ثلاث رسامات مصريات معاصرات: الانطباعية وحارسة الأساطير والوارثة
ينظر المصريون بقدر لافت من التقدير إلى تجارب الرسامات الرائدات جاذبية سري وتحية حليم وأنجي أفلاطون، لا بسبب سبقهن التاريخي وحسب بل وأيضا بسبب أن كل واحدة منهن قد شقت لها طريقا أسلوبية خاصة بها في عالم الرسم.
لذلك فإن تجاربهن التي يُعتد بها على مستوى فني كانت مؤثرة بالقوة نفسها التي أثّرت بها تجارب المعلمين الكبار من أمثال راغب عياد ومحمود سعيد ومحمد ناجي.
صنعت المرأة المصرية عالمها في الرسم من تفاصيل الواقع الاجتماعي الذي عاشته وعبّرت عنه بطرق مختلفة، بدءا من واقعية جاذبية سري الاجتماعية إلى النهج الثوري الذي تميزت به حياة وفن أنجي أفلاطون.
أفرطت الرسامة المصرية في الاهتمام بما هو اجتماعي من غير أن تركز على الحياة الداخلية للمرأة. لذلك لم يتبلور مفهوم “الفن النسوي” إلا بطريقة عرضية عابرة.
في تجارب نازلي مدكور وفاتن النواوي وأمل نصر هناك ميل واضح إلى التخلي عن الموضوعات التي ارتبطت بها المرأة من جهة كونها راعية للمجتمع ومالكة لأهم مفاتيحه. تظهر الفنانات الثلاث اهتماما جليا بالرسم، كونه فنا خالصا يتخطى الوجود الواقعي المباشر.
نازلي مدكور رسامة الأقلية السعيدة
مثلما فعل الرسام الفرنسي كلود مونيه مع زهوره المائية فإن نازلي مدكور يمكنها أن تستمر في رسم الربيع إلى ما لا نهاية، من غير أن يتكرر المشهد الذي ترسمه. ما من ورقة وما من زهرة وما من شجرة ترسمها إلا وتظهر مرة واحدة. من لوحة إلى أخرى لا شيء يتكرر حتى وإن كان الموضوع واحدا.
جمال متحرر من ماضيه
“العالم لم يتغير” يمكنها أن تقول وهي تقصد “نحن الذين نتغير”، تهبنا مدكور العالم الذي ألفناه وعشنا فيه لتقنعنا بصريا أننا لم نره من قبل. متعة الرسم لديها تنتقل مثل عدوى إلى المشاهد لتضعه في جوهر الطبيعة. ذلك الجوهر الذي لا تصل إليه الحواس مباشرة.
لا تهمها التفاصيل كثيرا، بالرغم من أن كل ضربة فرشاة لا تخطئ طريقها إلى مكانها المناسب. المكان الذي يستدعيها عل سطح اللوحة.
المشاهد التي ترسمها تظل حية، طازجة ولينة تنعش العين برذاذها اللوني. غير أن تلك المشاهد لا تحيل إلى الطبيعة. صحيح أن كل شيء في تلك المشاهد مستلهم من الطبيعة، غير أن الفنانة صنعت من كل ما رسمته شيئا آخر عن طريق الارتجال.
كل هذه الخفة التي تظهر في رسوم مدكور ليست من نتاج النظر المباشر. إنها خفة روحية تزيح عن المرئيات كثافتها المادية. تعرّيها من زينتها لتحتفي بجمالها الحقيقي، وهو الجمال الذي يقترحه الفن.
تكمل نازلي مدكور الطريق الذي بدأه أسلافها الانطباعيون، غير أنها تنحرف بالانطباع إلى هدف مختلف. وهو ما يؤهلها أن تكون الفنانة العربية الوحيدة التي تنتمي إلى تيار الانطباعية الجديدة. وهو تيار حداثوي يكسر الحدود بين التشخيص والتجريد، ذاهبا إلى ما هو أبعد من المشهد الطبيعي من غير أن يجرّده تماما.
لذلك تستلهم نازلي مدكور حريتها من علاقة يقيمها الرسم بالطبيعة هي مزيج من الشغف المجنون بالجمال الطبيعي والرغبة في أن يتحرر ذلك الجمال من صورته الجاهزة، ليخلص إلى جوهره.
انطباعية جديدة
ولدت نازلي مدكور في القاهرة عام 1949. درست السياسة والاقتصاد وعملت خبيرة في المجالين، في مكتب الأمم المتحدة في مصر، ثم أصبحت خبيرة اقتصادية في مركز التنمية الصناعية التابع للجامعة العربية. تزوجت وأنجبت. غير أن كل تلك النجاحات الاجتماعية والمهنية لم تنسها ولهاً قديما بالرسم. التحقت بمدرسة فنية لمدة سنة ونصف السنة ثم سافرت إلى إيطاليا لتلتحق بجامعة متخصصة بالطلاب الصيفيين. حين أقامت معرضها الشخصي الأول وفوجئت بالإقبال عليه قررت أن يكون الفن مصيرها فاعتزلت العمل الإداري في مجال الاقتصاد لتتفرغ للفن. حياة ليست عادية، فهي تنطوي على قدر عظيم من التضحية من أجل الفن في بلد مثل مصر، الوظيفة فيه، إن كانت من نوع الوظائف التي شغلتها نازلي تعني وضعا اقتصاديا مريحا.
تذكرني نازلي هنا ببول غوغان الرسام الفرنسي الذي ترك وظيفته في البورصة ليستسلم لرياح الرسم التي أخذته إلى آخر الأرض في تاهيتي.
بدلا من أن تذهب إلى آخر الأرض ذهبت نازلي إلى آخر الرسم. وهو ما يجعلها من وجهة نظري مطمئنة إلى أنها لن تكون جزءا من الوصفة الجمالية المصرية. نازلي هي أخرى بالرغم من أنها تكمل بنضالها وكدحها اليومي مسيرة نساء مصريات عظيمات ناضلن من أجل أنوثة الرسم. جاذبية سري وتحية حليم وأنجي أفلاطون وسواهن من رائدات الرسم في مصر.
ما تتميز به نازلي أنها وهبت الرسم المصري الحديث شيئا من خارجه، في إمكانه أن يغير الكثير من العادات البصرية. ربما لأنها لم تدرس الرسم أكاديمياً في مصر فلم تنتقل إليها عادات المعلمين. ربما لأنها جاءت من خارج المزاج الثقافي بمزاج تصويري مختلف.
غير أن المؤكد أن هذه الفنانة وهبت الرسم المصري الحديث فرصة أن ينفتح على تيار الانطباعية الجديدة. وهو تيار لم يتعرف عليه الفن في العالم العربي.
سليلة الشغب الجمالي المتطرف
من أجل أن يكون الربيع ممكنا تخترع نازلي مدكور ورودها. من وجهة نظرها فإن ذلك يعني أن يكون الفنان معاصرا وأيضا أن يكون الفن قادرا على صنع صورة مستعارة من الحياة المتخيلة. تحيلنا رسوم نازلي إلى انطباع يقع في لحظة إشراق أو انخطاف شعري. وهي لحظة عابرة لا تستند إلى شيء من الواقع. الواقع الوحيد الذي تؤمن به الفنانة هو ذلك الذي يتشكل على سطوح لوحاتها. من خلاله نستطيع أن نستغرق في تفاصيل حياة مجاورة. وأيضا نكتشف لذائذ تأمل طبيعة مجاورة. هنا بالضبط يكون الفن ضروريا. إذ أنه بطريقة أو بأخرى يعيدنا إلى اكتشاف ما كنا رأيناه بطريقة عابرة من غير أن نقف أمام سحره. ما تفعله نازلي ليس غريبا على الفن العالمي. هناك تجارب فنية سعيدة حاولت أن تظهر إعجابها بالطبيعة، لكن بطريقة متمردة ومشاغبة، تقدم هذيان الفن على العواصف التي ينطوي عليها صمت الطبيعة. الانطباعيون الفرنسيون كلهم حاولوا أن يستفزوا الطبيعة حين استعرضوا مفاتنها وهي تتغير وفق مزاج متقلب. غير أن الأميركيين وفي مقدمتهم سي تومبلي سعوا إلى القبض على مزاج الطبيعة في حالته التجريدية الصافية. وكما أرى فإن المصرية نازلي مدكور تسعى إلى التعريف بذلك المزاج عربيا. هي طراز آخر من الفنانين. ذلك الطراز الذي يعيد تخيل العالم لا من جهة كونه أيقونة ثابتة بل باعتباره مجموعة متلاحقة من التركيبات، التي تتمكن الفنانة من إعادة تركيبها في كل لحظة رسم. ولا إبالغ إذا ما قلت إن روحا متفائلة تتخلل الهواء الذي يحيط برسوم مدكور، كما لو أنها الرسالة الخفية التي تسعى الفنانة إلى إيصالها إلى المتلقي لتجعله سعيدا. يمكنني القول إن نازلي تنتمي إلى الأقلية السعيدة في العالم العربي.
تعيد صياغة ما تتخيله
منذ سنوات طويلة تركت نازلي مدكور العادة التقليدية في رسم تخطيطات مسبقة للوحة. ليس لديها مصغرات قلمية. تتجه كما تقول مباشرة إلى قماشة اللوحة لترسم. وهو عمل يتطلب استعدادا روحيا مسبقا للرسم. لتلقي صدماته غير السارة وأخباره المفرحة على حد سواء. غير أن خبرة نازلي بعالمها هي ليست من النوع الرياضي الذي يستند على فرضيات مسبقة. ما ينقص لديها يكمله ما يزيد. وهي تعترف أن خبرتها تتبلور مع كل لوحة جديدة تقبل عليها. رسامة من نوع نازلي إنما تقوم باستخراج رسومها من داخل السطح كما لو أن ذلك السطح يمثل بالنسبة إليها خزانة لخيالها المشبع بالمشاهد الطبيعية. وهي مشاهد لا زمن محدد لها. ما تسميه الفنانة بالربيع هو الزمن كله. وهو مقياسها لجمال الحياة التي إن لم تكن جميلة في الواقع فعليها أن تكون كذلك في الرسم.
ولأنها تدرك أن اللعبة يمكن أن تنزلق بها إلى العبث فإن نازلي تمارس الكثير من الانضباط وهي تراقب كائناتها وهي تنمو أثناء الرسم. فهي لا تكتفي بإعادة صياغة ما تراه بل وتعمل جاهدة على إعادة ما تتخيله. وهو ما يجعلها تقف في أحيان كثيرة على حافة التجريد.
نازلي مدكور التي صنعت من الرسم الخالص قضية لها وهبت الرسم المصري فرصة مثالية للخروج من عنق زجاجة الوصفة الجاهزة لتنفتح به على العالم.
*******
فاتن النواوي تصنع عالما بأقنعة كثيرة
أتثيرها الحياة بمشاهدها المتقلبة أم تستفزها السيرة الخفية لحياة تأخذ وقائعها هيئة صور غامضة؟ الفنانة المصرية فاتن النواوي تهبنا من خلال لوحاتها فرصة مزدوجة. متعة أن نرى ما يُرسم كما لو أنه هدف للعيش وقوة إلهامية مجاورة تدفع بنا إلى حافات التأمل ونحن نفكر بما لم يُرسم فيما تعصف بنا عاطفته.
معجم لحياة مرتجلة
فاتن النواوي رسامة تحن إلى زمن الأساطير غير أنها لا تُحل الحكاية التي تعزف عن روايتها كاملة محل الواقع الذي لم تنقطع عنه وعن النظر إليه بإجلال. خفة نزعتها السريالية هي نوع من المصالحة بين الواقع وخياله. بين الشيء ومغزاه العميق. لذلك فإن كائناتها تظهر وتختفي في مشهد أعيد تأثيثه بما ينسجم ووجودها الجديد الذي يتطابق مع مصيرها.
تلتقط الفنانة تفاصيل واقعية لتنقيها من صفاتها اليومية، تقطع الخيوط التي تعيدها إلى مجالها الأصلي. تزيح عنها ثقلها وقوة الجاذبية التي تسحبها لتحلق بها بعيدا ومن ثم تضفي عليها طابعا أسطوريا، كما لو أن تلك التفاصيل تنتمي إلى زمن سرمدي، وهو ما ييسر للفنانة سبل استعادتها عن طريق الحلم باعتبارها جزءاً من دورة خلق لا تنتهي.
الآخر الذي يقول الحقيقة
غير أن هناك جانبا آخر يمكنه أن يقطع الطريق على كل ما يمت إلى الوصف بشقيه الواقعي والسوريالي بصلة. يتمثل ذلك الجانب بمسحة تعبيرية تحضر هي الأخرى بخفة فتتمكن من أن تحدث تغييرا في المعادلة كلها عن طريق ما تنطوي عليه من شحنات رمزية. فالنواوي في الأساس شاعرة وهو ما يعني أن عالما تقيمه لا بد أن يتمتع بقوة المجاز. ذلك هو السر الذي يقف وراء ما نشهده في أعمالها من صدام مدوّ بين ما هو حسي وما هو حدسي.
في معرضها “الأوديسة والسيرك” الذي أقامته عام 2014 (قاعة بيكاسو ــ القاهرة) سعت إلى استعراض مفردات معجمها المزاحة عن معانيها المتاحة. وهو معجم لحياة مرتجلة وباذخة بإيقاع مخفياتها طالما تعلق الأمر بشاعرة.
ليست الغاية من استلهام الفنانة لأوديسة هوميروس الوصول إلى “إيثاكا” كما كان الأمر في العمل الأدبي المتخيل. أوديسيوس بطل الملحمة الإغريقية لن يكون حاضرا بنفسه هذه المرة. رحلته بقوة إيحائها الرمزي هي الضالة بمعنى أن الرحلة تحل محل إيثاكا. أما السيرك فهو ذلك الواقع العبثي الذي نسميه مجازا حياة. هناك شيء من العبث يتخلل كل ما نفعله ونقوله.
بالنسبة إلى الفنانة فإن إيثاكا هي كل مكان يحلم المرء في الوصول إليه. غير أن ذلك لا يكفي لوصف ما تنطوي عليه عملية الرسم من استبدال عالم بعالم آخر. وهو ما يصح حين يتعلق الأمر بالسيرك حيث نستبدل قناعا بآخر وهو ما يعني أننا سنكون على موعد دائم مع الآخر الذي يسكننا.
حارسة صور وكلمات
ولدت فاتن علي أحمد النواوي في القاهرة عام 1951. درست هندسة الاتصالات ونالت شهادة الماجستير فيها. ومارست عملها في ذلك الاختصاص بين سنتي 1975 و1998. عام 1992 نالت شهادة الدبلوم من المعهد العالي للنقد الفني/أكاديمية الفنون. كما درست السيناريو والإخراج في المعهد العالي للسينما. عام 1998 أقامت أول معارضها الشخصية (أتيليه القاهرة) بعده أقامت أكثر من ستة معارض شخصية. أصدرت النواوي ثلاثة كتب شعرية هي “أحلام الطمي والفخار” (1991) “برديات الأشعار” (1992) و”سفر الذهول” (1995). وإذا ما كانت الفنانة قد تأخرت في إقامة معرضها الشخصي الأول فإنها كانت حاضرة في المشهد التشكيلي المصري منذ عام 1980.
تبدو سيرة حياة النواوي شديدة التعقيد بسبب تشعب مساراتها. فهي بحكم الدراسة والمهنة مهندسة أولا. كما أن دراسة النقد الفني قد تعطل أحيانا مزاج الخلق الفني وبالأخص حين يتمتع المرء مثلما هو حال النواوي بحساسية عالية في مجال التذوق الجمالي. ولأن الفنانة كانت قد شغفت بالشعر في سن مبكرة فإن ذلك المثلث الذي يتوزع بين الهندسة والنقد والشعر لا بد أن يكون مغلقا على ما فيه من ثروات. لذلك كان الرسم بمثابة معجزة في حياة، كان من الممكن أن تكون مترفة من غيره. غير أن المرء ما أن يتأمل رسومها حتى يشعر أن ما حققته الفنانة في تلك الرسوم كان هو الخلاصة لعمل المهندسة ومزاج الناقدة وحساسية الشاعرة. تلك المرأة هي حارسة صور هي بمثابة ألغاز يلذ للمتلقي أن يسترق السمع إلى أصواتها ويشم روائحها ويفلت به مزاجها النافر من مساءلة الواقع عما يقود إليه.
لقد هندست فاتن النواوي خيالها عن طريق الرسم فكانت ترسم خطة، تراقبها بعين النقد غير أنها تسلمها في الوقت نفسه لرياح الشعر التي تضفي عليها الكثير من صفات المجازفة التي هي ليست من جنسها.
العالم باعتباره متاهة
“وقال المعلم: تعلم ثم انس ما قاله المعلم وانطلق” تقول النواوي. أتخيلها وهي تمزج الأصباغ مطمئنة إلى ما فعلته حين مزجت واقعية محمود سعيد بسريالية رمسيس يونان بحروفية حامد عبدالله فهي الوارثة التي يحق لها أن تفعل بإرثها ما تشاء. هذه فنانة تهندس علاقتها بالآخرين بطريقة شاعرية تغلب عليها الرغبة في التجديد والإضافة.
تنظر النواوي بإجلال إلى الماضي غير أنها لا تقدسه. في إحدى لوحاتها تجلس القرود لتضحك مما يجري من حولها. الفنانة التي تجمع في إحدى مقولاتها الفن الفرعوني وفن الكاريكاتير والفن المفاهيمي في سلة واحدة تعرف أن إرثها الثقيل هو من النوع الذي يجب تصريفه بطريقة متقنة وإلا فإنه سيكون أشبه بالوصية القاتلة.
وهو ما هداها إلى فكرة السيرك. فالسيرك حياة كاملة وهو في الوقت نفسه يشير إلى العالم باعتباره متاهة. تسر رسوم النواوي حين تبشر بالحياة من طرف رمزي حيث الأمومة والانفتاح على الطبيعة وإزاحة الفواصل بين الكائنات البشرية والحيوانية هي عناصر بناء عالم يفيض بقدرته على صنع السعادة، غير أن هناك ألما يستشعره المرء في كل رسوم النواوي. ذلك الألم هو ما يشير إلى نوع من الشعور بالفقدان الذي يتمحور حوله عالم الفنانة التي تسعى بكل قوتها إلى تأجيل الوصول إلى هدف بعينه. وهو ما يوضح شيئا من مفهومها المتعلق بالرسم.
الشاعرة في خلاصاتها
تقول الفنانة “أما اللوحة فإنها ترسم نفسها ينفسها” بالنسبة إلى فاتن فإنها تمد يدها لتجد. مادتها وتقنياتها وأسلوبها وكل ما من شأنه أن يشكل إطارا لتجربتها هو بين يديها. هناك شيء جاهز صارت تتقن اللعب به وعليه. لقد يسرت فلسفتها في العلاقة بالأشياء المحيطة بها أن تقوم بما تراه مناسبا لتجربتها المزدوجة في العيش والرسم معا. الحياة الخفية كما الحياة الواقعية كلاهما يشكلان مصدرا لوهم اسمه الجمال. ولأنها وضعت كل الحضارات المصرية من فرعونية ورومانية وقبطية وعربية رهن يديها فإن حلولها الشكلية كانت كثيرة. وهو ما جعلها قادرة على أن تمزج بين الواقعية والسريالية والتعبيرية في لوحة واحدة بالرغم من أنها وضعت في حسابها أن تتخلى عن كل شيء من أجل أن تمضي بتجريدياتها إلى الحافات البعيدة، حيث لن يكون هناك شيء في انتظارها سوى إيقاع الحروف، وهي شاعرة.
غير أن الفنانة التي يمكن تأويل رسومها سياسيا كانت دائما تميل إلى رسم خالص. رسم كلاسيكي لا يشير إلى شيء سواه. أعتقد أن الشاعرة ستبتسم من استنتاج من ذلك النوع. أما الناقدة والمهندسة فإنهما ستصمتان عن رضا. ذلك لأنهما يعرفان أن الشاعرة نفّذت ما يرغبان فيه.
******
أمل نصر الوارثة في رسومها وكتاباتها
تجدها حاضرة في كل مكان للتعريف بالفن المصري الحديث. قدرتها النقدية قائمة على دربة أكاديمية ليس من اليسير التغاضي عنها.
حين حدثتها عن شغفي برسوم محمود سعيد تأملتني بعاطفة كما لو أني لمست شغاف قلبها وهي التي أقامت معرضا شخصيا عام 2003 في متحف ذلك الفنان المصري الرائد.
لديها قدرة على أن تحول الدرس إلى لقاء صداقة تمتزج فيه المعرفة بالوله الشخصي. يحدث العكس حين تنفتح أحاديثها الشخصية على بحر من المعلومات التي تجدها ضرورية من أجل خلق قاعدة سليمة لحوار بين شخصين، يجمعهما عشق الفن.
بعدان لروح واحدة
التقيتها عام 2010 في أصيلة المغربية، في مناسبة لا علاقة لها بموسم المدينة العريق. حين اكتشفنا معا أنه قد تم التغرير بنا وأن المناسبة التي دعينا إليها يغلب عليها الطابع الاجتماعي حاولتُ أن أخفف من وقع الصدمة عليها بالضحك والمزاح وهو ما جعلها تتخلى مؤقتا عن ردود أفعالها الجادة وتعتبر تلك الأيام الثلاثة التي قضتها في أصيلة إجازة استرخاء.
يومها حضرت أمامي المعلمة التي تملك القدرة على السماح للإنسانة التي تقيم في داخلها أن تقاسمها المائدة نفسها.
ولأننا كنا ضيوفا دُعوا خطأ إلى حفلة ليست لهم فقد كنا نقضي الوقت في أحاديث جانبية غالبا ما كنت أستدرجها إليها من أجل زيادة معرفتي بالفن المصري الحديث.
لقد فتحت أمل نصر لي صفحات موسوعتها التي تتقن التنقل بينها مغمضة العينين. ما سحرني أكثر أن كل تلك المعرفة لم تلحق الضرر بيديها اللتين ظلتا تتحركان بحرية وخفة وعفوية طفل على سطوح لوحاتها.
وإذا ما عرفنا أنها غزيرة الإنتاج في الجانبين، النقدي والفني يمكنني القول بيقين إن نصر لا تفصل بين ما هو نقدي وما هو فني إلا في حدود الأدوات والتقنيات أما الروح فهي واحدة.
فالرسامة التي تعرف الفن التشكيلي المصري من داخله نجحت في أن تصنع مصفاة تمرّ من خلالها تأثيرات الفنانين الذين تحبهم إلى تجربتها الفنية. هي ابنة الفن المصري المولعة في البحث عن أسراره وهي في الوقت نفسه الباحثة عن أسلوبها الشخصي في ركام هائل من الأساليب التي صارت على دراية بها بسبب كدحها النقدي.
حياة كلها فن
ولدت أمل أحمد محمود أحمد نصر عام 1965 في الإسكندرية. تخرجت من قسم التصوير (الرسم) بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية عام 1988. “تناول الأبعاد في التصوير” هو عنوان رسالة الماجستير عام 1993 أما رسالتها لنيل شهادة الدكتوراه عام 2000 فقد كانت بعنوان “رؤية معاصرة لجماليات التكوين في الفنون المعاصرة”.
أقامت نصر أول معارضها الشخصية عام 1989. تقوم الآن بالتدريس في مرسم مكتبة الإسكندرية وأتيليه الإسكندرية بعد أن قامت ولسنوات طويلة بالتدريس في كلية الفنون الجميلة.
نالت جائزة الدولة للإبداع في التصوير عام 1998. ولأن الكاتبة كانت تنظر إلى الرسامة بحسد فقد نالت نصر جائزة الدولة التشجيعية في مجال النقد الفني عام 2011.
لم تكتف أمل نصر بنتاجها الغزير في مجالي الرسم (حوالي ثلاثين معرضا شخصيا إضافة إلى مشاركتها في الكثير من المعارض الجماعية داخل مصر وخارجها) والنقد (كتب عديدة إضافة إلى مساهمتها في تأليف كتب عديدة مشتركة) بل حرصت على الحضور في المشهد التشكيلي المصري والعربي باعتبارها ناشطة، منسقة معارض وعضو لجان تحكيم ومساهمة في ندوات نقدية ولقاءات فنية في مختلف أنحاء العالم العربي.
تقوم أمل نصر بكل ذلك النشاط إلى جانب عملها الأكاديمي معلمة فن ومشرفة على الكثير من أطروحات الماجستير والدكتوراه.
وارثة نساء عظيمات
يكون المرء في حيرة من أمره حين يتابع ما تقوم به تلك المرأة التي صار الفن حياتها الشخصية. ما قامت وتقوم به يحتاج إلى أكثر من حياة.
هناك جانب مهم في تجربة الفنانة يتعلق باهتمامها بالمرأة، إنسانة وفنانة. لقد خصت ذلك الجانب بالجزء الأكبر من تجربتها الفنية واهتمت نقديا بتجارب الفنانات المصريات اللواتي تعتبرهن نماذج حية للإبداع وهي تنظر إليهن بالكثير من الإجلال.
إنها تعتبر نفسها وريثة لأولئك النسوة اللواتي تنظر إلى تجاربهن باعتبارها دروسا شخصية. هي ابنة الريادة النسوية في الفن بدءا من تحية حليم وانتهاء بنازلي مدكور مرورا بجاذبية سري وانجي أفلاطون.
ما يميز نصر ناقدة هو ذلك الشعور العميق بالولاء للفن المصري وللمرأة المصرية المبدعة والذي عبرت عنه بشيء لافت من الإنصاف من خلال كتاباتها ومحاضراتها.
ثقة مطلقة بالجمال
ليس مؤكدا أن الرسامة تتقدم على الناقدة في حياة أمل نصر العملية، وهو ما يصح في مجال النظر إلى العديد من التجارب الشبيهة (أسعد عرابي، فيصل سلطان، عبدالرحمن السليمان). وهو حكم ليس سلبيا. ذلك لأن الفنان-الناقد إذا ما نجح في إقامة نوع من التوازن بين بعدي شخصيته يكون قادرا على توضيح الكثير من قضايا الفن الغامضة بحكم أنه يتحدث من داخل العملية الفنية التي هي خبرته الشاملة وقوته اليومي.
إضافة الى محاضراتها ومداخلاتها المنشورة في كتب الندوات واللقاءات الفنية أصدرت نصر عددا من الكتب، أذكر منها: “جماليات الفنون الشرقية” الذي صدر عام 2002 ضمن سلسلة آفاق الفن التشكيلي، “عبدالسلام عيد” وهو كتاب شامل عن تجربة الفنان صدر عام 2012، تلاه كتاب “مرايا العاطفة” عام 2013، كما صدر لها عن دائرة الثقافة والفنون بالشارقة كتاب بعنوان “جماليات المنمنمة الإسلامية” وذلك في عام 2014.
عناوين الكتب وحدها تشي بتلك السعة المعرفية التي تتميز بها نصر وهي تتحرك بين قارات الفن الوهمية كما لو أنها تقوم برحلة واقعية بين بلدان متجاورة تتقاسم الرغبة في تبادل خبرات العيش المشترك.
الانسجام الذي خلقته نصر بين بعدي شخصيتها هو مصدر ذلك الاحتفال بجماليات العالم الذي يحيط بها والذي تحاول التعبير عن ثقتها به من خلال اللون والكلمة.
هذه فنانة تثق بالجمال بطريقة مطلقة. لذلك لم تكتف بلذائذها الشخصية بل صارت تبشر بما تراه نافعا.
ترسم لتتذكر
أمل نصر رسامة غير نمطية. إنها لا تكرر تجاربها، مهما كانت تلك التجارب ناجحة على المستوى النقدي أو الشعبي. إنها ترى نفسها في ما لم تفعله بعد. هي صنيعة مستقبلها الذي لا يزال في عالم الغيب. في آخر تجاربها الفنية التي أطلعتني عليها تبدو كما لو أنها تتعلم. ذلك هو دأبها دائما.
حرصها على أن ترى نفسها في ما لم تفعله بعد لا في ما فعلته في أوقات سابقة يدفع بها إلى الانبهار دائما بما يمكن أن ينجزه لقاء المواد المستعملة بعيدا عن الرقابة التي تظل نصف واعية.
حرصت أمل نصر على أن تقف وسط المسافة. فهي تشخيصية تجريدية في الوقت نفسه. وهي رمزية تحتاط كثيرا من أجل ألاّ تخفي انجذابها إلى الواقع. لا تضحي باللحظات الشعرية غير أنها حريصة على الجانب السردي الذي يميز الفن المصري عن سواه من الفنون العربية الحديثة.
لقد حافظت نصر على ذلك التوازن لا لشيء إلا لأنه يعبر عن هويتها التي هي مزيج مما عاشته ومما تخيلته. ما خبرته شخصيا وما تعلمته نظريا. ترسم أمل نصر ما تراه كما لو أنها تتذكره.