ثلاث قصص

الاثنين 2015/06/01
تخطيط: هبة حروب

مرسم

كان يجب أن ألبس سروال جينز، وحذاء رياضياً مناسباً. لكني لم أكن أتوقع أن تقودني كندرتي الصفراء، ذات الكعب العالي، إلى هذا الدرج المعتم المنحطّ. فالأدراج عادة تأخذنا نحو الضوء. غير أن هذا الدرج البائس الذي غابت معالمه تحت الأتربة والركام، قادنا إلى قبو سافل وعر، مليء بالحطام والفضلات، وربما الحشرات والفئران القذرة. أنا لا أخاف شيئا كما أخاف من الفئران. من ذيولها الرفيعة ووجوهها المثلثة وأذنيها الكبيرتين. إنها تكبل إرادتي رغم حقارتها، وتجبرني على الهرب من المنزل إذا ما اكتشفتُ وجودها فيه، ولا أعود إليه حتى يتمكن أحد ما من قتلها، أو إخراجها من بيتي. جفّان يقول إنها جديرة بالحياة أكثر منا، وهي الأبقى، لأنها قادرة على العيش في كل الأمكنة، ورغم كل الظروف. هو الآن يحمل مصباحاً صغيراً بيده، ويسبقني بخطوة واحدة. تمنيت لو أنه أمسك بيدي. تركني أمشي خلفه، ولم أكن مضطرة للالتصاق به والكشف عن مخاوفي. فأنا من أجبره على القدوم إلى هذا المكان العجيب، رغم أنه هو من دفعني للقيام بهذه المجازفة. وقد تمنّع طويلاً، قبل أن يوافق على مرافقتي، متعللاّ بشتى الذرائع، مدّعياً أن الأمر لا يستحق المجازفة. فالمكان هناك، أي هنا، موحش وصاحبه غريب الأطوار.. مشيت خلفه مطمئنة. فالعتمة تمنعني من النظر أو التفكير، أو حتى الخوف. لو خطر لي أنني قد أدوس على حشرة، أو يلامس ساقي العارية فأر ما، لتحطمت مقاومتي في الحال، وتشبثت بعنق جفّان، رافعة قدمي عن الأرض. أو عدت راكضة نحو ضوء المدخل.

تقدم في البهو المظلم من باب وحيد في ذلك القبو الغامض. فتحه بهدوء عجيب، ودخل أمامي. أصدر الباب صريراً معدنياً. لم أتمكن من معرفة لونه، لكنه كان حديدياً بالتأكيد. ما إن خطونا أول خطوة داخل تلك الغرفة الرمادية المُحكمة، حتى سمعنا عبارة عدوانية ساخطة، خالية من المودّة والاحترام:

“اطلعوا لبرّا“!

توقفت مكاني. نظرت إلى جفاّن مستفهمة. بدا وكأنه لم يسمع أو يرَ شيئاً. رغم أنه هو من فتح الباب ودخل أمامي. أشعل اللمبة الوحيدة المعلقة بالسقف. تلفتّ حولي. انتظرت أن أجد مرسماً ورساماً غريب الأطوار، كما قال لي. بدت الغرفة مهجورة، خالية تماماً من الأثاث والإنس. خالية من اللوحات والألوان. مرسم بلا سيبة رسم، أقرب إلى المغارة الحديثة المجوّفة، منها إلى الغرفة المربّعة. جدرانه سميكة، مطلية بملاط خشن. تنزّ منها الرطوبة الغامقة، مشكلة بقع عجيبة من العفونة الكلسية المتدرّجة. بدا لي السقف مائلاً ومنخفضاً جداً، ومتعرّجاً. ربما كانت الأشعة الصفراء المنبعثة من اللمبة المتأرجحة هي السبب. الهواء معتلّ بالتأكيد، ورائحة العفن تطغى على رائحة النفط ومعجون السبيداج والألوان. الضوء ترابي مصاب بالرمد. الأثاث الوحيد في هذه المساحة المحايدة، خليط من الخرق الحائلة، والثياب القديمة الممزقة، والأغطية الرثّة، والمخدات والأسمال وعلب الكرتون البالية، المكوّمة في الوسط. اللون الوحيد في هذا المكان البدائي، هو لون الخرق. واللوحة الوحيدة هي ما رسمته العفونة من أشكال وظلال فوق الجدران. الضوء الوحيد فيه هو اللمبة، أما النافذة الوحيدة فهي بابه..

توقعت أن أجد مرسماً مناراً، بنافذة واحدة على الأقل. أن أسمع عبارة “أهلاً وسهلاً” مثلاً! قد تكون ساخرة، وربما ساخطة أو غاضبة. فأنا على موعد مع رجل “محبط”، كما قال جفان. يقضم أصابعه في الليل ويستخدمها في النهار لمزج الألوان الكئيبة. رجل لم يغتسل منذ عقد. كثيف الشعر، طويل الشاربين، في الأربعينات من العمر. انتظرت أن أجده جالساً على الأرض، منزوياً في مكان ما، صامتاً ربما، أو واقفاً على قدم واحدة بمواجهة نافذة رسمها على الجدار بحبر قلبه. لكني لم أجد رجلاً، بل سمعت صوته فقط. كان خشناً واضحاً وحقيقياً، تردد صداه في الغرفة كالطنين. ازدادت حيرتي وبدأت أشكّ بما سمعت ورأيت. لكن ما إن خطونا خطوة جديدة داخل الغرفة، حتى تردد الصوت ثانية، وبشكل حاسم هذه المرة:

“اطلعوا لبرّا ولا“…

جفلت. ظننت أن الأمر موجّه إليّ فقط. واحترت ماذا أفعل. تراجعت، بشكل غريزي إلى الخلف، بينما تابع جفّان طريقه بثقة وهو يعلن:

“مرحبا يا صديقي العتيق. هذا أنا”.

ثم أزاح بلطف ستارة سميكة، في صدر الغرفة، عُلقت بالمسامير، لتغطي ما يشبه الخزانة الإسمنتية، المبنيّة من الطوب: خزانة بارزة مكونة من طبقتين، إحداهما ضيقة مقطعة إلى عدة كوى صغيرة متساوية، والأخرى كبيرة واسعة، تستخدم عادة لطيّ وتخزين الأغطية والفرش والمخدات.

هناك، خلف تلك الستارة وجدت الرجل عارياً عائماً في الفراغ، يستلقي على قفاه، ويستر جسده شعر كثيف أشقر. لم أفاجأ تماماً. فقد واجهت مثل هذه الحالات من قبل. حسبت أنه سينهض أخيراً، يحتج ويصرخ، مثل أيّ رجل تقتحم عالمه السري. وربما يخرج من مكانه، لطردنا، دون أن يغطي عورته براحتيه. لكنه بقي هادئاً، مسالماً. وكدت ألقي السلام عليه، لكني سرعان ما اكتشفت أنه مقيد اليدين بحبل ثخين خشن، يشبه حبل المرساة.

ما إن رأى ضوء اللمبة الباهت، حتى تحرك مثل سمكة ناعسة. غطى عينيه الكبيرتين بجفنيه الثخينين، وبدأ يتقلّص ويتكور على نفسه، محاولاً أن يطوق ركبتيه بساعديه، ويقلّص جسده إلى أصغر كتلة ممكنة، داخل هذا العلبة المغلقة، التي بدت مائلة، كما لو أنها لوحة معلّقة على حائط. ولا أدري كيف تحول إلى جنين مكسوّ بالوبر، وبدأ يغرق، حتى استقر في القاع، ثم استدار بوجهه المثلث نحوي، وتوقف عن الحركة تماماً.

واختلط الأمر عليّ عندما التقت عيناي بعينيه. من هذا!؟ ولماذا!؟ هل هو صاحب ذلك الصوت الخشن، الذي أمرنا بالخروج من غرفته، قبل قليل!؟ أم هو كائن آخر منسي داخل هذا الرحم الإسمنتي!؟

وما أدهشني حقاً، وجهه المثلث الصغير، الذي يشبه إلى حد كبير، وجه جفّان. جبينه، أنفه، شفتاه، ذقنه الصغيرة، عيناه الواسعتان. لكن هذا الوجه كان بلا حاجبين. عينان كامدتان مثل حفرتين. أهداب سوداء طويلة، أكثر من اللازم، بدت كما لو أنها رُسمت بقلم الكحلة. أذنان كبيرتان ذابلتان. إحداهما تكاد تسقط على كتفه، كورقة يابسة. أصابعه دقيقة، رفيعة تذكرك بأقلام الرصاص. جسد غير متناسق أبداً. يميل إلى المبالغة بخطوطه الحادّة البارزة، وألوانه المائية. رجل ضامر عريض الصدر نحيل الخصر. ذو رقبة مائلة، وساقان طويلتان مرفوعتان. للوهلة الأولى، بدا لي أنه رجل معلَّق، فاقد للجاذبية. لا تدري إن كان يستلقي على ظهره أم يتأرجح داخل هذا الإطار. بدت لي أعضاؤه التناسلية نافرة مثل.

لا، لحظة.. حدث أمر طارئ. لم أتمكن بعده من وصف أي شيء. سأتوقف الآن عن الرؤية والتفكير. وأزعق فوراً بصوت حاد، مثل كل النساء، وأخرج من المكان كالمجنونة. في البدء سأتلعثم، تتقلص أضلاع صدري وأعجز عن التنفس. لم أصدق عيني حينها، أي الآن: فأر حقيقي سمين راح ينزلق على الحبل، ساحباً ذيله الرفيع خلفه، ليقف على كتف الرجل تماماً، وينظر إليّ بعينيه الخرزتين. فأر آخر أطل بشاربين كبيرين وانسلّ من تحت إبطه المطليّ بلون قاتم. وما إن قفز الثالث من حضنه، وركض مسرعاً، نحو كومة الخرق، حتى زعقت، وهربت من الغرفة، خارجة عن طوري. كانت الكومة مليئة بالفئران. ولحق بي جفّان مسرعاً، وحاول إقناعي بأن ما رأيته مجرد لوحة. لكنه لم يستطع، وما أظن أن أحداً يستطيع إقناعي بذلك.. قال لي مستغرباً “ما بك”! وقال غاضباً “هل جننت”!؟ وقلت “لوحة يا جفان! لوحة تتحرك فيها الفئران وتقفز منها إلى الأرض!؟ “لم يتحرك شيء، والله لم يتحرك شيء غير الستارة التي أزحتها بيدي”.

كنت منفعلة لدرجة أني لم أكن مستعدة لتصديق رجل واحد، وتكذيب عينيّ الاثنتين. “خيّل إليك ذلك، صدقيني”. طلب مني أن نعود ثانية إلى القبو ونرى “اللوحة” من جديد، لكني تركته وعدت وحيدة إلى البيت.

دمشق 2015

لولو


لوحة: بشار العيسى

حجمها صغير لدرجة أنها إذا عضتك لا تشكّل خطراً على حياتك. لكنها رشيقة كالقطة، تملك قدرة فائقة على اللعب والهرب والاختباء والمناورة والتربّص بك. كان اسمها “لولو”. كلبة بيضاء كاللؤلؤ يغطي جسمها صوف كثيف. ومع أنها من فصيلة الثعالب، طويلة الخطم، غير أنها مستديرة الأذنين، لطيفة الشكل، كلعب الأطفال. وهي متوترة وشرسة بشكل مضحك، إذا اقتضى الأمر. عيناها سوداوان مستديرتان، مثل زرّين من البلاستيك، تلمعان خلف خصلات غرتها الطويلة. قال الطبيب لصاحبها مؤنس، إنها السبب في توترها وشراستها. ولذلك نصحه أن يقصها بين فترة وأخرى. لكن تلك الغرة على ما يبدو، كانت جزءاً من طبيعتها وهويتها. فقد اكتشف مؤنس عندما جرب ذلك، أنها فقدت حيويتها وطرافتها، كما فقدت بريق عينيها وذكاءها الحاد، فلم يعد إلى ذلك ثانية.

“تكاد تنطق، قال مؤنس. انظر إلى عينيها. لم أر في حياتي شبيهاً لهما”.. ورغم أن كل أصحاب الكلاب يتحدثون عن كلابهم بنفس الطريقة، غير أن “لولو” كانت كلبة استثنائية بالفعل. ردود أفعالها المعبّرة. قدرتها على الإصغاء والفهم أحياناً. والأهم من كل ذلك تعلقها العاطفي بمؤنس لدرجة تكاد تكون بشرية. تودعه بطريقة عجيبة. تحضر حذاءه. تنط على ركبتيه. تلحس يديه. وعندما يخرج ويغلق الباب خلفه، تنبح مرتين بصوت لا يخلو من الشجن. كما تشعر بقدومه، ما إن يصل إلى مدخل البناية، رغم أنها تعيش في ملحق بالطابق السادس. تنبح ثلاث مرات متتالية، وتقف عند الباب منتظرة قدومه، ملوحة بذيلها القصير المدوّر. وما إن يدخل حتى تقف على قائمتيها الخلفيتين وتقفز حوله، مرحة راقصة مستعرضة جذلة، وهي تصدر تلك الأصوات المعبرة، التي تشبه الكلام بالفعل.

كانت زوجته صفاء تعتني بها، وتزين رقبتها بأطواق من الخرز وفراشات ملونة من القماش. وكان ابنهما الوحيد يلاعبها ويسميها “أختي”. يلهو معها ويسمح لها باستخدام ألعابه والنوم في سريره. لكن تعلقها بمؤنس كان أمراً مختلفا تماماً. فهو من كان يطعمها وينظفها ويمشط شعرها ويحدثها، ويخرج معها للنزهة مرتين أو أكثر في الأسبوع. وكان أهالي الحارة يشعرون بذلك الوئام بينهما، ولم تكن نظراتهم تخلو من الاستهجان والتعليقات الساخرة، الممزوجة بالغمز واللّمز.. لكن أحدا منهم لم يصدق أنها اختفت بتلك الطريقة العجيبة التي تشبه الخيال.

فذات ليلة، قبل بزوغ الفجر، توقفت سيارة دفع رباعي “مفيّمة”، وخرج منها أربعة من زوّار الليل المدججين بالسلاح، ودخلوا مسرعين إلى البناية التي يقطنها مؤنس في حي المزّة. وبعد أقل من ربع ساعة سمعوا صوت الكلبة لولو يملأ مطلع الدرج، ثم رأوها تخرج وحيدة إلى الرصيف وهي تنبح بذلك الصوت الغريب الذي يشبه الاستغاثة أو طلب النجدة.

لا أحد يعلم ما الذي حدث داخل الشقة. ولم يجرؤ سكان البناية على التدخل أو حتى الاستفسار. استيقظوا على أصوات أعقاب البنادق وهي تقرع الباب بقوة. سمعوا زوّار الليل وهم يقتحمون الشقة بصخب. أغلقوا أبواب بيوتهم، كما أُمروا، وراحوا يتنصتون من خلفها، على صراخ الزوجة وبكاء الطفل ونباح الكلبة وشتائم المسلحين. لكنهم رأوهم أخيراً، من خلف شقوق نوافذهم، عندما خرجوا من البناية، وهم يجرون مؤنساً، إلى السيارة “المفيّمة”، مقيد اليدين إلى الخلف، محنيّ الظهر إلى الأمام، وقد أخفوا رأسه داخل كيس أسود.

غادرت السيارة المكان بسرعة صاخبة. وحلّ صمت عجيب، على الحارة وسكانها. حتى لولو اختفى صوتها تماماً. لم يخطر ببال أحد أنها لحقت بسيارة الدفع الرباعي، دون أن يشعروا بها. وكان الضوء قد بزغ. وكانت رائحة مؤنس تملأ أنفها. ولم يكن صعباً عليها أن تتابع تلك الرائحة، أينما اتجهت. ولم يكن الأمر سهلاً عليها بالتأكيد. لكنها وصلت أخيراً إلى أحد فروع الأمن في منطقة الجمارك. وهناك توقفت لاهثة، عندما رأت الباب الحديدي المتحرك يغلق في وجهها. لكنها سرعان ما قفزت فوق السور، وتمكنت من رؤية صاحبها وقد أنزلوه من السيارة، وربطوا رقبته بحبل وراح أحدهم يجره خلفه، نحو باب قبو منخفض، بينما شرع الباقون بركله وشتمه وضربه بالسياط. وكادت تنبح لكنها كتمت صرختها، ولحقت بهم.

لم يفهم الحراس والجلادون والمحققون، من جاء بهذه الكلبة إلى هنا، وكيف تمكنت، من التسلل والدخول إلى هذا المكان السري المحصن بالأسوار وأبواب الحديد والبنادق وكاميرات المراقبة. سمعوا في البداية نباحها يشق الصمت المطبق، فاندهشوا. ظنوا أنه صوت موقوف فقد السيطرة على نفسه فراح ينبح كالكلاب. لكنهم رأوها أخيراً تقف في ممر الزنازين الطويل، بيضاء صغيرة يزين عنقها طوق من الخرز الأزرق وفراشة حمراء من الحرير. تنبح بقوة، كما لو أنها تحتج. وتجوح بصوتها الجنائزي الممطوط مثل أمّ فقدت صغارها. غير مدركة لخطورة المخالفة، والموقف الذي وضعت نفسها فيه. ولا عابئة بصدى صوتها الذي فجّر مملكة الصمت.

استنفر الفرع، وعمّ الاضطراب، وأُقفلت الزنازين والكوى. وأمر رئيس الفرع بوقف التحقيق وإلقاء القبض فوراً على تلك الكلبة السائبة. فهجموا عليها، وتجمعوا حولها، وطوقوها، ظناً منهم أن الأمر سيكون سهلاً عليهم. وعندما عجزوا عن الإمساك بها، حاولوا التودد إليها بالكلام وتقديم اللحم والمعلّبات، لكنها كانت ترفض ذلك وتقفز من بين أيديهم وأقدامهم، هاربة من ممر إلى آخر، فيركضون خلفها من جديد، صاخبين ملوحين بسياطهم وهراواتهم.

وعندما تمكنوا أخيراً من تطويقها وحصرها في غرفة التحقيق، تحولت إلى وحش صغير، وكشرت عن أنيابها، فتناول كبير المحققين مسدسه الحربي وأطلق النار على رأسها.

دمشق 2015

مجرد كلب

منذ أكثر من ثلاث سنوات وأنا أتساءل: لماذا لا يقومون باعتقالي! فأنا معارض معروف، وسجين سياسي سابق، وناشط اجتماعي معاصر، وطويل اللسان. شاركت بالمظاهرات منذ الشهر الأول. وقلت: عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد. وقلت: “يلي بيقتل شعبو خاين”. كما شاركت بكل الواجبات تجاه شهداء الثورة ومعتقليها. وأملك كل الأسباب التي تخولني أن أكون معتقلاً. اكتفوا بمنعي من السفر وعدم تجديد جواز سفري، حتى أراجع الفروع الأمنية. وكثيراً ما كان الأحبة والمقربون مني، ينصحونني بأن أخفف من لهجتي ونبرتي فيما أنشره على صفحتي في الفيسبوك، وغيرها من صفحات التواصل الاجتماعي.

ولا أخفيكم أنني كنت عملياً، أخاف من الاعتقال. فقد جربته ذات يوم، لكن فرحتي بالثورة ورغبتي بالتغيير، وإعجابي الشديد ببسالة الشبان السوريين، المستعدين للموت، الهاتفين للحرية والكرامة في شوارع دمشق وحاراتها، جعلني أكابر وأنتصر كل مرة على خوفي وهواجسي.

كنت أنتظر قدومهم كل يوم وكل ليلة. هم أو غيرهم من الرجال المدججين بالسلاح الذين يقرعون الأبواب بعنف، ويقتحمون البيوت دون إذن. وكم مرة قرع الباب بعنف فقلت: أتوا، ليتبين أن الطارق هو بائع الماء أو أحد الجيران أو المحتاجين. وكم مرة أعطيت هويتي للحاجز وتوقعت أن يقوموا باعتقالي فور قراءتهم لاسمي! وكم مرة اعتقلوا أو اختطفوا رفيقاً لي، أو سلّموا جثة ناشط مدني مثلي، قتلوه تحت التعذيب، وقلت جاء دوري! لكن شيئا من هذا لم يحدث حتى الآن. بل حدث ما هو أسوأ بكثير.

فذات ليلة، وبينما كنت منكباً على كتابة قصة قصيرة، عن كلب هاجم صاحبه، بعد أن أخضعوه لدورة في مكافحة الإرهاب، سمعت ويا للغرابة، صوت كلب حقيقي، يأتي عبر نافذة مكتبي المغلقة. كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، وكان من الطبيعي أن تسمع أصوات الكلاب في مثل هذا الوقت، خاصة عندما تتوقف أصوات القذائف والرشاشات والصواريخ. لكن هذا الصوت لم يكن نباحاً أو عواء ذئب، بل مجرد مقاطع صوتية عشوائية، هي أقرب إلى الأنين والتوسل والبكاء، منها إلى نباح الكلاب! أصوات متقطعة رفيعة واهنة، توحي في البداية أنها لجرو صغير جائع، أو ربما لكلب جريح..

توقفت عن الكتابة رغم أني لم أكترث، في البداية، لهذه الصدفة العجيبة. حاولت أن أنسى وأتابع الكتابة، لكن الصوت راح يعلو ويخبو وينشج ويتذبذب، مشحونا بالعواطف والمشاعر الإنسانية. كما لو أنه يناديك أو يستجير بك، طالباً حمايتك. ولم أتوقع أن يكون هذا المخلوق قريباً لهذه الدرجة. نهضت واقتربت من النافذة كي أفهم ما الذي يحدث! فأنا أعيش في الطابق الخامس، والضوء مطفأ في الحي، والشارع خال تماماً من المارة.. وبالكاد تبين لي أنه كلب كبير جداً، يدور حول نفسه، محاولا أن يخفي توتره وغضبه. توقعت أن أرى إلى جواره رجلاً. لكن عندما فتحت زجاج النافذة ودققت في المشهد، اكتشفت رغم العتمة، أنه قد رُبط وحيداً إلى عمود الكهرباء، المقابل لنافذتي تماماً. وسرعان ما شعر بي وكف عن الأنين والدوران، ووقف في مواجهتي متحفزاً، ولمعت عيناه في العتمة، ثم نبح بقوة وشراسة، متحولاً إلى وحش حقيقي.. أقفلت النافذة مباشرة، واختبأت خلف الستائر السميكة..

تبين لي أنه كلب بوليسي شرس، من نوع “جيرمان”. أسود على ذهبي، يحيط بعنقه طوق جلدي فاخر. له خطم كبير أسود ولبدة صفراء، وأذنان مثلثتان منتصبتان مثل شارة النصر. راح ينظر إلى نافذتي تارة، ثم يحثو التراب بإحدى قائمتيه، ليعود وينظر نحو نافذتي، وينبحني.

ما الذي أتى بهذا الكائن العجيب إلى هنا!؟ ومن الذي ربطه في هذا المكان!؟ ولماذا ينظر إلى نافذتي تحديداً، تلك النظرة المتحفّزة المتوعّدة!؟

لم أشعر بالخوف يوماً، كما شعرت في تلك الليلة المظلمة، رغم أني أحب الكلاب. أنزلت أبجور النافذة بسرعة، وأطفأت الضوء، وأيقظت زوجتي التي كانت تنام مع الأطفال في غرفة النوم. وقررنا على الفور أن نخفي كل ما نملكه من وثائق وسجلات ونقود، تعود لجمعية مدنية محلية، كنا نعمل فيها، وكانت تهتم بإغاثة النازحين الذين دُمرت بيوتهم، وهربوا من الحرب في الغوطة. كنا نؤمّن لأطفالهم الحليب والحفاظات والحقائب المدرسية والدفاتر والأقلام. قمت بمسح كل ما أملكه من أشعار وقصص ومقالات في كومبيوتري. أغلقت حسابي وحساب زوجتي في الفيسبوك والتويتر. كانت زوجتي أقل توتراً مني، لكنها مع ذلك دسّت علم الثورة في كيس أسود، ورمته داخل المنور عبر شباك المطبخ. استمر الكلب في العواء. وكانت تظن أنه مجرد كلب. وأنه رُبط هناك، مصادفة ربما. وكنت أقول لها: لكنه كلب “جيرمان” من نوع “FARFESH” يا عزيزتي. من سيربط كلباً بوليسياً نادراً، في عمود كهرباء، أمام بنايتنا تماماً! وبعد منتصف الليل! ولماذا يفعل ذلك!؟

اختلسنا النظر عبر أبجور النافذة. كان ما يزال هناك يجلس على ذيله ويرفع خطمه الأسود مستنفراً، وقد تطاول كثيراً على قائمتيه الأماميتين، حتى حسبناه رجلاً ينظر نحونا، لو لم ينبح من جديد..

لم يكن ذلك كابوساً. كنت واثقا من ذلك. رغم أن حياتنا تحولت إلى كوابيس دائمة، في الليل وفي النهار، تتخللها بعض الأفعال الواقعية العادية، التي لا يمكن حشرها مع فصيلة الكوابيس. لكن ما إن قُرع باب بيتنا، بتلك القوة، حتى تحول الأمر كله إلى كابوس حقيقي..

تسمرت مكاني.. وتبين لي أني كنت وحيداً في مكتبي. ولم أجرؤ حتى على مجرد الاقتراب من الباب. وفجأة ظهرت زوجتي، خارجة من المطبخ وهي تحمل طنجرة الحليب الفارغة.. نظرت إلي مندهشة وسألتني:

• ما بك! ألم تنم بعد!؟

لم أستطع الجواب. أشرت إلى الباب، فقالت:

• أعرف. إنه بائع الحليب. كم مرة قلت له أن يقرع الباب بهدوء!

دمشق – فجراً 3-10-2014

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.