جثّتي الجافّة كقطعة حطب
مجزرة عائلية صغيرة
ما إن تأكّدنا (أنا وإخوتي التسعة عشر) من أنّ والدنا سيموت بعد عدّة ساعات على الأكثر ـ عرفنا ذلك من شعاع الضوء الأزرق الذي أخذ ينطلق من عينيه ـ حتّى دبّ الخلاف بيننا حول قضيّة دفنه. تبادلنا الاتّهامات. وفي مرحلةٍ من مراحل النقاش شتمْنا بعضنا. وفي مرحلةٍ أخرى اشتبكنا بالأيدي، وكُسرت ذراع أحدنا، فيما فقد الآخر ثلاثةً من أسنانه الأماميّة.
لم يكن الخلاف حول مكان الدفن، بل حول ضرورته. كنّا أمام قضية شائكة بالفعل: أليس نكراناً للجميل أن نحمل هذا الأب الذي جئنا من صلبه وأفنى حياته من أجلنا، لنلقي به في حفرة، لمجرّد أنّه مات؟..
كنا متّفقين على شناعة هذا الفعل، ولا أخلاقيّته. لم تكن هذه هي المشكلة. ما أثار الخلاف بيننا نقطةٌ تفصيليّةٌ تتعلّق بكيفيّة الاحتفاظ بالجثّة. بعضهم قال:
ـ يحتاج الأمر إلى من يتفرّغ للجثة. هذه جثّة. وبحاجة إلى من يداريها، ويعتني بها، ويهشّ الذباب عنها طيلة الوقت. تحتاج إلى تهوية. وإلى غسيل. وإلى مراهم خاصّة كي لا تجفّ. تحتاج إلى من يخرجها إلى الشمس بين الحين والآخر. تحتاج أيضاً إلى من يقرأ عند رأسها سورتي البقرة وياسين كلّ يوم. ونحن كما ترون. مشغولون على الدوام. ليس بيننا من يمتلك الوقت لهذا كلّه..
كان الشعاع الأزرق المنبعث من عيني والدنا يخفت شيئاً فشيئاً خلال نقاشنا هذا. لم ننتبه إلى ذلك. لم ننتبه أيضاً إلى أنّ والدنا لم يعد يحتمل ضجيجنا. لا شكّ أنّه صرخ فينا مرّةً أو مرّتين. لكننا لم نسمع شيئاً. أحد جيراننا أخبرنا فيما بعد أنّه تلقّى اتّصالاً من والدنا يستدعيه ليتدخّل في فضّ الاشتباك، لكنّ جارنا لم يكن قريباً من المكان ساعتها. كان مسافراً في ذلك اليوم..
اقترح أحدنا أن نستأجر شخصاً لرعاية الجثّة، لكنّ الاقتراح بدا مستهجناً جدّاً. نحن أولاد الجثّة، ولا يصحّ أن نسمح لغريبٍ أن يقوم بمثل هذا المهمّة..
كان الوقت يمرّ سريعاً. والخلاف على حاله. لم نشعر بالجوع. ولا العطش. طالت ذقوننا. وأظافرنا أصبحت كالمخالب. كنّا نلهث. وأصواتنا أصبحت أشبه بالعواء. رائحة العرق الحامضة الدبقة المنبعثة من أجسادنا أصبحت لا تطاق. زوجاتنا يقرعْن الباب علينا. نسمعهنّ يردّدن أسماءنا في كثيرٍ من القلق. لكنّ أيّاً منّا لم يتمكّن من النهوض لفتح الباب.
آخر ما عرفناه أنّ جثّة والدنا لم تحتمل الموقف. فنهضت من سريرها متحاملةً على موتها. وبخطوات متعثّرة تقدّمت إلى الخزانة. ثمّ أخرجت بندقيّة الصيد القديمة.
لم يخبرنا أحد فيما بعد ماذا فعلت الجثّة بالبندقيّة. هل أطلقت النار على نفسها. أم علينا. أم أنّ الرصاصات كانت في الهواء لمجرّد التحذير..؟!
رحلة:
حملْنا الميت على أكتافنا. مررْنا به أوّلاً على أمّه. ثمّ على زوجته. توقّفنا قليلاً عند بائع السجائر. عبرنا ثلاثة جسور. دخلنا نفقين. انشقّ حذاء أحدنا بفعل شظيّة زجاج ألقاها سكّير في وسط الشارع. رأينا الأسماك تطلّ برؤوسها ونحن نمرّ بمحاذة النهر. سمعناها تتكلّم بلغة لا نعرفها. لكنّنا لمسنا حزناً ما فيها. تبرّع لنا خيّاط مررنا به بعلمٍ ذي عشرين لوناً. أحد الموسيقيين تبرّع بلحنٍ حزين. والغيوم تبرّعت بالمطر، مع قوس قزح صغير. بضع شجيرات كانت تنتفض فتتساقط الأعشاش تحت أقدامنا. وكان يتناهى إلينا صوت البيض وهو ينسحق تحتها. لم نشعر بالتعب إطلاقاً. كنّا قلقين فقط. كنّا نلاحظ أنّ الميت على أكتافنا أخذ يفقد وزنه شيئاً فشيئاً. كما لو أنّه يتبخّر. لم يُسمح لنا بالتوقّف لإلقاء نظرة عليه، ومعرفة ما يجري. قيل لنا إنّها بقايا الروح تغادره. هززنا رؤوسنا، وتسلّقنا الجبل. ثمّ هبطناه إلى الجهة الأخرى. لم يسألنا أحد عمّن نكون. ولم يُطلب إلينا أن نبرز جوازات سفرنا. والفنادق كنا ننزل فيها مجاناً. كانوا يحجزون لنا أجنحة فاخرة. مع وجبتي طعام. أحببنا كثيراً الجبن المشويّ مع شرائح الموز الأخضر. ولم يخب ظنّنا، فقد حمّلونا كميّات منه عند المغادرة. بوسعنا القول إنّ الرحلة كانت ممتعة. أمر واحد فقط جعل هذه المتعة ناقصة.. الميت.. الذي فاجأنا في نهاية المطاف. كان جافّاً كقطعة حطب. وكان ثمّة حراشف بنّيّة اللون تغطّي جسده. وحين حاولنا إنزاله في القبر تفتّت بين أيدينا. وتطاير في الهواء.
الحافلة
كانت الحافلة تغصّ بالركّاب. ليس بوسعي أن أحصي عددهم. يتطلّب منّي ذلك أن أتحرّك من مكاني، وأتجوّل بينهم مردّداً:
- واحد، اثنان، ثلاثة.
وهذا ما لن يكون ممكناً. الأجساد ملتصقة ببعضها تماماً. معظمنا كان يقف على قدمٍ واحدة. ثمّة رجالٌ طوال القامة يحيطون بي، ويحولون بيني وبين رؤية مقدّمة الحافلة ومؤخّرتها.
لم أتمكّن من معرفة الوقت. فرفعُ يدي إلى مرمى نظري لتأمّل الساعة كان أمراً مستحيلاً. مستحيلاً بالمعنى الحقيقيّ للكلمة. كنّا مضغوطين إلى درجةٍ لا تسمح لأيّ منّا بأدنى حركة. وبالطبع فقد تسبّب لنا هذا الوضع بحالاتٍ من التوتّر والانهيار العصبيّ، لكنّ الفرصة لم تكن متاحةً أمامنا للإفصاح عن أيّ إحساس. كنّا متوتّرين من الداخل فقط. أمّا من الخارج فلا شيء على الإطلاق. مجرّد أجساد متيبّسة. أقرب ما نكون إلى التماثيل. لا نختلف عنها إلا في كوننا منحوتين من لحم وعظم مع قليل من الدم. تماثيل عضويّة قابلة للتحلّل يوماً ما.
وبالفعل.
بدأ الأمر على شكل دفعات من الروائح تنبعث بين الحين والآخر. روائح غير معهودة. تجاهلناها في البداية. لكنّ أحدنا لم يتمكّن من ضبط نفسه، فصرخ:
ـ الرجل يموت.
دوّت صرخته في أرجاء الحافلة. وصلت آذاننا واضحةً وصافيةً تماماً.
ثمّ أخذنا نشعر بسائلٍ لزجٍ يجري تحت أقدامنا. لم يكن دماً. أؤكّد أنه لم يكن دماً، مع أنّني لا أملك الدليل على هذا. الأغلب أنّه صديد.
صوتٌ نسائيّ ارتفع من مكانٍ ما:
- ابنتي تذوب!..
قالتها في كثيرٍ من الفزع.
سمعنا من يردّ عليها:
- اطمئنّي، هذه ليست ابنتك، إنّها ابنتي أنا.
ـ-بل ابنتي، معها جواز سفر يثبت ذلك.
كدنا نضحك لولا أنّ الصديد تحت أقدامنا ارتفع منسوبه حتى لامس ركبنا. كان واضحاً أنّ الكثير منّا آخذون بالذوبان أيضاً. كان ذلك سيسعدنا، لأنّه يعني أنّ هؤلاء الذائبين سيخلون أماكنهم لنا، ممّا يتيح لنا أن نتحرّك قليلاً. أن نحرّك أيدينا على الأقلّ لنهشّ الذباب الذي حطّ على أنوفنا، أو عند زوايا عيوننا. لكنّ شيئاً من ذلك لم يحدث للأسف. بقينا على حالنا من التصلّب والانضغاط.
وكنّا نسمع بين الحين والآخر قرقعة عظام. الهياكل العظمية للذائبين كانت تتحطّم. ورأينا كسراً منها (سلاميّات أصابع، أو فقرات عنق، أو فكوكاً، أو أضلاعاً) تطفو فوق بركة الصديد التي غمرتنا إلى أعناقنا.
لم يكن ذلك ليقلقنا. عقولنا جميعاً كانت مشغولة في الحقيقة بأمر آخر. كنّا نفكّر بمصير سائق الحافلة. كنّا نخشى أن يذوب هو الآخر. بدت الصورة مرعبةً بالفعل. كلّ هذا العدد الهائل من البشر تجري بهم حافلة بلا سائق! من يدري في أيّ هاوية ستسقط، أو عند أيّ جبل ستتحطّم!
وأخذت ألسنتنا تلهج بالدعاء. دعَوْنا بكل اللغات التي نعرفها. لكنّ أصواتنا أخذت هي الأخرى تخفت شيئاً فشيئاً، إلى أن حلّ الصمت. كنّا نغرق بهذا السائل اللزج الذي تحلّلنا إليه.
وحدها الحافلة بقيت تسير متماسكةً. محافظةً على نفسها. حافلة حقيقيّة بعجلات وهيكل ومقاعد. تسير في طريق معبّد، عريض، تحفّ به الأشجار من الجانبين، وفي الوسط أعمدة إنارة، تماماً ككلّ الطرق الحديثة التي نعرفها.