‬الخيالي‭ ‬ومخاطره. ‬باشرت‭ ‬بالدراسة‭ ‬بهمة‭ ‬عالية‭ ‬وشغف،‭ ‬واستطعت‭ ‬التحدث‭ ‬والقراءة‭ ‬والكتابة‭ ‬باللغة‭ ‬الروسية‭ ‬خلال‭ ‬وقت‭ ‬قصير‭ ‬مدفوعاً‭ ‬بالأمل‭ ‬والحلم‭ ‬الكبير‭ ‬الذي‭ ‬كنا‭ ‬نعيشه‭ ‬بعد‭ ‬ثورة‭ ‬تموز‭ ‬ببناء‭ ‬أرض‭ ‬الفراتين‭ ‬وتحديث‭ ‬مجتمعنا‭ ‬وإضفاء‭ ‬المحبة‭ ‬بين‭ ‬أبناء‭ ‬هذا‭ ‬الوادي‭ ‬بغض‭ ‬النظر‭ ‬عن‭ ‬انحدارهم،‭ ‬وترسيخ‭ ‬قيم‭ ‬العدالة‭ ‬والديمقراطية‭ ‬في‭ ‬بلادنا‭.‬

في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة‭ ‬التي‭ ‬استمرت‭ ‬قرابة‭ ‬العامين‭ ‬ونصف‭ ‬العام،‭ ‬زاملت‭ ‬نخبة‭ ‬طيبة‭ ‬ورائعة‭ ‬ممن‭ ‬سبقوني‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬أو‭ ‬قدموا‭ ‬بعدي‭ ‬بينهم‭ ‬الشهيد‭ ‬سلام‭ ‬عادل‭ ‬الذي‭ ‬أبعد‭ ‬عملياً‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬بقرار‭ ‬من‭ ‬اللجنة‭ ‬المركزية‭ ‬للحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬العراقي‭ ‬بحجة‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬موسكو‭ ‬إثر‭ ‬الخلافات‭ ‬التي‭ ‬عمّت‭ ‬الهيئة‭ ‬القيادية‭ ‬حول‭ ‬التعامل‭ ‬مع‭ ‬التعقيدات‭ ‬التي‭ ‬سادت‭ ‬البلاد‭ ‬بعد‭ ‬عام‭ ‬من‭ ‬الثورة،‭ ‬وبعد‭ ‬الاجتماع‭ ‬الصاخب‭ ‬في‭ ‬صيف‭ ‬عام‭ ‬1959‭ ‬والذي‭ ‬انعقد‭ ‬في‭ ‬بيتنا. ‬وكان‭ ‬يسبقنا‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬وعلى‭ ‬وشك‭ ‬إنهائها‭ ‬الشهيد‭ ‬محمد‭ ‬صالح‭ ‬العبلي،‭ ‬عضو‭ ‬المكتب‭ ‬السياسي،‭ ‬الذي‭ ‬التحق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬تموز‭ ‬عندما‭ ‬قدم‭ ‬إلى‭ ‬موسكو‭ ‬في‭ ‬عداد‭ ‬وفد‭ ‬الشبيبة‭ ‬إلى‭ ‬مهرجان‭ ‬موسكو‭ ‬للطلبة‭ ‬والشباب‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1957. ‬كما‭ ‬سبقني‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬الشهيد‭ ‬جمال‭ ‬الحيدري،‭ ‬عضو‭ ‬المكتب‭ ‬السياسي،‭ ‬الذي‭ ‬أنهى‭ ‬دراسته‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬الحزبية‭ ‬العليا‭ ‬ثم‭ ‬استمر‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬في‭ ‬أكاديمية‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬درجة‭ ‬علمية‭ ‬رفيعة‭ ‬في‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية. ‬كما‭ ‬سبقنا‭ ‬في‭ ‬الدراسة‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بهاء‭ ‬الدين‭ ‬نوري‭ ‬وعزيز‭ ‬الحاج‭ ‬والمرحوم‭ ‬شريف‭ ‬الشيخ. ‬والتحق‭ ‬بالمدرسة‭ ‬لاحقاً‭ ‬المرحوم‭ ‬ثابت‭ ‬العاني‭ ‬والمرحوم‭ ‬عامر‭ ‬عبدالله‭ ‬والمرحوم‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالكريم‭ ‬والمرحومة‭ ‬الدكتورة‭ ‬نزيهة‭ ‬الدليمي،‭ ‬أول‭ ‬وزيرة‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬والبلدان‭ ‬العربية،‭ ‬والسيدة‭ ‬ثمينة‭ ‬ناجي‭ ‬يوسف‭ ‬أرملة‭ ‬الشهيد‭ ‬سلام‭ ‬عادل‭ ‬والمرحوم‭ ‬صالح‭ ‬دگلة‭ ‬وزوجته‭ ‬إنعام‭ ‬العبايچي‭ ‬وعبدالسلام‭ ‬الناصري. ‬وضمت‭ ‬المدرسة‭ ‬مستمعين‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬عراقيين‭ ‬وعرب‭ ‬وأجانب‭ ‬ومنهم‭ ‬وصال‭ ‬فرحة‭ ‬زوجة‭ ‬المرحوم‭ ‬خالد‭ ‬بكداش‭ ‬وأحمد‭ ‬مكيس‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬السوري‭ ‬حيث‭ ‬كنا‭ ‬ندرس‭ ‬في‭ ‬فصل‭ ‬واحد،‭ ‬والسيدة‭ ‬أسماء‭ ‬الفيصل‭ ‬مترجمتنا‭ ‬الماهرة‭ ‬شقيقة‭ ‬يوسف‭ ‬الفيصل‭ ‬رئيس‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬السوري‭ ‬الحالي‭ ‬وزوجة‭ ‬رياض‭ ‬الترك‭ ‬لاحقاً. ‬هذا‭ ‬بالإضافة‭ ‬إلى‭ ‬مستمعين‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬لبنان‭ ‬والأردن‭ ‬والسودان‭ ‬والصومال‭ ‬وقبرص‭ ‬وبلدان‭ ‬أوربية‭ ‬وأميركية‭ ‬لاتينية. ‬وكان‭ ‬يتلقى‭ ‬محاضرات‭ ‬في‭ ‬المدرسة‭ ‬أيضاً‭ ‬وبشكل‭ ‬مستقل‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬المرحوم‭ ‬خالد‭ ‬بكداش‭ ‬وألفارو‭ ‬كونيال‭ ‬الرسام‭ ‬البرتغالي‭ ‬وسكرتير‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬البرتغالي‭ ‬الذي‭ ‬هرب‭ ‬لتوّه‭ ‬من‭ ‬سجن‭ ‬الفاشية‭ ‬البرتغالية‭ ‬والذي‭ ‬ربطته‭ ‬علاقات‭ ‬طيبة‭ ‬مع‭ ‬الشهيد‭ ‬سلام‭ ‬عادل. ‬وكان‭ ‬يتلقى‭ ‬محاضرات‭ ‬بمفرده‭ ‬أمير‭ ‬خسروي‭ ‬“بابك”‭ ‬أحد‭ ‬كوادر‭ ‬حزب‭ ‬توده‭ ‬إيران‭ ‬وزوجته‭ ‬الفنزويلية. ‬وكان‭ ‬بابك‭ ‬صديقا‭ ‬قديما‭ ‬للمرحوم‭ ‬مهدي‭ ‬عبدالكريم‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يعمل‭ ‬في‭ ‬سكرتارية‭ ‬اتحاد‭ ‬الطلبة‭ ‬العالمي‭ ‬في‭ ‬براغ‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬خمسينات‭ ‬القرن‭ ‬العشرين. ‬وقد‭ ‬ترك‭ ‬خسروي‭ ‬في‭ ‬السنوات‭ ‬الأخيرة‭ ‬حزب‭ ‬توده‭ ‬وأسس‭ ‬حركة‭ ‬أخرى‭ ‬معارضة‭ ‬لتوده‭ ‬سماها‭ ‬“راه‭ ‬توده”‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الثمانينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬وبعد‭ ‬الضربة‭ ‬التي‭ ‬وجهت‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬توده‭ ‬إيران‭ ‬في‭ ‬عهد‭ ‬الخميني. ‬لست‭ ‬هنا‭ ‬في‭ ‬معرض‭ ‬الحديث‭ ‬أو‭ ‬استذكار‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬الحافلة‭ ‬بالمثابرة‭ ‬والتزود‭ ‬بالمعرفة،‭ ‬فمجالها‭ ‬إن‭ ‬سمح‭ ‬الوقت‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬آخر‭.‬

كانت‭ ‬تلك‭ ‬الأيام‭ ‬تمر‭ ‬علينا‭ ‬أيضاً‭ ‬والقلق‭ ‬يساورنا‭ ‬جميعاً‭ ‬بسبب‭ ‬تدهور‭ ‬ملحوظ‭ ‬في‭ ‬الأوضاع‭ ‬السياسية‭ ‬في‭ ‬الوطن،‭ ‬بما‭ ‬ينذر‭ ‬بمأساة‭ ‬حقيقية‭ ‬للبلاد. ‬وفعلاً‭ ‬حصلت‭ ‬الكارثة‭ ‬في‭ ‬8‭ ‬شباط‭ ‬عام‭ ‬1963. ‬كنا‭ ‬نقضي‭ ‬أيام‭ ‬العطلة‭ ‬الشتوية‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬“پوشكينو”‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬موسكو. ‬وكنا‭ ‬جالسين‭ ‬صباحاً،‭ ‬العزيزة‭ ‬أم‭ ‬إيمان‭ ‬والمرحوم‭ ‬عامر‭ ‬عبدالله،‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬دار‭ ‬الراحة‭ ‬عندما‭ ‬لاحظنا‭ ‬السيدة‭ ‬وصال‭ ‬فرحة‭ ‬تهرول‭ ‬نحونا‭ ‬وعلى‭ ‬محيّاها‭ ‬أسارير‭ ‬الفرح،‭ ‬وتبشرنا‭ ‬بماذا؟‭ ‬لقد‭ ‬أطيح‭ ‬بعبدالكريم‭ ‬قاسم‭.‬

وقع‭ ‬الخبر‭ ‬علينا‭ ‬كالصاعقة،‭ ‬وخلافاً‭ ‬لما‭ ‬توقعته‭ ‬السيدة‭ ‬المحترمة‭ ‬التي‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لديها‭ ‬أيّ‭ ‬تصور‭ ‬عمّا‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬العراق،‭ ‬تماماً‭ ‬كما‭ ‬يحدث‭ ‬الآن‭ ‬حيث‭ ‬لا‭ ‬يستطيع‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬العرب‭ ‬تفسير‭ ‬الأحداث‭ ‬بعد‭ ‬الإطاحة‭ ‬بأخلاف‭ ‬”‭ ‬فرسان”‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬نيسان‭ ‬2003. ‬وسرعان‭ ‬ما‭ ‬بادرت‭ ‬العزيزة‭ ‬أم‭ ‬إيمان‭ ‬إلى‭ ‬الاتصال‭ ‬بالمسؤولين‭ ‬في‭ ‬الدار‭ ‬لتأمين‭ ‬عودتنا‭ ‬إلى‭ ‬موسكو. ‬كنا‭ ‬ندرك‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬يعد‭ ‬نكبة‭ ‬وطنية‭ ‬حقيقية‭ ‬وارتدادا‭ ‬مريعا‭ ‬يشمل‭ ‬القيم‭ ‬والثقافة‭ ‬وتنمية‭ ‬البلاد،‭ ‬واستباحة‭ ‬لكرامة‭ ‬المواطن‭ ‬العراقي‭ ‬وتشويها‭ ‬للعمل‭ ‬السياسي‭ ‬وعرقلة‭ ‬السعي‭ ‬نحو‭ ‬الديمقراطية. ‬لقد‭ ‬أشاع‭ ‬هذا‭ ‬الارتداد‭ ‬العنف‭ ‬والقتل‭ ‬والتدمير‭ ‬بشكل‭ ‬ربما‭ ‬لم‭ ‬يشهده‭ ‬العراقيون‭ ‬منذ‭ ‬استباحة‭ ‬المغول‭ ‬لأرض‭ ‬السواد‭ ‬خلال‭ ‬العصور‭ ‬المظلمة. ‬كانت‭ ‬هذه‭ ‬الكارثة‭ ‬ردة‭ ‬بكل‭ ‬المقاييس،‭ ‬زرعت‭ ‬“قيم”‭ ‬التوحش‭ ‬والتدمير‭ ‬والإرهاب‭ ‬وهوس‭ ‬عبادة‭ ‬السلاح‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العراقي،‭ ‬هذا‭ ‬الهوس‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬ديدن‭ ‬المتطرفين‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬لون‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬الجريح. ‬وفقد‭ ‬العراقيون‭ ‬نخبة‭ ‬من‭ ‬خيرة‭ ‬أبناء‭ ‬العراق‭ ‬وبناته‭ ‬خلال‭ ‬الانقلاب‭ ‬المشين. ‬واستمر‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬يولّد‭ ‬المزيد‭ ‬والمزيد‭ ‬من‭ ‬المضاعفات‭ ‬السلبية‭ ‬بشكل‭ ‬يحد‭ ‬من‭ ‬أيّ‭ ‬تطور‭ ‬إيجابي‭ ‬واستقرار‭ ‬للأوضاع‭ ‬في‭ ‬البلاد‭ ‬وحتى‭ ‬بعد‭ ‬الإطاحة‭ ‬بأخلاف‭ ‬إنقلابيي‭ ‬شباط‭ ‬في‭ ‬التاسع‭ ‬من‭ ‬نيسان‭ ‬عام‭ ‬2003. ‬لقد‭ ‬غيّر‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬الدموي‭ ‬أولويات‭ ‬المواطن‭ ‬العراقي‭ ‬ونمط‭ ‬حياته‭ ‬واهتماماته‭ ‬ومستقبله. ‬فقد‭ ‬وجّه‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬الخطير‭ ‬أكبر‭ ‬ضربة‭ ‬لقوى‭ ‬الحداثة‭ ‬والتنوير‭ ‬والعقلانية‭ ‬في‭ ‬المجتمع‭ ‬العراقي،‭ ‬وأغرق‭ ‬العمل‭ ‬السياسي‭ ‬بالقوى‭ ‬الأكثر‭ ‬تخلفاً‭ ‬في‭ ‬المجتمع،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬نراه‭ ‬اليوم. ‬وسلب‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬المروّع‭ ‬بغداد،‭ ‬أمّ‭ ‬الدنيا‭ ‬ومهد‭ ‬حضارتنا،‭ ‬دورها‭ ‬الحضاري‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬حط‭ ‬فيها‭ ‬صعالكة‭ ‬التخلف،‭ ‬والآن‭ ‬ملثمو‭ ‬الظلامية‭ ‬من‭ ‬التكفيريين‭ ‬والإرهابيين‭ ‬القادمين‭ ‬من‭ ‬وراء‭ ‬الحدود‭ ‬وعبثيو‭ ‬الميليشيات‭ ‬من‭ ‬رموز‭ ‬التخلف‭ ‬والارتداد‭ ‬والذين‭ ‬يصبون‭ ‬جام‭ ‬غضبهم‭ ‬على‭ ‬عروس‭ ‬دجلة،‭ ‬وييتمون‭ ‬أطفالها،‭ ‬ويمحون‭ ‬بؤر‭ ‬التنوير‭ ‬فيها‭.‬

الورقة‭ ‬الثانية

التوجه‭ ‬نحو‭ ‬العاصمة‭ ‬الإيرانية‭ ‬طهران

‮ ‬قلبت‭ ‬نكبة‭ ‬شباط‭ ‬1963‭ ‬رأساً‭ ‬على‭ ‬عقب‭ ‬أولويات‭ ‬المواطن‭ ‬العراقي‭ ‬ونمط‭ ‬حياته‭ ‬واهتماماته‭ ‬ومستقبله. ‬وكان‭ ‬لا‭ ‬بد‭ ‬أن‭ ‬يؤثّر‭ ‬هذا‭ ‬الحدث‭ ‬المروع‭ ‬على‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬العراقي‭ ‬بشكل‭ ‬مضاعف. ‬فبعد‭ ‬الإبادة‭ ‬التي‭ ‬طالت‭ ‬قادة‭ ‬الحزب‭ ‬وكوادره‭ ‬وأعضاءه،‭ ‬راح‭ ‬من‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬قادة‭ ‬الحزب‭ ‬وكوادره‭ ‬في‭ ‬الخارج‭ ‬بالعمل‭ ‬على‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬الحزب‭ ‬وإقامة‭ ‬الصلة‭ ‬مع‭ ‬من‭ ‬فلت‭ ‬من‭ ‬طاحونة‭ ‬الموت‭ ‬في‭ ‬الداخل. ‬في‭ ‬صيف‭ ‬عام‭ ‬1963‭ ‬أنهيت‭ ‬دراستي‭ ‬في‭ ‬أكاديمية‭ ‬العلوم‭ ‬الاجتماعية‭-‬المدرسة‭ ‬الحزبية‭ ‬العليا،‭ ‬وكنت‭ ‬على‭ ‬أتم‭ ‬الاستعداد‭ ‬للمشاركة‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬مهما‭ ‬كان‭ ‬متواضعاً‭ ‬من‭ ‬أجل‭ ‬إعادة‭ ‬بناء‭ ‬الحزب‭ ‬وتضميد‭ ‬جراحه. ‬وقع‭ ‬عليّ‭ ‬الاختيار‭ ‬للتوجه‭ ‬مع‭ ‬اثنين‭ ‬آخرين‭ ‬من‭ ‬أعضاء‭ ‬الحزب‭ ‬كدفعة‭ ‬أولى‭ ‬إلى‭ ‬إيران‭ ‬لجعلها‭ ‬محطة‭ ‬لعودة‭ ‬كوادر‭ ‬الحزب‭ ‬من‭ ‬الخارج‭ ‬إلى‭ ‬العراق‭ ‬ومنفذا‭ ‬لعلاج‭ ‬وإنقاذ‭ ‬من‭ ‬تعرّض‭ ‬للإرهاب‭ ‬على‭ ‬يد‭ ‬الانقلابيين،‭ ‬أو‭ ‬ممّن‭ ‬اضطر‭ ‬إلى‭ ‬الهروب‭ ‬إلى‭ ‬الأراضي‭ ‬الإيرانية. ‬ومن‭ ‬بين‭ ‬الرفاق‭ ‬الثلاثة‭ ‬الذين‭ ‬وقع‭ ‬عليهم‭ ‬الاختيار‭ ‬بالتوجه‭ ‬إلى‭ ‬إيران‭ ‬هم‭ ‬كل‭ ‬من‭ ‬بهاءالدين‭ ‬نوري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يدرس‭ ‬معنا‭ ‬ولم‭ ‬يكمل‭ ‬دراسته‭ ‬بسبب‭ ‬مرضه. ‬وأما‭ ‬الآخر‭ ‬فهو‭ ‬فرج‭ ‬محمود،‭ ‬السجين‭ ‬السابق‭ ‬في‭ ‬العهد‭ ‬الملكي‭ ‬وطالب‭ ‬الدراسات‭ ‬العليا‭ ‬في‭ ‬فرع‭ ‬الكيمياء‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬معاهد‭ ‬موسكو‭ ‬آنذاك‭ ‬وأنا‭.‬

وهكذا‭ ‬خطوت‭ ‬خطوة‭ ‬أخرى‭ ‬صوب‭ ‬الاقتراب‭ ‬من‭ ‬إيران‭ ‬والأحداث‭ ‬الإيرانية‭ ‬بدون‭ ‬تخطيط‭ ‬مسبق‭ ‬لذلك. ‬وبالفعل‭ ‬ففي‭ ‬بداية‭ ‬أيلول‭ ‬عام‭ ‬1963‭ ‬أُبلغت‭ ‬بالاستعداد‭ ‬للسفر‭ ‬ومعي‭ ‬بهاءالدين‭ ‬نوري‭ ‬إلى‭ ‬پراگ،‭ ‬العاصمة‭ ‬التشيكية،‭ ‬كمحطة‭ ‬أولى‭ ‬للاستعداد‭ ‬لحين‭ ‬التوجه‭ ‬إلى‭ ‬إيران. ‬وفي‭ ‬يوم‭ ‬12‭ ‬أيلول‭ ‬أبلغنا‭ ‬المرحوم‭ ‬ثابت‭ ‬حبيب‭ ‬العاني‭ ‬أن‭ ‬موعد‭ ‬السفر‭ ‬سيكون‭ ‬غداً. ‬وخرج‭ ‬المرحوم‭ ‬أبو‭ ‬حسان‭ ‬معي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬مخازن‭ ‬العاصمة‭ ‬موسكو‭ ‬لشراء‭ ‬ما‭ ‬قد‭ ‬أحتاجه‭ ‬في‭ ‬سفرتنا. ‬وتذكرت‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬يوم‭ ‬عيد‭ ‬ميلادي‭ ‬الخامس‭ ‬والعشرين. ‬وأثناء‭ ‬زيارتي‭ ‬لمن‭ ‬تبقى‭ ‬من‭ ‬المجموعة‭ ‬العراقية‭ ‬في‭ ‬المدرسة،‭ ‬أخبرتني‭ ‬العزيزة‭ ‬المرحومة‭ ‬الدكتورة‭ ‬نزيهة‭ ‬الدليمي‭ ‬بدعوتي‭ ‬لحفلة‭ ‬شاي‭ ‬للوداع‭ ‬في‭ ‬غرفتها. ‬خمنت‭ ‬أنها‭ ‬قد‭ ‬كانت‭ ‬على‭ ‬علم‭ ‬بيوم‭ ‬ميلادي‭ ‬واستغلت‭ ‬فرصة‭ ‬سفرنا‭ ‬لكي‭ ‬نحتفل،‭ ‬وإن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬لدينا‭ ‬أيّ‭ ‬مزاج‭ ‬للاحتفال‭ ‬بعد‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬جرى. ‬وفي‭ ‬مساء‭ ‬ذلك‭ ‬اليوم‭ ‬رن‭ ‬جرس‭ ‬التلفون‭ ‬في‭ ‬غرفتي‭ ‬الصغيرة‭ ‬في‭ ‬القسم‭ ‬الداخلي‭ ‬وإذا‭ ‬به‭ ‬أخي‭ ‬عبدالله‭ ‬الذي‭ ‬أخبرته‭ ‬بمغادرتي‭ ‬موسكو‭ ‬إلى‭ ‬جهة‭ ‬لم‭ ‬أحدّدها‭ ‬له. ‬فوجئ‭ ‬بالخبر‭ ‬وأصرّ‭ ‬على‭ ‬اللقاء‭ ‬فوراً‭ ‬وكان‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬ودّعته‭ ‬في‭ ‬موسكو. ‬كان‭ ‬أخي‭ ‬العزيز‭ ‬عبد‭ ‬الله‭ ‬حبه‭ ‬في‭ ‬بعثة‭ ‬دراسية‭ ‬على‭ ‬نفقة‭ ‬وزارة‭ ‬التربية‭ ‬والتعليم‭ ‬العراقية‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الإسبرانت‭-‬‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬المسرح‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬نال‭ ‬في‭ ‬العراق‭ ‬درجة‭ ‬البكالوريوس‭ ‬في‭ ‬اللغة‭ ‬الإنكليزية‭ ‬من‭ ‬كلية‭ ‬الآداب‭ ‬والعلوم،‭ ‬وأنهى‭ ‬معهد‭ ‬الفنون‭ ‬الجميلة‭ ‬في‭ ‬قسم‭ ‬المسرح. ‬وفي‭ ‬موسكو‭ ‬انخرط‭ ‬عبدالله‭ ‬في‭ ‬أشهر‭ ‬معهد‭ ‬مسرحي‭ ‬في‭ ‬روسيا‭ ‬وهو‭ ‬معهد‭ ‬åگيتيسò،‭ ‬معهد‭ ‬الدولة‭ ‬للدراسات‭ ‬المسرحية‭.‬


لوحة: سعد يكن

تربطني‭ ‬بأخي‭ ‬عبدالله‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬وشائج‭ ‬الأخوّة‭ ‬والقرابة‭ ‬إلى‭ ‬علاقات‭ ‬صداقة‭ ‬وودّ‭ ‬حميمين‭ ‬تمتد‭ ‬إلى‭ ‬هذه‭ ‬اللحظة. ‬التقينا‭ ‬في‭ ‬مكان‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬وقسمها‭ ‬الداخلي‭ ‬وقد‭ ‬فوجئ‭ ‬بالسفر. ‬وبقينا‭ ‬صامتين‭ ‬ونحن‭ ‬نخطو‭ ‬خطوات‭ ‬ثقيلة،‭ ‬ولسان‭ ‬حالنا‭ ‬يقول‭ ‬هل‭ ‬سنلتقي‭ ‬أم‭ ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬هو‭ ‬اللقاء‭ ‬الأخير؟‭ ‬إن‭ ‬لعبدالله‭ ‬طبعاً‭ ‬هادئاً‭ ‬وقليل‭ ‬الانفعال،‭ ‬بل‭ ‬ولم‭ ‬أره‭ ‬منفعلاً‭ ‬طوال‭ ‬حياتي. ‬إلاّ‭ ‬أن‭ ‬صمته‭ ‬الثقيل‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬اللحظات‭ ‬كان‭ ‬له‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬معنى،‭ ‬وينطوي‭ ‬على‭ ‬انفعالات‭ ‬عميقة. ‬توادعنا‭ ‬بالقبل‭ ‬وافترقنا. ‬عدت‭ ‬إلى‭ ‬القسم‭ ‬الداخلي‭ ‬لأتلقّى‭ ‬قسطاً‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬استعداداً‭ ‬للسفر،‭ ‬وغفوت. ‬وفجأة‭ ‬أيقظني‭ ‬رنين‭ ‬التلفون‭ ‬في‭ ‬وقت‭ ‬متأخر‭ ‬من‭ ‬الليل. ‬كان‭ ‬صوت‭ ‬أخي‭ ‬من‭ ‬جديد،‭ ‬ويدعوني‭ ‬للقاء‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬في‭ ‬محطة‭ ‬مترو‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬المدرسة‭ ‬وقسمها‭ ‬الداخلي‭ ‬وهي‭ ‬محطة‭ ‬“نوفوسلوبودسكايا”. ‬ارتديت‭ ‬ملابسي‭ ‬على‭ ‬عجل‭ ‬وتوجهت‭ ‬نحو‭ ‬المحطة‭ ‬لأرى‭ ‬أخي‭ ‬عند‭ ‬البوابة. ‬رأيته‭ ‬ينظر‭ ‬بحنان‭ ‬ورقة‭ ‬وانفعال،‭ ‬وطلب‭ ‬مني‭ ‬أن‭ ‬نتبادل‭ ‬ساعتينا‭ ‬لتبقى‭ ‬كذكرى‭ ‬الوصل‭ ‬والود‭ ‬بيننا‭ ‬في‭ ‬مستقبلنا‭ ‬المجهول. ‬وودعنا‭ ‬بعضنا‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وذهب‭ ‬كل‭ ‬في‭ ‬طريقه‭.‬

في‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬توجهنا،‭ ‬بهاءالدين‭ ‬نوري‭ ‬وأنا،‭ ‬إلى‭ ‬مطار‭ ‬شيريميتوفا‭ ‬في‭ ‬ضواحي‭ ‬موسكو‭ ‬لتقلنا‭ ‬الطائرة‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬التشيكية‭ ‬پراگ. ‬كان‭ ‬في‭ ‬استقبالنا‭ ‬المرحوم‭ ‬حسين‭ ‬سلطان‭ ‬وشخص‭ ‬جيكي،‭ ‬ثم‭ ‬اتجهنا‭ ‬جميعاً‭ ‬إلى‭ ‬خارج‭ ‬مدينة‭ ‬پراگ. ‬توجهنا‭ ‬نحو‭ ‬غابة‭ ‬شاسعة‭ ‬تحيط‭ ‬بمدينة‭ ‬“ملادابوليسلاف”،‭ ‬لنستقر‭ ‬في‭ ‬كوخ‭ ‬خشبي‭ ‬معزول‭ ‬يستخدمه‭ ‬هواة‭ ‬الصيد‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬الغابة. ‬وبعد‭ ‬أيام‭ ‬التحق‭ ‬بنا‭ ‬فرج‭ ‬محمود‭ ‬قادماً‭ ‬من‭ ‬موسكو‭ ‬ليصبح‭ ‬فريقنا‭ ‬مكوناً‭ ‬من‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشخاص. ‬مررنا‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬إعداد‭ ‬لعملنا‭ ‬اللاحق‭ ‬وبمساعدة‭ ‬من‭ ‬أحد‭ ‬خبراء‭ ‬العمل‭ ‬السرّي‭ ‬في‭ ‬الحزب‭ ‬الشيوعي‭ ‬التشيكوسلوفاكي‭ ‬ممن‭ ‬كانوا‭ ‬يعملون‭ ‬سراً‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬الاحتلال‭ ‬النازي. ‬وفي‭ ‬الحقيقة‭ ‬لم‭ ‬تزدنا‭ ‬محاضراته‭ ‬شيئاً‭ ‬كثيراً‭ ‬على‭ ‬ما‭ ‬كسبناه‭ ‬أثناء‭ ‬تجربتنا‭ ‬في‭ ‬العمل‭ ‬السرّي،‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬الحزب‭ ‬يعمل‭ ‬بسرية‭ ‬أثناء‭ ‬العهد‭ ‬الملكي،‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قراءتنا‭ ‬لبعض‭ ‬المؤلفات‭ ‬المتعلقة‭ ‬بنشطاء‭ ‬العمل‭ ‬السري‭ ‬في‭ ‬أحزاب‭ ‬مختلفة،‭ ‬أو‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التجارب‭ ‬التي‭ ‬اطلعنا‭ ‬عليها‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬قراءة‭ ‬الكتب‭ ‬البوليسية‭ ‬مثل‭ ‬قصص‭ ‬آرسين‭ ‬لوپين‭ ‬في‭ ‬سنوات‭ ‬المراهقة. ‬وخلال‭ ‬هذه‭ ‬الفترة‭ ‬اطّلعنا‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬ممارسات‭ ‬السلطات‭ ‬النازية‭ ‬ضد‭ ‬المواطنين‭ ‬التشيك‭ ‬في‭ ‬فترة‭ ‬الاحتلال‭ ‬النازي‭ ‬لتشيكوسلوفاكيا،‭ ‬وخاصة‭ ‬مراكز‭ ‬التعذيب‭ ‬والاعتقال‭ ‬ومعسكرات‭ ‬العمل‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬پلزن. ‬وبعد‭ ‬ثلاثة‭ ‬أشهر‭ ‬تقريباً‭ ‬كنت‭ ‬أول‭ ‬من‭ ‬غادر‭ ‬تشيكوسلوفاكيا‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬عام‭ ‬1963‭ ‬إلى‭ ‬بيروت. ‬وكان‭ ‬في‭ ‬وداعي‭ ‬المرحوم‭ ‬ثابت‭ ‬حبيب‭ ‬العاني‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬على‭ ‬صلة‭ ‬بي‭ ‬عن‭ ‬طريق‭ ‬المراسلة‭ ‬طوال‭ ‬فترة‭ ‬وجودي‭ ‬طليقا‭ ‬في‭ ‬طهران،‭ ‬وحتى‭ ‬آخر‭ ‬رسالة‭ ‬كتبتها‭ ‬له‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬الإيرانية‭.‬

وصلت‭ ‬بيروت‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬كانون‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬عام‭ ‬1963،‭ ‬أي‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬عبدالسلام‭ ‬عارف‭ ‬على‭ ‬حكم‭ ‬البعث‭ ‬والإطاحة‭ ‬بحكمهم. ‬وكانت‭ ‬العاصمة‭ ‬اللبنانية‭ ‬تعج‭ ‬بالهاربين‭ ‬من‭ ‬جحيم‭ ‬الانقلابيين‭ ‬في‭ ‬بغداد. ‬واضطررت‭ ‬إلى‭ ‬قضاء‭ ‬جلّ‭ ‬أوقاتي‭ ‬في‭ ‬الفندق‭ ‬المتواضع‭ ‬في‭ ‬قلب‭ ‬بيروت‭ ‬لكي‭ ‬أتفادى‭ ‬الاحتكاك‭ ‬بالعراقيين. ‬ومن‭ ‬المفارقة‭ ‬أنني‭ ‬وعندما‭ ‬كنت‭ ‬أطل‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬من‭ ‬شباك‭ ‬الفندق‭ ‬على‭ ‬الشارع‭ ‬لمحت‭ ‬أخي‭ ‬الدكتور‭ ‬فيصل‭ ‬حبه،‭ ‬الذي‭ ‬وقع‭ ‬أسير‭ ‬الانقلابيين‭ ‬وخاض‭ ‬تجربة‭ ‬مريرة‭ ‬في‭ ‬قصر‭ ‬النهاية‭ ‬سىء‭ ‬الصيت‭ ‬وهرب‭ ‬من‭ ‬بغداد‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬عبدالسلام‭ ‬عارف،‭ ‬وهو‭ ‬يسير‭ ‬في‭ ‬الشارع‭ ‬المحاذي‭ ‬للفندق‭ ‬برفقة‭ ‬الفنان‭ ‬يوسف‭ ‬العاني‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬تحرّر‭ ‬للتو‭ ‬من‭ ‬سجن‭ ‬الانقلابيين. ‬بالطبع‭ ‬لم‭ ‬أجرؤ‭ ‬على‭ ‬النزول‭ ‬إلى‭ ‬الشارع‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬رغم‭ ‬أنني‭ ‬كنت‭ ‬مفعماً‭ ‬بالشوق‭ ‬لألتقي‭ ‬بأخي‭ ‬وأحتضنه،‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬خرج‭ ‬للتو‭ ‬من‭ ‬تجربته‭ ‬المرعبة‭ ‬بعد‭ ‬انقلاب‭ ‬شباط،‭ ‬وذلك‭ ‬تكتماً‭ ‬على‭ ‬مهمتي‭ ‬السرية‭ ‬في‭ ‬إيران‭.‬

توجهت‭ ‬إلى‭ ‬السفارة‭ ‬الإيرانية‭ ‬للحصول‭ ‬على‭ ‬تأشيرة‭ ‬الدخول‭ ‬التي‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬الصعب‭ ‬على‭ ‬المواطن‭ ‬العراقي‭ ‬الحصول‭ ‬عليها. ‬ولكن‭ ‬تذرّعي‭ ‬بزيارة‭ ‬خالي‭ ‬في‭ ‬طهران‭ ‬قد‭ ‬خفف‭ ‬من‭ ‬إصرار‭ ‬المسؤولين‭ ‬في‭ ‬السفارة‭ ‬الإيرانية‭ ‬على‭ ‬رفض‭ ‬إعطائي‭ ‬التأشيرة. ‬ولكن‭ ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬استغرقت‭ ‬الموافقة‭ ‬على‭ ‬التأشيرة‭ ‬وقتاً‭ ‬يزيد‭ ‬على‭ ‬الشهر. ‬ففي‭ ‬أواخر‭ ‬كانون‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬العام‭ ‬نفسه‭ ‬حصلت‭ ‬على‭ ‬التأشيرة‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وحجزت‭ ‬على‭ ‬الفور‭ ‬مقعداً‭ ‬على‭ ‬طائرة‭ ‬ك‭.‬إل‭.‬أم. ‬الهولندية‭ ‬المتجهة‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬الإيرانية‭ ‬طهران. ‬وعند‭ ‬الانتظار‭ ‬في‭ ‬صالة‭ ‬مطار‭ ‬بيروت‭ ‬علمت‭ ‬أن‭ ‬الطائرة‭ ‬ستحط‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬بغداد. ‬ولذا‭ ‬تجاهلت‭ ‬دعوات‭ ‬مكبّرات‭ ‬الصوت‭ ‬في‭ ‬المطار‭ ‬بالتوجه‭ ‬إلى‭ ‬الطائرة‭ ‬تفادياً‭ ‬للمرور‭ ‬في‭ ‬بغداد. ‬وترتب‭ ‬عليّ‭ ‬تغيير‭ ‬الحجز‭ ‬وعاودت‭ ‬التوجه‭ ‬مباشرة‭ ‬إلى‭ ‬طهران‭ ‬على‭ ‬متن‭ ‬طائرة‭ ‬پان‭ ‬أميركان‭ ‬متجاوزاً‭ ‬الهبوط‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬بغداد‭.‬

وصلت‭ ‬طهران‭ ‬وللمرة‭ ‬الأولى‭ ‬في‭ ‬حياتي‭ ‬في‭ ‬أواخر‭ ‬كانون‭ ‬الأول‭ ‬عام‭ ‬1963. ‬وهكذا‭ ‬بدأت‭ ‬مرحلة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬التعرف‭ ‬على‭ ‬إيران‭ ‬وشعبها. ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬معي‭ ‬عند‭ ‬وصولي‭ ‬إلى‭ ‬طهران‭ ‬سوى‭ ‬عنوان‭ ‬خالي‭ ‬الذي‭ ‬بقي‭ ‬في‭ ‬ذاكرتي‭ ‬منذ‭ ‬سنوات‭ ‬الصبا،‭ ‬“سرچشمه‭-‬جنب‭ ‬حمام‭ ‬سرچشمه”،‭ ‬وتعني‭ ‬بالعربية‭ ‬بجانب‭ ‬حمام‭ ‬رأس‭ ‬النبع‭! ‬كانت‭ ‬معرفتي‭ ‬باللغة‭ ‬الفارسية‭ ‬تكاد‭ ‬تكون‭ ‬في‭ ‬مستوى‭ ‬الصفر. ‬إذ‭ ‬لم‭ ‬أكن‭ ‬أتلفظ‭ ‬إلاَ‭ ‬بضع‭ ‬كلمات‭ ‬كان‭ ‬يرددها‭ ‬ابن‭ ‬خالي‭ ‬عندما‭ ‬كان‭ ‬يأتي‭ ‬إلى‭ ‬بغداد‭ ‬مع‭ ‬والده‭ ‬في‭ ‬الخمسينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي،‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬تعلمته‭ ‬من‭ ‬“كتاب‭ ‬تعلم‭ ‬الفارسية‭ ‬في‭ ‬بضعة‭ ‬أيام”‭ ‬في‭ ‬پراگ. ‬حطّت‭ ‬بنا‭ ‬الطائرة‭ ‬على‭ ‬مدرج‭ ‬مطار‭ ‬مهرآباد،‭ ‬وهو‭ ‬مطار‭ ‬العاصمة‭ ‬الإيرانية‭ ‬طهران. ‬وعندما‭ ‬نزلت‭ ‬من‭ ‬الطائرة‭ ‬كان‭ ‬الوقت‭ ‬يكاد‭ ‬يقترب‭ ‬من‭ ‬الفجر‭ ‬وأحسست‭ ‬ببرودة‭ ‬الجو‭ ‬القارس. ‬كان‭ ‬المطار‭ ‬مكتسياً‭ ‬باللون‭ ‬الأبيض‭ ‬الناصع‭ ‬بسبب‭ ‬هطول‭ ‬الثلوج‭ ‬بكثافة‭ ‬وتراكمها. ‬ذهبت‭ ‬كالعادة‭ ‬إلى‭ ‬ضابط‭ ‬الجوازات‭ ‬وسلمته‭ ‬جواز‭ ‬سفري‭ ‬العراقي. ‬غادر‭ ‬الجميع‭ ‬مكتب‭ ‬فحص‭ ‬الجوازات‭ ‬باستثنائي،‭ ‬حيث‭ ‬كان‭ ‬ضابط‭ ‬الجوازات‭ ‬يقلب‭ ‬جواز‭ ‬سفري‭ ‬العراقي‭ ‬ويتصل‭ ‬بالتلفون. ‬جلست‭ ‬بقلق‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬زوايا‭ ‬المطار‭ ‬بانتظار‭ ‬انتهاء‭ ‬الإجراءات. ‬ولفت‭ ‬نظري‭ ‬وأثار‭ ‬استغرابي‭ ‬سقف‭ ‬المطار‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يزينه‭ ‬في‭ ‬الوسط‭ ‬الصليب‭ ‬المعقوف‭ ‬وهو‭ ‬شعار‭ ‬الحزب‭ ‬النازي‭ ‬الألماني. ‬وعرفت‭ ‬بعدئذ‭ ‬أن‭ ‬المطار،‭ ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المنشآت‭ ‬الهامة‭ ‬الأخرى‭ ‬مثل‭ ‬المحطة‭ ‬المركزية‭ ‬للسكك‭ ‬الحديدية،‭ ‬قد‭ ‬تم‭ ‬بناؤه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬ألمانيا‭ ‬النازية‭ ‬في‭ ‬الثلاثينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬عندما‭ ‬سادت‭ ‬العلاقات‭ ‬الحميمة‭ ‬بين‭ ‬هتلر‭ ‬ورضا‭ ‬شاه‭ ‬حاكم‭ ‬إيران‭ ‬السابق. ‬لقد‭ ‬بُني‭ ‬هذا‭ ‬السقف‭ ‬بشكل‭ ‬تصعب‭ ‬معه‭ ‬إزالة‭ ‬هذا‭ ‬الصليب‭ ‬بدون‭ ‬تدمير‭ ‬السقف‭ ‬كله. ‬ومن‭ ‬باب‭ ‬الصدف‭ ‬أن‭ ‬ينهار‭ ‬السقف‭ ‬كلياً‭ ‬في‭ ‬عقد‭ ‬السبعينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬بفعل‭ ‬تراكم‭ ‬الثلوج‭ ‬ليقضي‭ ‬على‭ ‬أيّ‭ ‬أثر‭ ‬للصليب‭ ‬المعقوف‭ ‬في‭ ‬مبنى‭ ‬المطار. ‬بعد‭ ‬مرور‭ ‬قرابة‭ ‬نصف‭ ‬الساعة،‭ ‬استدعيت‭ ‬إلى‭ ‬مكتب‭ ‬الأمن‭ ‬في‭ ‬مطار‭ ‬مهرآباد. ‬وبدأ‭ ‬معي‭ ‬شبه‭ ‬تحقيق‭ ‬عن‭ ‬سبب‭ ‬قدومي‭ ‬إلى‭ ‬إيران‭ ‬ومن‭ ‬أيّ‭ ‬بلد‭ ‬أتيت‭..‬الخ. ‬وأوضحت‭ ‬للضابط‭ ‬أنني‭ ‬قادم‭ ‬لزيارة‭ ‬خالي‭ ‬وأني‭ ‬أتيت‭ ‬من‭ ‬پراگ‭ ‬حيث‭ ‬أنهيت‭ ‬دراستي‭ ‬العلمية‭!‬،‭ ‬حيث‭ ‬لم‭ ‬يختم‭ ‬جوازي‭ ‬بأيّ‭ ‬ختم‭ ‬سوفييتي. ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬وفي‭ ‬ظل‭ ‬النظام‭ ‬الشاهنشاهي،‭ ‬فإن‭ ‬مجرد‭ ‬المرور‭ ‬بأيّ‭ ‬دولة‭ ‬أوروبية‭ ‬شرقية‭ ‬يثير‭ ‬الشك‭ ‬لدى‭ ‬الأجهزة‭ ‬الأمنية‭ ‬الإيرانية‭ ‬وخاصة‭ ‬جهاز‭ ‬الساواك‭ ‬المعروف‭ ‬بقسوته،‭ ‬وذلك‭ ‬بسبب‭ ‬وجود‭ ‬أعداد‭ ‬ضخمة‭ ‬من‭ ‬اليساريين‭ ‬الإيرانيين‭ ‬كلاجئين‭ ‬سياسيين‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬البلدان‭.‬

بعد‭ ‬مرور‭ ‬ثلاث‭ ‬ساعات،‭ ‬سمحوا‭ ‬لي‭ ‬بمغادرة‭ ‬المطار‭ ‬وتوجهت‭ ‬إلى‭ ‬أحد‭ ‬فنادق‭ ‬الدرجة‭ ‬الثالثة‭ ‬لأبقى‭ ‬فيه‭ ‬بعضاً‭ ‬من‭ ‬الوقت‭ ‬ريثما‭ ‬أتدبّر‭ ‬أموري‭ ‬وألتقي‭ ‬بخالي. ‬في‭ ‬صباح‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬خرجت‭ ‬من‭ ‬الفندق‭ ‬لأستكشف‭ ‬المدينة‭ ‬وأتجول‭ ‬في‭ ‬بعض‭ ‬مناطقها‭ ‬بهدف‭ ‬أن‭ ‬تتكون‭ ‬لديّ‭ ‬فكرة‭ ‬أولية‭ ‬عن‭ ‬العاصمة‭ ‬الإيرانية‭ ‬طهران. ‬ومن‭ ‬تجربتي‭ ‬فإن‭ ‬أفضل‭ ‬وسيلة‭ ‬وأرخصها‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬المدينة‭ ‬وعدم‭ ‬الضياع‭ ‬في‭ ‬شوارعها‭ ‬المتشابهة‭ ‬هو‭ ‬ركوب‭ ‬الباصات‭ ‬بمختلف‭ ‬أرقامها‭ ‬ذهاباً‭ ‬وإياباً‭ ‬وبمختلف‭ ‬الاتجاهات‭ ‬من‭ ‬أول‭ ‬خط‭ ‬الباص‭ ‬وحتى‭ ‬نهايته. ‬وعلى‭ ‬النقيض‭ ‬من‭ ‬كلّ‭ ‬تصوراتي‭ ‬السابقة،‭ ‬فقد‭ ‬رأيت‭ ‬طهران‭ ‬مدينة‭ ‬كبيرة‭ ‬وعصرية‭ ‬وجميلة‭ ‬ونظيفة‭ ‬قياساً‭ ‬بالمدن‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية‭ ‬التي‭ ‬زرتها. ‬ومما‭ ‬يزيدها‭ ‬جمالاً‭ ‬هو‭ ‬موقعها‭ ‬على‭ ‬سفح‭ ‬جبل‭ ‬البرز‭ ‬الشاهق‭ ‬الذي‭ ‬يكتسي‭ ‬بالثلوج‭ ‬خلال‭ ‬أيام‭ ‬الشتاء. ‬وتبقى‭ ‬قممه‭ ‬مكتسية‭ ‬بالثلوج‭ ‬أيضاً‭ ‬في‭ ‬أثناء‭ ‬فصل‭ ‬الصيف. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬جلب‭ ‬انتباهي‭ ‬من‭ ‬النظرة‭ ‬الأولى‭ ‬للمدينة‭ ‬هو‭ ‬أنها‭ ‬مجزأة‭ ‬إلى‭ ‬جزأين،‭ ‬فالجزء‭ ‬الشمالي‭ ‬منها‭ ‬تسكنه‭ ‬الفئات‭ ‬الثرية‭ ‬والمرفهة‭ ‬والوسطى. ‬أما‭ ‬القسم‭ ‬الجنوبي‭ ‬فيكتظّ‭ ‬بالفئات‭ ‬الكادحة‭ ‬والمعدمة‭ ‬والفقيرة‭ ‬والمهاجرة‭ ‬من‭ ‬الريف‭ ‬بحثاً‭ ‬عن‭ ‬لقمة‭ ‬العيش‭ ‬في‭ ‬العاصمة. ‬وهذه‭ ‬الظاهرة‭ ‬تعكس‭ ‬الهوة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬العميقة‭ ‬بين‭ ‬طبقات‭ ‬المجتمع‭ ‬والتي‭ ‬تتجاوز‭ ‬في‭ ‬ما‭ ‬نشاهده‭ ‬في‭ ‬طهران‭ ‬سائر‭ ‬المدن‭ ‬الشرق‭ ‬أوسطية‭ ‬الأخرى،‭ ‬إذا‭ ‬ما‭ ‬استثنينا‭ ‬القاهرة. ‬ومن‭ ‬الطبيعي‭ ‬أن‭ ‬تؤثر‭ ‬هذه‭ ‬الهوة‭ ‬والفرز‭ ‬الاجتماعي‭ ‬العميق‭ ‬على‭ ‬جزأي‭ ‬المدينة،‭ ‬ويتأثر‭ ‬جمال‭ ‬كلا‭ ‬الجزأين‭ ‬بالطبيعة‭ ‬الاجتماعية‭ ‬لسكانه‭ ‬واهتمام‭ ‬الدولة‭ ‬بالجزء‭ ‬الذي‭ ‬يقطنه‭ ‬الميسورون،‭ ‬أي‭ ‬شمال‭ ‬المدينة‭ ‬الذي‭ ‬يعرف‭ ‬بـ”شمرانات”‭ ‬الذي‭ ‬تقع‭ ‬فيه‭ ‬مصايف‭ ‬العاصمة‭ ‬سربند‭ ‬ودربند،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬تتجاهل‭ ‬السلطة‭ ‬القسم‭ ‬الجنوبي‭ ‬الذي‭ ‬يقطنه‭ ‬المعدمون. ‬ويمتد‭ ‬الجزء‭ ‬الجنوبي‭ ‬من‭ ‬المدينة‭ ‬عبر‭ ‬بساتين‭ ‬ومزارع‭ ‬تروى‭ ‬من‭ ‬المياه‭ ‬المنحدرة‭ ‬من‭ ‬جبال‭ ‬البرز‭ ‬ليخترق‭ ‬مدينة‭ ‬“ري”‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تضم‭ ‬ضريح‭ ‬الإمام‭ ‬محمد‭ ‬بن‭ ‬موسى‭ ‬الرضا،‭ ‬وهي‭ ‬المدينة‭ ‬التي‭ ‬ولد‭ ‬فيها‭ ‬العلامة‭ ‬والطبيب‭ ‬المعروف‭ ‬في‭ ‬القرون‭ ‬الوسطى‭ ‬أبوبكر‭ ‬الرازي‭.‬

‮ ‬‭ ‬وخلال‭ ‬تجوالي‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬التالي‭ ‬في‭ ‬شوارع‭ ‬طهران‭ ‬لم‭ ‬أنس‭ ‬مهمة‭ ‬البحث‭ ‬عن‭ ‬بيت‭ ‬الخال‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬طهران‭ ‬وفي‭ ‬محلة‭ ‬شعبية‭ ‬معروفة‭ ‬تدعى‭ ‬‭-‬سر‭ ‬چشمه‭-‬‭ ‬أي‭ ‬رأس‭ ‬النبع. ‬سألت‭ ‬أحد‭ ‬المارة‭ ‬مستعيناً‭ ‬بالكلمات‭ ‬الفارسية‭ ‬القليلة‭ ‬التي‭ ‬أعرفها‭ ‬عن‭ ‬العنوان،‭ ‬ولشدة‭ ‬استغرابي‭ ‬وحتى‭ ‬قلقي‭ ‬أجابني‭ ‬هذا‭ ‬الكهل‭ ‬بلغة‭ ‬روسية‭ ‬ذات‭ ‬لكنة‭ ‬فارسية‭! ‬وفي‭ ‬الواقع‭ ‬رحت‭ ‬أضرب‭ ‬أخماساً‭ ‬بأسداس. ‬فمن‭ ‬أين‭ ‬لهذا‭ ‬الشخص‭ ‬أن‭ ‬يعرف‭ ‬أنني‭ ‬أتكلم‭ ‬الروسية؟‭ ‬هل‭ ‬هي‭ ‬محض‭ ‬صدفة‭ ‬أم‭ ‬أن‭ ‬الرجل‭ ‬يعمل‭ ‬وكيلاً‭ ‬للمخابرات‭ ‬الإيرانية،‭ ‬وبذلك‭ ‬فإنني‭ ‬تحت‭ ‬المراقبة؟‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬الهواجس‭ ‬والشكوك‭ ‬تبددت‭ ‬لاحقاً‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬عرفت‭ ‬أن‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬كبار‭ ‬السن،‭ ‬وخاصة‭ ‬في‭ ‬مناطق‭ ‬شمال‭ ‬إيران‭ ‬المحاذية‭ ‬للاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬يتقنون‭ ‬اللغة‭ ‬الروسية‭ ‬بسبب‭ ‬وجود‭ ‬الجيش‭ ‬الروسي‭ ‬قبل‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر،‭ ‬وبعد‭ ‬ذلك‭ ‬الجيش‭ ‬السوفييتي‭ ‬خلال‭ ‬احتلال‭ ‬الحلفاء‭ ‬لإيران‭ ‬في‭ ‬25‭ ‬آب‭ ‬عام‭ ‬1941‭ ‬أثناء‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية،‭ ‬هذا‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬الروابط‭ ‬التاريخية‭ ‬التي‭ ‬تربط‭ ‬البلدين‭ ‬الجارين. ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬ذلك‭ ‬هناك‭ ‬جالية‭ ‬روسية‭ ‬تحتفظ‭ ‬بكنائس‭ ‬ومكتبات‭ ‬ومراكز‭ ‬اجتماعية‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬الروس‭ ‬البيض‭ ‬الهاربين‭ ‬من‭ ‬بلادهم‭ ‬بعد‭ ‬اندلاع‭ ‬ثورة‭ ‬أكتوبر. ‬فقد‭ ‬كانت‭ ‬إيران‭ ‬أحد‭ ‬مراكز‭ ‬لجوء‭ ‬وهروب‭ ‬المعارضين‭ ‬للنظام‭ ‬السوفييتي‭ ‬ومحطة‭ ‬هامة‭ ‬للنشاط‭ ‬الغربي‭ ‬المعادي‭ ‬للسوفييت. ‬تملّصت‭ ‬بسرعة‭ ‬من‭ ‬الرجل‭ ‬ورحت‭ ‬أسير‭ ‬بسرعة‭ ‬صوب‭ ‬الاتجاه‭ ‬الذي‭ ‬أشار‭ ‬إليه‭.‬

‮ ‬‭ ‬‮ ‬بعد‭ ‬الاستفسار‭ ‬من‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬المارة‭ ‬اقتربت‭ ‬من‭ ‬البيت. ‬كانت‭ ‬واجهة‭ ‬البيت‭ ‬تشبه‭ ‬سائر‭ ‬البيوت‭ ‬الشرقية‭ ‬والإيرانية،‭ ‬حيث‭ ‬السياج‭ ‬المرتفع‭ ‬والذي‭ ‬لا‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬نرى‭ ‬شيئاً‭ ‬في‭ ‬داخله‭ ‬من‭ ‬خارج‭ ‬البيت. ‬طرقت‭ ‬الباب‭ ‬فلاح‭ ‬لي‭ ‬بعد‭ ‬فج‭ ‬باب‭ ‬الدار‭ ‬وبعد‭ ‬مضي‭ ‬وقت‭ ‬طويل‭ ‬وجه‭ ‬نسائي‭ ‬محجّب‭ ‬بما‭ ‬يعرف‭ ‬في‭ ‬إيران‭ ‬بـ”الچادر”. ‬كان‭ ‬هذا‭ ‬الوجه‭ ‬يشبه‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬بعيد‭ ‬قريبات‭ ‬لي‭ ‬في‭ ‬بغداد. ‬سألتها‭ ‬عن‭ ‬الخال‭ ‬فأجابتني،‭ ‬يبدو‭ ‬أنها‭ ‬كانت‭ ‬بنت‭ ‬خالي،‭ ‬بلغة‭ ‬فارسية‭ ‬لم‭ ‬أفهم‭ ‬جميع‭ ‬مفرداتها،‭ ‬ولكني‭ ‬عرفت‭ ‬من‭ ‬لغة‭ ‬الإشارات‭ ‬وبعض‭ ‬الكلمات‭ ‬العربية‭ ‬التي‭ ‬تعرفها‭ ‬بنت‭ ‬الخال‭ ‬أنه‭ ‬في‭ ‬مقر‭ ‬عمله‭ ‬وهو‭ ‬متجر‭ ‬لبيع‭ ‬الأدوات‭ ‬الاحتياطية‭ ‬للسيارات. ‬وفي‭ ‬نهاية‭ ‬المطاف‭ ‬تعرفت‭ ‬بنت‭ ‬الخال‭ ‬على‭ ‬هويتي‭ ‬وأدخلتني‭ ‬البيت‭ ‬إلى‭ ‬غرفة‭ ‬الضيوف‭ ‬بانتظار‭ ‬مجيء‭ ‬الخال‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬اتصلوا‭ ‬به‭ ‬تلفونياً‭.‬

الورقة‭ ‬الثالثة

‮ ‬رحلة

‮ ‬بدأ‭ ‬شتاء‭ ‬عام‭ ‬1963‭-‬1964‭ ‬البارد‭ ‬جداً‭ ‬يطوي‭ ‬صفحاته،‭ ‬ولاحظت‭ ‬حركة‭ ‬غير‭ ‬عادية‭ ‬لدى‭ ‬أهالي‭ ‬طهران. ‬فقد‭ ‬أخذت‭ ‬طهران،‭ ‬شأنها‭ ‬شأن‭ ‬المدن‭ ‬الإيرانية‭ ‬الأخرى،‭ ‬تكتسب‭ ‬حلة‭ ‬الاحتفال‭ ‬برأس‭ ‬السنة‭ ‬الإيرانية‭ ‬الجديدة،‭ ‬أي‭ ‬عام‭ ‬1343‭ ‬الهجرية‭ ‬الشمسية،‭ ‬وما‭ ‬يطلق‭ ‬عليه‭ ‬عيد‭ ‬åالنوروزò،‭ ‬ويعني‭ ‬اليوم‭ ‬الجديد،‭ ‬أو‭ ‬“دورة‭ ‬السنة”‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬العراق. ‬ويقابل‭ ‬ذلك‭ ‬في‭ ‬التقويم‭ ‬الميلادي‭ ‬يوم‭ ‬الـ21‭ ‬من‭ ‬آذار‭/‬مارس،‭ ‬حيث‭ ‬يتساوى‭ ‬الليل‭ ‬والنهار. ‬إن‭ ‬الإيرانيين‭ ‬يستخدمون‭ ‬الآن‭ ‬التقويم‭ ‬الهجري‭ ‬الشمسي‭ ‬عوضاً‭ ‬عن‭ ‬التقويم‭ ‬الهجري‭ ‬القمري. ‬وقد‭ ‬جرى‭ ‬العمل‭ ‬بهذا‭ ‬التقويم‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1926‭ ‬ليحل‭ ‬محل‭ ‬التقويم‭ ‬الهجري‭ ‬القمري‭ ‬الذي‭ ‬كان‭ ‬يجري‭ ‬العمل‭ ‬به‭ ‬منذ‭ ‬عهد‭ ‬ملكشاه‭ ‬السلجوقي‭ ‬‭(‬465‭ ‬هـ‭ ‬‭-‬485‭ ‬هـ‭ ‬قمري‭)‬‭ ‬والذي‭ ‬عرف‭ ‬بالتقويم‭ ‬الجلالي. ‬علماً‭ ‬أن‭ ‬المبدأ‭ ‬يبقى‭ ‬لدى‭ ‬التقويمين‭ ‬هو‭ ‬تاريخ‭ ‬هجرة‭ ‬النبي‭ ‬من‭ ‬مكة‭ ‬إلى‭ ‬المدينة. ‬ويحتفل‭ ‬الإيرانيون‭ ‬في‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬فروردين؛‭ ‬أي‭ ‬21‭ ‬من‭ ‬آذار‭/‬مارس،‭ ‬باعتباره‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة. ‬إن‭ ‬هذا‭ ‬العيد‭ ‬مناسبة‭ ‬تقليدية‭ ‬وتقويم‭ ‬سنوي‭ ‬قديم‭ ‬لدى‭ ‬الفرس‭ ‬والأقوام‭ ‬الهندية‭ ‬الأوروبية. ‬ويعد‭ ‬هذا‭ ‬العيد‭ ‬أهم‭ ‬وأكبر‭ ‬الأعياد‭ ‬الوطنية‭ ‬الإيرانية‭.‬

‮ ‬وترتبط‭ ‬بهذا‭ ‬العيد‭ ‬تقاليد‭ ‬وعادات‭ ‬وأساطير‭ ‬كثيرة،‭ ‬أبرزها‭ ‬أسطورة‭ ‬كاوه‭ ‬الحداد‭ ‬والحاكم‭ ‬المستبد‭ ‬الضحاك. ‬وتحكي‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬عن‭ ‬تمكن‭ ‬كاوه‭ ‬الحداد‭ ‬من‭ ‬كسر‭ ‬شوكة‭ ‬الاستبداد‭ ‬وإزالة‭ ‬كابوس‭ ‬الظلم‭ ‬عن‭ ‬شعبه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أطاح‭ ‬بالضحاك‭ ‬المستبد. ‬وغالباً‭ ‬ما‭ ‬تربط‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬بواقع‭ ‬حال‭ ‬الشعب‭ ‬الإيراني‭ ‬في‭ ‬عهود‭ ‬تعرض‭ ‬الشعب‭ ‬للضيم‭ ‬وما‭ ‬أكثره،‭ ‬حيث‭ ‬يجد‭ ‬الضحاك‭ ‬المستبد‭ ‬شبيهاً‭ ‬له‭ ‬في‭ ‬الشاهنشاهات‭ ‬والحكام‭ ‬المستبدين‭ ‬في‭ ‬مختلف‭ ‬العصور. ‬إن‭ ‬هذه‭ ‬الأسطورة‭ ‬تحفّز‭ ‬الإيرانيين‭ ‬بل‭ ‬وشعوبا‭ ‬آرية‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬الشرق‭ ‬الأوسط‭ ‬على‭ ‬الثورة‭ ‬ضد‭ ‬ظالميهم. ‬وتسبق‭ ‬هذا‭ ‬العيد‭ ‬استعدادات‭ ‬من‭ ‬قبيل‭ ‬زرع‭ ‬الحنطة‭ ‬في‭ ‬الصحون‭ ‬التي‭ ‬توضع‭ ‬على‭ ‬مائدة‭ ‬العيد،‭ ‬ثم‭ ‬تؤخذ‭ ‬إلى‭ ‬البوادي‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة‭ ‬ليتم‭ ‬عقد‭ ‬أوراق‭ ‬الحنطة‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الصبايا‭ ‬والفتيات‭ ‬ليسعفهن‭ ‬الحظ‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬ولقاء‭ ‬المعشوق‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة. ‬وفي‭ ‬ليلة‭ ‬الأربعاء‭ ‬التي‭ ‬تسبق‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة،‭ ‬“شب‭ ‬چهار‭ ‬شنبه‭ ‬سوري”،‭ ‬يقوم‭ ‬الأهالي‭ ‬بتحضير‭ ‬أكوام‭ ‬الخشب‭ ‬والحطب‭ ‬لحرقها. ‬وما‭ ‬أن‭ ‬يتصاعد‭ ‬لهيب‭ ‬النار‭ ‬حتى‭ ‬يقوم‭ ‬الأهالي‭ ‬بالنط‭ ‬على‭ ‬النار‭ ‬مرددين‭ ‬عبارة‭ ‬“زردي‭ ‬من‭ ‬أز‭ ‬تو،‭ ‬سرخي‭ ‬تو‭ ‬أز‭ ‬من”،‭ ‬وما‭ ‬يعني‭ ‬بالعربية‭ ‬“اللون‭ ‬الشاحب‭ ‬الذي‭ ‬يكسو‭ ‬وجهي‭ ‬أقدمه‭ ‬لك،‭ ‬وأعطني‭ ‬لون‭ ‬لهيب‭ ‬النار‭ ‬الأحمر”. ‬إنه‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬انتهاء‭ ‬فصل‭ ‬الشتاء،‭ ‬فصل‭ ‬الركود‭ ‬والسبات‭ ‬وبدء‭ ‬فصل‭ ‬الربيع‭ ‬فصل‭ ‬النشاط‭ ‬والخصب‭ ‬والحياة‭ ‬والخضرة. ‬وترتبط‭ ‬بهذه‭ ‬المراسيم‭ ‬أساطير‭ ‬وأساطير. ‬فإذا‭ ‬لمس‭ ‬لهيب‭ ‬النار‭ ‬وحرق‭ ‬لباس‭ ‬من‭ ‬يقفز‭ ‬فوقها،‭ ‬فإن‭ ‬ذلك‭ ‬دليل‭ ‬على‭ ‬غلبة‭ ‬العدو‭ ‬على‭ ‬القافز‭ ‬وتعبير‭ ‬عن‭ ‬الحظ‭ ‬العاثر. ‬وإذا‭ ‬ما‭ ‬وقع‭ ‬الشخص‭ ‬وسط‭ ‬النار‭ ‬أثناء‭ ‬القفز‭ ‬فمعنى‭ ‬ذلك‭ ‬أن‭ ‬السعادة‭ ‬ستغمره‭ ‬خلال‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة. ‬أما‭ ‬إذا‭ ‬اصدر‭ ‬الحطب‭ ‬الأصوات‭ ‬أثناء‭ ‬الاحتراق‭ ‬فإن‭ ‬نصيب‭ ‬الرجل‭ ‬سيكون‭ ‬النجاح‭ ‬في‭ ‬رزقه،‭ ‬في‭ ‬حين‭ ‬سيكون‭ ‬نصيب‭ ‬المرأة‭ ‬الإنجاب. ‬وبعد‭ ‬أن‭ ‬تنتهي‭ ‬هذه‭ ‬المراسيم‭ ‬المثيرة‭ ‬وتقترب‭ ‬النار‭ ‬من‭ ‬الخمود،‭ ‬يقوم‭ ‬كل‭ ‬شخص‭ ‬بأخذ‭ ‬الرماد‭ ‬ويلفه‭ ‬بخرقة‭ ‬من‭ ‬ملابسه‭ ‬القديمة‭ ‬ثم‭ ‬يرميها‭ ‬في‭ ‬الجدول‭ ‬كتعبير‭ ‬عن‭ ‬إبعاد‭ ‬الغم‭ ‬والنحس‭ ‬عن‭ ‬شخصه‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة‭ ‬القادمة‭.‬

ومن‭ ‬التقاليد‭ ‬التي‭ ‬تمارسها‭ ‬الفتيات‭ ‬والصبايا‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الليلة‭ ‬هي‭ ‬مراسيم‭ ‬“قاشق‭ ‬زني”،‭ ‬أي‭ ‬الضرب‭ ‬بالملعقة. ‬حيث‭ ‬تقوم‭ ‬الفتيات‭ ‬والنساء‭ ‬بالعزف‭ ‬بواسطة‭ ‬الملاعق‭ ‬الخشبية‭ ‬وهن‭ ‬يمرقن‭ ‬الأزقة‭ ‬والحارات‭ ‬لجمع‭ ‬ما‭ ‬يتكرم‭ ‬به‭ ‬أهالي‭ ‬الحارة‭ ‬من‭ ‬هدايا‭ ‬وعطاء‭ ‬بدءاً‭ ‬من‭ ‬القند‭ ‬والنبات‭ ‬والحلويات‭ ‬وانتهاءً‭ ‬بالنقود‭ ‬والرز‭ ‬والحبوب‭ ‬والفواكه. ‬ومن‭ ‬يبادر‭ ‬إلى‭ ‬تقديم‭ ‬هذه‭ ‬الهدايا‭ ‬فسيكون‭ ‬جزاؤه‭ ‬الثواب‭ ‬والسؤدد‭ ‬والنجاح،‭ ‬أما‭ ‬من‭ ‬يتردد‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬فلا‭ ‬ينتظره‭ ‬في‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة‭ ‬سوى‭ ‬الأضرار‭ ‬والفشل‭ ‬والأيام‭ ‬النحسة‭.‬

إنه‭ ‬تقليد‭ ‬جميل‭ ‬يدلّ‭ ‬على‭ ‬الحركة‭ ‬والتطوّر‭ ‬والتغيير‭ ‬والحياة،‭ ‬وليس‭ ‬عبادة‭ ‬النار‭ ‬كما‭ ‬يريد‭ ‬أن‭ ‬يصوّره‭ ‬ويشوّهه‭ ‬المتطرفون‭ ‬والقوميون‭ ‬المتعصبون‭ ‬عندنا. ‬لقد‭ ‬كان‭ ‬العراقيون‭ ‬يحتفلون‭ ‬عندنا‭ ‬في‭ ‬بغداد‭ ‬بنفس‭ ‬المناسبة‭ ‬ويسمونها‭ ‬“چنبر‭ ‬سوري”،‭ ‬وهي‭ ‬تعريق‭ ‬لكلمة‭ ‬“چهار‭ ‬شنبه‭ ‬سوري”‭ ‬الفارسية،‭ ‬حيث‭ ‬تشعل‭ ‬الشموع‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬دجلة‭ ‬الخالد‭ ‬أو‭ ‬توضع‭ ‬على‭ ‬خشبة‭ ‬لتطوف‭ ‬وتنحدر‭ ‬مع‭ ‬تيار‭ ‬النهر‭.‬

وفي‭ ‬ليلة‭ ‬العيد‭ ‬تنصب‭ ‬مائدة‭ ‬مزدانة‭ ‬بصحون‭ ‬تحتوي‭ ‬على‭ ‬سبعة‭ ‬مواد‭ ‬يبدأ‭ ‬اسمها‭ ‬بحرف‭ ‬السين،‭ ‬مثل‭ ‬سكة‭ ‬وسماق‭ ‬وسيب‭ ‬‭(‬التفاح‭)‬‭ ‬وسركه‭ ‬‭(‬خل‭)‬‭ ‬وسبزي‭ ‬‭(‬الخضرة‭)‬‭ ‬وسنجد‭ ‬‭(‬نبك‭ ‬العجم‭)‬‭ ‬وسمنو‭ ‬‭(‬عصير‭ ‬الحنطة‭)‬. ‬إن‭ ‬عدد‭ ‬سبعة‭ ‬هو‭ ‬تعبير‭ ‬عن‭ ‬الكواكب‭ ‬السبعة‭ ‬التي‭ ‬ترد‭ ‬في‭ ‬الأساطير‭ ‬عامة. ‬وتوضع‭ ‬على‭ ‬السفرة‭ ‬أيضاً‭ ‬نسخة‭ ‬من‭ ‬القرآن‭ ‬الكريم‭ ‬أمام‭ ‬مرآة‭ ‬وشموع‭ ‬ومكسّرات‭ ‬وحلويات‭ ‬وقارورة‭ ‬تحوي‭ ‬على‭ ‬ماء‭ ‬تسبح‭ ‬فيه‭ ‬السمكات‭ ‬الذهبية‭ ‬الصغيرة. ‬ويرتفع‭ ‬مع‭ ‬دورة‭ ‬السنة‭ ‬دعاء‭ ‬الإيرانيين‭ ‬التقليدي‭ ‬ملتمسين‭ ‬من‭ ‬الخالق‭ ‬ومتضرعين‭ ‬إليه‭:‬

يا‭ ‬مقلب‭ ‬القلوب‭ ‬والأبصار

يا‭ ‬مدبر‭ ‬الليل‭ ‬والنـــــــهار

يا‭ ‬محول‭ ‬الحول‭ ‬والأحـوال

حول‭ ‬حالنا‭ ‬إلى‭ ‬أحسن‭ ‬حال‭.‬

ويستمر‭ ‬الاحتفال‭ ‬بهذا‭ ‬العيد‭ ‬حتى‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬عشر‭ ‬من‭ ‬السنة‭ ‬الجديدة،‭ ‬حيث‭ ‬يحيي‭ ‬الإيرانيون‭ ‬مراسيم‭ ‬“سيزده‭ ‬بدر”،‭ ‬أي‭ ‬“الخروج‭ ‬من‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الثالث‭ ‬عشر”. ‬وحسب‭ ‬التقاليد‭ ‬فإنه‭ ‬من‭ ‬باب‭ ‬الشؤم‭ ‬البقاء‭ ‬في‭ ‬داخل‭ ‬البيت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم. ‬ولهذا‭ ‬يخرج‭ ‬الجميع‭ ‬إلى‭ ‬البوادي‭ ‬والحدائق‭ ‬والمنتزهات‭ ‬ليقضوا‭ ‬اليوم‭ ‬كلّه‭ ‬هناك. ‬ويصادف‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬عندنا‭ ‬اليوم‭ ‬الثاني‭ ‬لما‭ ‬نسميه‭ ‬بكذبة‭ ‬نيسان‭ ‬أو‭ ‬كذبة‭ ‬أبريل‭ ‬المصادف‭ ‬في‭ ‬اليوم‭ ‬الأول‭ ‬من‭ ‬شهر‭ ‬نيسان‭/‬أبريل‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬عام. ‬ولربما‭ ‬يشبه‭ ‬هذا‭ ‬العيد‭ ‬عيد‭ ‬شم‭ ‬النسيم‭ ‬عند‭ ‬المصريين. ‬وصادف‭ ‬أن‭ ‬خرجت‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬رحلة‭ ‬مع‭ ‬خالي‭ ‬العزيز‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬كرج‭ ‬القريبة‭ ‬من‭ ‬طهران،‭ ‬حيث‭ ‬يرتفع‭ ‬سد‭ ‬كرج‭ ‬الذي‭ ‬يحجز‭ ‬المياه‭ ‬ويزوّد‭ ‬العاصمة‭ ‬بمياه‭ ‬الشرب. ‬كان‭ ‬المكان‭ ‬مزدحماً‭ ‬أشد‭ ‬الازدحام‭ ‬بالقادمين‭ ‬من‭ ‬العاصمة‭ ‬وضواحيها،‭ ‬وقد‭ ‬وصل‭ ‬تعدادهم‭ ‬إلى‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬حيث‭ ‬تصدح‭ ‬الموسيقى‭ ‬في‭ ‬المكان،‭ ‬وتنظّم‭ ‬حلبات‭ ‬الرقص‭ ‬شرقياً‭ ‬كان‭ ‬أم‭ ‬غربياً‭ ‬بشكل‭ ‬لم‭ ‬أشهد‭ ‬له‭ ‬مثيلاً‭ ‬في‭ ‬أيّ‭ ‬ركن‭ ‬من‭ ‬أركان‭ ‬البلدان‭ ‬التي‭ ‬زرتها‭.‬


لوحة: سعد يكن

عادت‭ ‬الأمور‭ ‬اليومية‭ ‬إلى‭ ‬مجاريها‭ ‬بعد‭ ‬هذه‭ ‬الاحتفالات،‭ ‬وعاد‭ ‬الناس‭ ‬إلى‭ ‬عملهم‭ ‬وكدحهم‭ ‬وبنشاط‭ ‬أكثر‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬خيّم‭ ‬الربيع‭ ‬بخضرته‭ ‬وهوائه‭ ‬العليل‭ ‬وشمسه‭ ‬الساطعة‭ ‬ودفئه‭ ‬على‭ ‬العاصمة‭.‬

‮ ‬‭ ‬‮ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام‭ ‬عرّجت‭ ‬على‭ ‬دكان‭ ‬الخال‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬أزوره‭ ‬بين‭ ‬فترة‭ ‬وأخرى‭ ‬في‭ ‬محله،‭ ‬وصاح‭ ‬بأعلى‭ ‬صوته‭ ‬وبانفعال‭ ‬ملمحاً‭ ‬إلى‭ ‬إنه‭ ‬كان‭ ‬يبحث‭ ‬عنّي‭ ‬لأمر‭ ‬هام. ‬وسألته‭ ‬عن‭ ‬هذا‭ ‬الأمر‭ ‬الهام،‭ ‬وأجابني‭ ‬أنه‭ ‬يود‭ ‬أن‭ ‬أسافر‭ ‬معه‭ ‬للفسحة‭ ‬إلى‭ ‬شمال‭ ‬إيران‭ ‬وبالتحديد‭ ‬إلى‭ ‬إقليم‭ ‬مازندران‭ ‬المحاذي‭ ‬لبحر‭ ‬الخزر. ‬كان‭ ‬الخال‭ ‬يملك،‭ ‬إضافة‭ ‬إلى‭ ‬محل‭ ‬بيع‭ ‬الأدوات‭ ‬الاحتياطية‭ ‬للسيارات،‭ ‬حافلتين‭ ‬لنقل‭ ‬المسافرين‭ ‬بين‭ ‬العاصمة‭ ‬طهران‭ ‬وبقية‭ ‬المدن‭ ‬الإيرانية. ‬وصادف‭ ‬توجّه‭ ‬إحدى‭ ‬الحافلتين‭ ‬إلى‭ ‬محافظة‭ ‬مازندران‭ ‬في‭ ‬تلك‭ ‬الفترة،‭ ‬وأراد‭ ‬الخال‭ ‬أن‭ ‬يريني‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬الواقعة‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬الخزر‭ ‬التي‭ ‬غالباً‭ ‬ما‭ ‬كان‭ ‬يتحدث‭ ‬الخال‭ ‬عن‭ ‬جمال‭ ‬طبيعتها‭ ‬وسحرها‭.‬

وسرعان‭ ‬ما‭ ‬جهّزت‭ ‬نفسي‭ ‬للرحلة‭ ‬خلال‭ ‬سويعات‭ ‬وعدت‭ ‬إليه‭ ‬في‭ ‬المحل‭ ‬لأرى‭ ‬الحافلة‭ ‬تنتظرني‭ ‬وقد‭ ‬جلس‭ ‬الخال‭ ‬في‭ ‬المقعد‭ ‬الأمامي،‭ ‬وحجز‭ ‬لي‭ ‬المقعد‭ ‬الآخر‭ ‬المحاذي‭ ‬لمقعده‭ ‬والملاصق‭ ‬لنافذة‭ ‬الحافلة‭ ‬الجانبية. ‬وما‭ ‬أن‭ ‬دارت‭ ‬عجلات‭ ‬الحافلة‭ ‬كي‭ ‬تتوجه‭ ‬نحو‭ ‬الشمال‭ ‬حتى‭ ‬بدأت‭ ‬تتسلق‭ ‬الطرق‭ ‬الجبلية. ‬وعلت‭ ‬الحافلة‭ ‬بحيث‭ ‬أخذت‭ ‬تصطدم‭ ‬بالسحب‭ ‬الكثيفة‭ ‬التي‭ ‬تخيّم‭ ‬على‭ ‬الطريق. ‬وخلال‭ ‬سيرنا‭ ‬كنت‭ ‬أسأل‭ ‬الخال‭ ‬بفضول‭ ‬عمّا‭ ‬نصادفه‭ ‬على‭ ‬الطريق‭ ‬من‭ ‬معالم‭ ‬ومشاهد،‭ ‬ويجيبني‭ ‬بتفصيل‭ ‬وبأسلوب‭ ‬ممتع‭.‬

‮ ‬ولفت‭ ‬نظري‭ ‬العديد‭ ‬من‭ ‬القبور‭ ‬المزدانة‭ ‬بالأقمشة‭ ‬الخضراء‭ ‬والقبب‭ ‬الخضراء‭ ‬فوق‭ ‬قمم‭ ‬الجبال. ‬وسألت‭ ‬الخال‭ ‬عن‭ ‬أصحاب‭ ‬هذه‭ ‬القبور‭ ‬وكيف‭ ‬تم‭ ‬الوصول‭ ‬إلى‭ ‬قممها؟‭ ‬وقبل‭ ‬أن‭ ‬يجيبني‭ ‬ارتسمت‭ ‬على‭ ‬وجهه‭ ‬ابتسامة‭ ‬ذات‭ ‬مغزى. ‬وقال‭ ‬إن‭ ‬الناس‭ ‬هنا‭ ‬يطلقون‭ ‬على‭ ‬هذه‭ ‬القبور‭ ‬“إمام‭ ‬زاده”‭ ‬أي‭ ‬مراقد‭ ‬أولاد‭ ‬الأئمة،‭ ‬وهي‭ ‬على‭ ‬غرار‭ ‬ما‭ ‬ينتشر‭ ‬من‭ ‬مراقد‭ ‬بنات‭ ‬الحسن‭ ‬عندنا‭ ‬على‭ ‬ضفاف‭ ‬شط‭ ‬الحله‭ ‬على‭ ‬وجه‭ ‬الخصوص. ‬وأردف‭ ‬الخال‭ ‬قائلاً‭ ‬إن‭ ‬تجربتي‭ ‬تشير‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬القبور‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬لها‭ ‬بأولاد‭ ‬الأئمة،‭ ‬ولا‭ ‬توجد‭ ‬أي‭ ‬جثة‭ ‬في‭ ‬غالب‭ ‬الأحيان‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القبور. ‬ولكن‭ ‬ما‭ ‬العمل‭ ‬مع‭ ‬معتقدات‭ ‬الناس‭ ‬البسطاء‭ ‬وهي‭ ‬تقترب‭ ‬أحياناً‭ ‬من‭ ‬الخرافة. ‬ورحت‭ ‬أستمع‭ ‬إلى‭ ‬حكايته‭ ‬عن‭ ‬هذه‭ ‬القبور. ‬في‭ ‬عقد‭ ‬الثلاثينات‭ ‬من‭ ‬القرن‭ ‬العشرين‭ ‬كان‭ ‬الخال‭ ‬يعمل‭ ‬ميكانيكياً‭ ‬في‭ ‬طهران،‭ ‬وكان‭ ‬يتم‭ ‬استدعاؤه‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬الجيش‭ ‬الإيراني‭ ‬أثناء‭ ‬المناورات‭ ‬العسكرية‭ ‬لمرافقة‭ ‬القطعات‭ ‬الميكانيكية‭ ‬كي‭ ‬يتم‭ ‬إصلاحها‭ ‬أثناء‭ ‬العطب. ‬وصادف‭ ‬أن‭ ‬جرت‭ ‬مناورات‭ ‬عسكرية‭ ‬في‭ ‬وسط‭ ‬إيران،‭ ‬واستُدعي‭ ‬الخال‭ ‬لمرافقة‭ ‬القطعات‭ ‬العسكرية‭ ‬الميكانيكية. ‬توقفت‭ ‬المناورات‭ ‬في‭ ‬أحد‭ ‬الأيام،‭ ‬وتوجه‭ ‬الضباط‭ ‬لأخذ‭ ‬قسط‭ ‬من‭ ‬الراحة. ‬ودُعي‭ ‬الخال‭ ‬لمشاركة‭ ‬الضباط‭ ‬بمائدتهم‭ ‬العامرة‭ ‬بقناني‭ ‬الخمر‭ ‬والنبيذ،‭ ‬وراحوا‭ ‬يفتشون‭ ‬عن‭ ‬مكان‭ ‬لتناول‭ ‬الخمر‭ ‬وما‭ ‬لذ‭ ‬وطاب. ‬وهنا‭ ‬أشّر‭ ‬أحد‭ ‬الضباط‭ ‬إلى‭ ‬موقع‭ ‬“إمام‭ ‬زاده”‭ ‬القريب‭ ‬من‭ ‬مكان‭ ‬المناورات‭ ‬كمكان‭ ‬مفضل‭ ‬للجلوس. ‬وعندها‭ ‬اعترض‭ ‬الخال‭ ‬على‭ ‬هذا‭ ‬الاختيار‭ ‬باعتباره‭ ‬مكاناً‭ ‬يوارى‭ ‬فيه‭ ‬ابن‭ ‬الإمام‭ ‬ولا‭ ‬يصح‭ ‬تناول‭ ‬الخمر‭ ‬فيه. ‬وأثناء‭ ‬الجدال‭ ‬بين‭ ‬الضباط‭ ‬خرج‭ ‬على‭ ‬حين‭ ‬غرة‭ ‬من‭ ‬داخل‭ ‬مقام‭ ‬“الضريح”‭ ‬رجل‭ ‬تلف‭ ‬رأسه‭ ‬عمامة‭ ‬خضراء‭ ‬وله‭ ‬لحية‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬ورع‭ ‬هذا‭ ‬الرجل. ‬لقد‭ ‬استمع‭ ‬هذا‭ ‬الرجل‭ ‬إلى‭ ‬النقاش‭ ‬والضوضاء‭ ‬وأشار‭ ‬على‭ ‬الجميع‭ ‬أن‭ ‬يدخلوا‭ ‬ويأخذوا‭ ‬قسطهم‭ ‬من‭ ‬الراحة‭ ‬في‭ ‬المقام‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬تناول‭ ‬الخمر‭! ‬أثارت‭ ‬دعوة‭ ‬المتولّي‭ ‬دهشة‭ ‬الجميع،‭ ‬ولكن‭ ‬دهشتهم‭ ‬تحولت‭ ‬بعد‭ ‬حين‭ ‬إلى‭ ‬ضحك‭ ‬وتندر‭ ‬لا‭ ‬نهاية‭ ‬له. ‬فقد‭ ‬قال‭ ‬الرجل‭ ‬أنه‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬هنا‭ ‬أيّ‭ ‬مقام. ‬فالقصة‭ ‬وما‭ ‬فيها‭ ‬أنه‭ ‬كان‭ ‬قد‭ ‬هرب‭ ‬من‭ ‬ملاحقة‭ ‬أهالي‭ ‬أحد‭ ‬القرى‭ ‬المجاورة‭ ‬بسبب‭ ‬قيامه‭ ‬بمحاولة‭ ‬للسطو‭ ‬على‭ ‬بيت‭ ‬أحد‭ ‬الميسورين‭ ‬في‭ ‬القرية. ‬وعرف‭ ‬القرويون‭ ‬بذلك‭ ‬ولاحقوه‭ ‬ولم‭ ‬يتركوه‭ ‬إلاّ‭ ‬عندما‭ ‬ابتعد‭ ‬عن‭ ‬تلك‭ ‬النواحي‭ ‬ولجأ‭ ‬إلى‭ ‬هذا‭ ‬المكان‭ ‬وهو‭ ‬أقرب‭ ‬إلى‭ ‬الإعياء. ‬عندها‭ ‬سجد‭ ‬وانهار‭ ‬مما‭ ‬أثار‭ ‬اهتمام‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬القرويين‭ ‬الذين‭ ‬سألوه‭ ‬عن‭ ‬حاجته. ‬لم‭ ‬يجبهم‭ ‬خوفاً‭ ‬ولكنه‭ ‬فطن،‭ ‬وقال‭ ‬درءاً‭ ‬لأيّ‭ ‬عواقب‭ ‬سلبية،‭ ‬إن‭ ‬في‭ ‬البقعة‭ ‬يدفن‭ ‬“إمام‭ ‬زاده”‭! ‬أثار‭ ‬هذا‭ ‬الادعاء‭ ‬ضجة‭ ‬بين‭ ‬سكان‭ ‬القرية‭ ‬وراحوا‭ ‬يتراكضون‭ ‬لدعوة‭ ‬أقرانهم،‭ ‬وباشروا‭ ‬ببناء‭ ‬“الضريح”. ‬وأصبح‭ ‬“السارق”‭ ‬وطريد‭ ‬القرية‭ ‬المجاورة‭ ‬متولّي‭ ‬هذا‭ ‬الضريح‭ ‬وتاب‭ ‬عن‭ ‬السرقة. ‬ضحك‭ ‬الخال‭ ‬بملء‭ ‬فمه‭ ‬وقال‭ ‬هذه‭ ‬هي‭ ‬حكاية‭ ‬مراقد‭ ‬“إمام‭ ‬زاده”‭ ‬التي‭ ‬يبدو‭ ‬أن‭ ‬أغلبها‭ ‬ليس‭ ‬لها‭ ‬علاقة‭ ‬بأولاد‭ ‬الإمام‭ ‬ولا‭ ‬بأيّ‭ ‬من‭ ‬الأولياء. ‬إنها‭ ‬محض‭ ‬مظهر‭ ‬من‭ ‬مظاهر‭ ‬المعتقد‭ ‬الديني‭ ‬عند‭ ‬الناس‭ ‬للتخفيف‭ ‬عن‭ ‬همومهم‭ ‬وما‭ ‬أكثرها،‭ ‬ولو‭ ‬كان‭ ‬بعضها‭ ‬لا‭ ‬علاقة‭ ‬له‭ ‬بالدين‭ ‬ولا‭ ‬بمن‭ ‬يرقد‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬القبور‭.‬

اخترقت‭ ‬الحافلة‭ ‬الأنفاق‭ ‬العديدة‭ ‬والطويلة‭ ‬التي‭ ‬تشق‭ ‬طريق‭ ‬الشمال‭ ‬وبما‭ ‬يعرف‭ ‬بجادة‭ ‬åچالوسò. ‬وتغيّرت‭ ‬الطبيعة‭ ‬من‭ ‬منطقة‭ ‬طهران‭ ‬الجافة‭ ‬وقليلة‭ ‬الخضرة‭ ‬إلى‭ ‬منطقة‭ ‬تكسوها‭ ‬الخضرة‭ ‬والغابات‭ ‬الكثيفة‭ ‬والطبيعة‭ ‬الخلابة‭ ‬للغاية،‭ ‬والهواء‭ ‬المنعش. ‬إن‭ ‬سبب‭ ‬هذه‭ ‬الطبيعة‭ ‬الساحرة‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬أن‭ ‬مازندران‭ ‬وكيلان،‭ ‬وهما‭ ‬المنطقة‭ ‬التي‭ ‬كانت‭ ‬تعرف‭ ‬بطبرستان،‭ ‬تطلان‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬الخزر‭ ‬الذي‭ ‬يوفر‭ ‬للمنطقة‭ ‬السحب‭ ‬التي‭ ‬تجلب‭ ‬الأمطار‭ ‬الغزيرة. ‬فالمطر‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬المناطق‭ ‬يهطل‭ ‬في‭ ‬جميع‭ ‬المواسم‭ ‬ممّا‭ ‬حولها‭ ‬إلى‭ ‬أراض‭ ‬خضراء‭ ‬زراعية‭ ‬خصبة‭ ‬خاصة‭ ‬لزراعة‭ ‬الشاي‭ ‬على‭ ‬سفح‭ ‬الجبال‭ ‬والرز‭ ‬ذي‭ ‬الجودة‭ ‬العالية‭ ‬في‭ ‬الوديان. ‬ولهذا‭ ‬يعتمد‭ ‬الأهالي‭ ‬هنا‭ ‬بالدرجة‭ ‬الأولى‭ ‬على‭ ‬الرز‭ ‬في‭ ‬غذائهم‭ ‬بدلا‭ ‬من‭ ‬الخبز‭ ‬في‭ ‬أحيان‭ ‬كثيرة. ‬بعد‭ ‬ساعات‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬بابلسر‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬نهر‭ ‬بابلرود‭ ‬الذي‭ ‬يصب‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الخزر. ‬وما‭ ‬أن‭ ‬بدأت‭ ‬الحافلة‭ ‬بالانحدار‭ ‬من‭ ‬سفح‭ ‬الجبل‭ ‬والنزول‭ ‬إلى‭ ‬الوادي‭ ‬حتى‭ ‬تراءت‭ ‬لنا‭ ‬مزارع‭ ‬الرز‭ ‬والشلب‭ ‬الجميلة،‭ ‬شاليزار،‭ ‬وهي‭ ‬غارقة‭ ‬في‭ ‬المياه‭.‬

كما‭ ‬لاح‭ ‬ساحل‭ ‬بحر‭ ‬الخزر‭ ‬في‭ ‬أقصى‭ ‬الأفق. ‬إن‭ ‬ساحل‭ ‬بحر‭ ‬الخزر‭ ‬الجنوبي‭ ‬الذي‭ ‬يعود‭ ‬إلى‭ ‬إيران‭ ‬هو‭ ‬منطقة‭ ‬سياحية‭ ‬جميلة،‭ ‬ويؤمّها‭ ‬الإيرانيون‭ ‬وحتى‭ ‬الأجانب‭ ‬لهوائها‭ ‬العليل‭ ‬الذي‭ ‬يقيهم‭ ‬من‭ ‬حرارة‭ ‬الصيف‭ ‬في‭ ‬المناطق‭ ‬الجنوبية‭ ‬الأخرى‭ ‬والتمتع‭ ‬بساحلها‭ ‬الرملي‭ ‬الذهبي‭ ‬المطل‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬الخزر‭ ‬أو‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬عندنا‭ ‬ببحر‭ ‬قزوين. ‬وتعتبر‭ ‬المناطق‭ ‬السياحية‭ ‬الإيرانية‭ ‬على‭ ‬بحر‭ ‬الخزر‭ ‬من‭ ‬أجمل‭ ‬المناطق‭ ‬مقارنة‭ ‬بسواحل‭ ‬أذربيجان‭ ‬وروسيا‭ ‬وكازخستان‭ ‬وتركمانستان‭ ‬المطلة‭ ‬على‭ ‬نفس‭ ‬البحر‭ ‬أيضاً‭ ‬والتي‭ ‬سمحت‭ ‬لي‭ ‬الظروف‭ ‬بزيارتها‭ ‬عندما‭ ‬كنت‭ ‬في‭ ‬الاتحاد‭ ‬السوفييتي‭ ‬كما‭ ‬أسلفت‭.‬

البجعات‭ ‬في‭ ‬مازندران

تركت‭ ‬الطبيعة‭ ‬الجميلة‭ ‬بصماتها‭ ‬على‭ ‬طبع‭ ‬الناس‭ ‬الهادئ‭ ‬والطيب‭ ‬والأوجه‭ ‬البشوشة،‭ ‬وكذلك‭ ‬على‭ ‬جمال‭ ‬أهلها‭ ‬وخاصة‭ ‬حسن‭ ‬طلعة‭ ‬صباياها‭ ‬وفتياتها. ‬ولكون‭ ‬هذه‭ ‬المنطقة‭ ‬مطلة‭ ‬على‭ ‬البحر‭ ‬فإن‭ ‬غذاء‭ ‬الأهالي‭ ‬الأساسي‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬الرز‭ ‬هو‭ ‬السمك‭ ‬والحيوانات‭ ‬البحرية‭ ‬وأشهرها‭ ‬ما‭ ‬يعرف‭ ‬بالسمك‭ ‬الأبيض،‭ ‬“ماهي‭ ‬سفيد”،‭ ‬الذي‭ ‬تلذذنا‭ ‬بتناوله‭ ‬أثناء‭ ‬وجودنا‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬البحر. ‬وتعتمد‭ ‬المنطقة‭ ‬أيضاً‭ ‬على‭ ‬صناعة‭ ‬الكافيار‭ ‬الذي‭ ‬كانت‭ ‬تشرف‭ ‬على‭ ‬إنتاجه‭ ‬مؤسسة‭ ‬سوفييتية‭-‬إيرانية‭ ‬مشتركة. ‬والكافيار‭ ‬هو‭ ‬بيض‭ ‬أسود‭ ‬لسمك‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬إلا‭ ‬في‭ ‬بحر‭ ‬الخزر‭ ‬ويطلق‭ ‬عليه‭ ‬“الستوريجون”،‭ ‬ويعتبر‭ ‬من‭ ‬الأسماك‭ ‬القديمة‭ ‬المنقرضة. ‬بالطبع‭ ‬لا‭ ‬يتناول‭ ‬الإيرانيون‭ ‬من‭ ‬الكافيار‭ ‬إلا‭ ‬القليل‭ ‬لاعتبارات‭ ‬دينية‭ ‬غير‭ ‬مفهومة‭ ‬بالنسبة‭ ‬إليّ،‭ ‬ولكنه‭ ‬يصدّر‭ ‬بالأساس‭ ‬إلى‭ ‬الخارج. ‬قضينا‭ ‬مع‭ ‬الخال‭ ‬على‭ ‬ساحل‭ ‬البحر‭ ‬ساعات‭ ‬جميلة‭ ‬خلال‭ ‬عطلة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬البهيجة‭ ‬لنعود‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬بعد‭ ‬يومين‭ ‬إلى‭ ‬العاصمة‭ ‬طهران‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.