جانيت

الأحد 2015/11/01
لوحة: فيصل لعيبي

تهوى جانيت أفلام الهولوكست مذ فرض عليها وعلى غيرها دراسة تاريخ اليهود الحديث وأبرز محطاته الهولوكست، وذلك في الصف التاسع وعلى طول السنة الدراسية، ولكن خلافا لبنات صفها الأخريات لم يغادرها هذا الموضوع فقد التصق فيها كما يلتصق البق على جسد كلب سائب وكما يلتصق الوطواط على عنق فريسته، لقد أصبح الهولوكست أو “الشوآه” وحكاياتها من أبرز هواياتها‭..‬ نعم هواية بمعنى الكلمة، حتى أنها كانت تعتبر أيّ محاولة لتعظيم وتضخيم أحداث تاريخية ومقاربتها للهولوكست هو بمثابة عمل أرعن ومحاكاة مزيفة‭.‬ الحقيقة هي أن ذلك الاهتمام والشغف بالهولوكوست لم يأت من شماتة ولا من تعاطف زائد، إنما من عشق للدراما التي تسبق العدم وخاصة العدم الذي يخطط له مسبقا أو الذي يكون المحطة الأخيرة في خط إنتاج دقيق وشديد البرودة أو هذا ما يخيل لنا أو تمّت روايته لمراهقات الصف التاسع وغيرهن من المراهقين الذكور وحتى غيرهم من الأشخاص الأكبر بالعمر‭..‬

السؤال: هل كانت جانيت مجنونة؟

بكلمات أخرى السر أو الدافع المكون الذي يؤدي بشخص ما إلى الاهتمام الى هذا الحد بحملة إبادة جماعية بعينها، مع رموزها الميثولوجية، أكوام الجثث العارية والنحيلة والتي منحتها الفاجعة شكلا ممطوطا، أكوام النظارات، أكوام الأسنان، أكوام الذهب، أكوام الصابون المصنوعة من دهن الضحايا الذي كان معدوما أصلا (من أين أتى الصابون إذن)، أكوام الصور، تلك هي الفكرة إذن‭..‬ أكوام الصور‭..‬ فتيات جميلات كن يعزفن البيانو كل ليلة عند وجبة العشاء للعائلة التي تحيا في سعادة لا تطاق، فتيات جميلات بضفيرات ذهبية وأشاريط مخملية يتحولن إلى مجرد مستطيل لمي بشري عظمي في كومة جثث، أو يتحولن إلى كائنات مقملة تنتظر الموت لتتخلص من الحكاك الجهنمي في أجسادها الغضة المتخشبة

سوسن…‭.‬

سوسن كانت فتاة جميلة تتقن الرقص والتمثيل تملأ والديها بهجة مؤقتة‭..‬ وها هي أصبحت اليوم شبحا آدميا مزعجا أحيانا فائضا عن الحاجة غالبا ملقاة في مصح للتأهيل الأبدي للمجاذيب من أمثالها‭..‬ بعد مرض سوسن المفاجئ تغير كل شيء في حياة جانيت أو في لا- حياتها‭.‬ أصبحت جانيت على قناعة تامة وعلى إيمان أن كل شيء بعد أفول سوسن التي تكبرها بسنتين سيتجه لا محالة إلى الأسوأ منه‭..‬ وهكذا دواليك‭..‬ كل مشهد حزين سوف يقود إلى مشهد مهين وكل مشهد مهين سوف يقود إلى المزيد والمزيد من الخسارات‭..‬

وكأنها تعرف كم أن كل شيء هشّ وقابل للكسر في أيّ لحظة وكم نتعب عبثا في بناء حياة مثالية، كأوراق الشدة تعصف بها أي نسمة صغيرة‭..‬ وكأنها تعرف أن ثمة حيوات محكومة بالفناء والتهاوي كدالة تنازلية بميلان منفرج جدا تحدق العيون في تداعي أجسادها وبالأساس أرواحها ببطء شديد مميت هو أصلا بحد ذاته، تلك الأرواح التي تسعى إلى أفولها قبل أن تتفتح… كانت جانيت تمضي إلى اللا-شيء بوعي غير معلن، باستشراف للشر الحتمي وبعشق لا متناه له‭..‬ تماما كفتيات الهولوكست اللواتي كن يعرفن جيدا أن الشر والظلمة سيفترسنهن، سيفترسن جمالهن دون هوادة وسيبصقنهن هياكل عظمية بضفائر هزيلة‭..‬

جانيت الوحيدة التي كانت تعتقد وتتصرف فعليا على أن ما كان قبل 1982 هو ليس ما جاء بعدها ولا ما سيأتي بعدها، أي لا معنى لمحاولة استئناف الحياة وكان شيئا لم يحدث، بالنسبة إلى جانيت فإن إصابة سوسن بالجنون كانت إشارة أخرى بوجوب الاستسلام لتلك القوة الرهيبة التي تمتصنا نحو التفكك، وكانت تلك نظرة مثيرة وثورية وذلك مقارنة بالأمّ التي ظلت تحاول مقارعة الحزن واستحضار حياتها المشبعة بالفقد كل مرة من جديد وكأنها أي حياتها عبارة عن غذاء رضّع سريع الذوبان، لم تكن جانيت شخصية سوداوية بالمعنى الحرفي للكلمة ولكنها كانت من أولئك الذين يتمسكون بعلامة ما أو لعنة ما تصيب من حولهم كإشارة للانهيار وأن كل شيء سيصبح أسوأ مما كان عليه يوما بعد يوم حيث لا داعي للمحاولة مجددا‭..‬

مع أن جانيت كانت ترتل في جوقة الكنيسة إلا أنها كانت شريرة بما يكفي كي لا تؤمن بالله وكي لا تربط مصيرها بالعذراء ومزاجها وما يحلو لتمثالها أن يسيل، ربما كانت جانيت تذهب للجوقة لقتل الوقت أو التحايل على عزلتها الاختيارية أو ربما لكي تضع سيناريو نهائيا للأيام المتبقية… أو ربما كان لديها ثمة أمل ما‭..‬ أمل بشيء ما يصارع الأفول‭..‬ كانت تحلم دائما بأجساد هؤلاء الرجال الهشين الطيبين الذين يرتلون معها في نادي الكنيسة والذين لا يعرفون سوى الطريق من الوظيفة إلى المنزل إلى الكنيسة إلى مراتع الواجبات الاجتماعية/الدينية كالعماميد والقربان الأول وحفلات التخرج‭..‬ التخرج من أي شيء ومناسبات الموت على أنواعها والمواساة والمؤازرة عند الكوارث‭..‬ هم يقضون من الوقت في جحور الموتى أكثر مما يقضون‭..‬ ترى كيف يبدو جسد سليم وهو عار، يخيل من التصاق بنطاله على منطقة عانته والطريقة التي يخلق ذلك فيها تعرجا مثيرا، أنه يملك سمات فحولة قد لا يستهان بها إن هو أدركها وماذا لو كان يدرك ذلك فعلا، بالتأكيد سيجعله ذلك وحشا حقيقيا في الولوج‭.‬

يخلق وقوف هؤلاء الرجال الطاهرين هكذا‭..‬ حالة إيروسية عميقة ونقية جدا وكأنه قد تم تكثيفها في معمل، حالة كانت تجعل جانيت تستمني بعد كل مراجعة أو عرض للجوقة من دون أن تشعر بأدنى إحساس من القذارة أو الدنس وكأن ما يسمح ويتاح لها روحانيا كبنت عائلة مترفعة عن التقاليد‭..‬ غير متاح أخلاقيا لغيرها‭..‬

كانت جانيت تعشق التوازنات اليومية وبأن تمر الأيام هكذا دون نبش كبير في الماضي أيّ ماض وخاصة فيما يتعلق بالأملاك أو في البيت الذي تسكن فيه بمفردها، فأيّ خراب أو عطل ما من الممكن أن يفتح نزيفا، ستضطر للتواصل مع الجيران وسيسألونها أسئلة ومن ثمة سيقترحون عليها عمال صيانة سيسألون هم أيضا أسئلة شبيهة، ثم سيجلب الجيران العمال بأنفسهم وسيشعرون بالفرصة الذهبية لاقتحام البيت والشعور أنهم من أهله غير الموجودين أصلا‭..‬ كانت تخاف مما قد ينتهك عذوبة الأيام المتبقية، كأن يتكون شقّ في السقف يُدخل إليّ الفضاء سوائل مجهولة قد تبدأ ولكن لن تنتهي، سوائل من اشتياق وأسئلة! حتى عندما كانت تسمع في الليل أصوات دوريات الشرطة أو سيارات الإسعاف بإلحاح يستدعي القلق، لم تحاول في الصباح أن تسأل الجارة نيفين التي تصطاد الحكايا من الهواء كما يصطاد القرش ضحيته، حول ما كان‭..‬ كي لا تجد في ذلك ضوءا أخضر للمضي قدما في تقشير ما يغطي غير المحكي عنه كما يقشرون الموز‭..‬

لماذا لا تعتنين بالحديقة، لماذا تتركين السطح هكذا، لماذا لا تحضرين شخصا يعتني بمدخل البيت، لماذا ولماذا؟ تلك الساحة الصدئة والأرجوحة التي لا تجد من يمتطيها وحوض السباحة الذي أصبح مكب نفايات الطبيعة (وغير الطبيعة) هذه الساحة التي استخدمت آخر مرة كسرداب عزاء صيفي في عز الشتاء، ذاك الدرج بإسمنت مكشوف ومفتت والذي باتت تنتظر ساعة وقوعها عنه‭..‬ وانكسارها‭..‬ من سيعتني بها حين تتكسر؟ ستشاهد أفلام المحرقة، الوثائقية منها والروائية دون انقطاع‭..‬ حتى الثمل!

عندما عادت من العمل يومها كموظفة في قسم الأشعة في هذا الشيء الذي يسمى مستشفى، كان ينتظرها عند الباب رجل غريب الشكل بأكتاف ضيقة ومؤخرة كبيرة جدا نادرا ما تنبت كاستمرارية لقسم عليّ بهذا الشكل‭..‬

- نعم هل تنتظرني؟

- هل أنت من ورثة رفلة عبود؟

- نعم‭.‬

- الرجاء أن توقعي هنا‭..‬ على استلام هذا الكتاب‭.‬

- ولكن ما هذا؟

- إنه إنذار بالحجز، عليكم دين 100 ألف شيكل ضريبة أملاك لم يسددها الوالد قبل وفاته‭.‬

لا يكفي أن ترث الأملاك هكذا‭..‬ هنالك ضرائب وأثمان أخطاء الآخرين يجب تسديدها قبل ذلك‭.‬

“تلك العجوز الشمطاء الشريرة‭.‬ شبيهة صوفيا لورين‭..‬ نقلت الدين إذن من أسمها لأسامينا”‭.‬

في ذلك اليوم قررت جانيت نهائيا مداعبة سليم وذلك من المناطق الأكثر حساسية لدى كل رجل والقصد هنا ليس مجمع عانته بل في منطقة الشرج وتحديدا في منطقة الفراغ الذي يلتقي فيه العجزان، شيء ما أشعل فيها هذه الرغبة المتوحشة‭.‬

وبالفعل ففي حين كانوا يتدربون على ترنيمة عن الحياة الأبدية ووجوب تطهير الذات استعدادا لها، أرسلت جانيت يدها التي بدأت الدهون تخفي معالمها نحو المنطقة المستهدفة في جسد سليم وما ساعدها على ذلك كان كونهم يقفون في الصف الأخير من المنصة الخشبية المجهزة على عجل، بحيث لن يراها أحد وهي تنفذ عملها القذر سوى تمثال العذراء الذي كان يدمع أصلا طوال الوقت حزنا على الحال الذي آلت إليه البشرية‭..‬

انتفض جسد سليم بشدة عندما شعر بشيء يحبو على مؤخرته المكتنزة، فقد كان سليم حساسا جدا لأيّ ملمس مفاجئ وغير متوقع وما كان منه سوى أن أمسك بيد جانيت وشدها بدون شعور وتزامن ذلك مع فقدانه التام لتوازنه ما أدى لسقوط الاثنين نحو الخلف، هم وكل المنصة الخشبية المتدرجة ومن عليها‭.‬

مقالات ذات صلة

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.