جدل الذات والمكان والمرأة
سكتت أغلب القراءات في مشروع الحداثة الشعرية العربية، عن أثر المكان في ظهور هذه الحداثة، ودوره في تشكيل الوعي الجمالي، المفارق للسائد والقارّ في الثقافة العربية، واكتفت بالنظر إلى هذا المشروع بوصفه مغامرة في اللغة وبها، أو انعكاسا لتحوّلات اجتماعية وطبقية، أسهمت في تحقيق هذا التحوّل، وتكريس قيمه الجمالية والفكرية، في المشهد الثقافي العربي.
وعلى الرغم من اعتراف الدّارسين بأن الحداثة الشعرية العربية في سيرورتها الطويلة، التي مرّت بها بدءا من الشعر المهجري وجماعة أبولو والشعر الرومنسي، كان نتيجة انفتاح الشعرية العربية على الاتجاهات الحديثة في الشعر الغربي وتفاعلها معها. لكن هذا التفاعل ما كان ليحدث لولا وجود حاجات نفسية وروحية وموضوعية، أسهمت في عملية الانقلاب على الذائقة الشعرية وقيمها الجمالية القارّة في الثقافة العربية، ولولا وجود هذه الحاجات لما استطاعت هذه التحوّلات أن تعمّق حضورها، وتتحوّل إلى جزء أصيل من تاريخ الشعرية العربية.
إن هذه القراءة المتعالية في اللغة، وانتزاعها من سياقها الاجتماعي والثقافي، تجعل من الشاعر مجرّد كائن لغوي، يعيش خارج شرطه التاريخي والثقافي، وخارج المكان الذي تتشكّل فيه هذه العلاقة الدينامية بين اللغة والذات، وبين الذات والعالم. إن هذا الوعي الجمالي المفارق، والذي يتشكّل في اللغة ومعها، هو الذي يجعل الذات الشعرية تعيد بناء علاقاتها مع عناصر التجربة التي تعيشها، وتجد تعبيرها في الحرية التي تمنحها لها أشكال الكتابة الجديدة، للتعبير عن ذاتها ورؤيتها الجديدة إلى العالم.
من هنا شكّلت تجربة الحداثة لحظة افتراقها، عن السائد المألوف، وصداما معه. لكن المشكلة إن بعض رموز هذه الحداثة، لم يكتفوا بالتأثير الذي مارسته عليهم الثقافة الغربية، بل حاولوا أن يتماهوا مع منطلقاتها النظرية الجمالية والفكرية، لذلك كان الافتراق بين تيارين أساسيين في هذه الحداثة، تيار حاول أن يتمثل المعطيات الجديدة للشعرية الغربية، للتعبير عن روحية التجربة التي يعيشها، وتيار انساق وراء مقولات الشعر الغربي، وحاول أن يفرضها على الشعرية العربية، باعتبار الشعر مغامرة لغوية وجودية، يرود بها الشاعر العالم.
من هنا تظهر الحاجة إلى إعادة قراءة هذه التحوّلات، في ضوء علاقة شاعر مثل نزار قباني مع هذه الحداثة، باعتبارها تظهيرا حيّا لما كان يعتمل داخل الثقافة المدينية الجديدة من حركية، تعبّر عن ديناميات هذا الواقع، وانفتاحه على العصر بحكم اتصاله معه، وما كان يتولّد عن ذلك من حاجات وحساسيات جديدة، كانت تفرض نفسها على الشاعر، كما عبّر عن ذلك ببساطة في إحدى قصائده المبكرة:
شعرت “بشيء”، فكونت شيئا/ بعفوية دون أن اقصدا.
ولذلك كان من الطبيعي أن تشكّل هذه اللحظة عامل اصطدام بين واقع ثقافي تمثله الطبقات الاجتماعية المحافظة، وقوى جديدة بدأت بالتشكّل، فكانت الحداثة الشعرية هي التعبير الحي عن عودة الروح إلى الثقافة، كما عبَّر عنها الشاعر قباني في قصيدته الشهيرة خبز وقمر وحشيش (1954). إن علاقة المدينة بالحداثة الشعرية العربية، يمكن إدراكها في ضوء الحضور المكثف لعالم المدينة في هذه التجربة، سواء من خلال تجارب الشعراء من أبناء المدينة، أو تجارب الشعراء المتحدّرين من أصول ريفية، وعاشوا فيها. لقد كانت المدينة الفضاء الحاضن لهذا المشروع الحداثي، كما ظهر في استقطابها لرموز هذه الحداثة، والتي لولاها لما استطاع هذا المشروع أن يرسخ قيمه الجمالية الجديدة في الثقافة العربية (بغداد/ بيروت/ دمشق/ القاهرة). وفي حين كان يمكن لشعراء هذه التجربة من أبناء الريف أن يعملوا على تطوير موقفهم من المدينة، بوصفها رمزا للحداثة أخذوا يهجونها، معبّرين بذلك عن وعي حداثي مأزوم، ظل يعيش الحداثة ونقيضها في آن معا.
لوحة: جان حنا
المكان ووعي الحرية
اقترن اسم نزار قباني بدمشق حتى يصعب قراءة منجزه بمعزل عن هذه العلاقة. لكن اللحظة التي اكتملت فيها ثورة الشاعر على الواقع، كانت تعبيرا عن رؤية فكرية وجمالية يصعب قراءة إحداهما بمعزل عن الأخرى. كما كانت في دلالاتها الأهم تعبيرا عن وعي الحرية كقيمة فكرية واجتماعية، وهو ما عبّر عنه في مسألتين مهمتين الثورة على أشكال التعبير التقليدية في الشعر، والموقف من المرأة. لقد ظل المكان الدمشقي بجماله وفتنته هو العالم الذي يستمد منه قيم الجمال ويعيشها في شعره، حتى تحوّل هذا الجمال إلى هاجس دائم الحضور لغة وتشكيلا وجازا في شعره على مدار سنوات تجربته الطويلة (قصائدي كلها معمرة على الطراز الشامي. كل ألف رسمتها على الورق هي مئذنة دمشقية، وكل ضمة مستديرة هي قبة من قباب الشام..). إن هذه التماهي المجازي بين الشعر والمكان الدمشقي، هو التجسيد الدالّ على بلاغة حضوره في وعي الشاعر.
في قصيدته الشهيرة خبز وقمر وحشيش تتضح معالم الثورة على الواقع وثقافته في هذه الشعرية الجديدة. لذلك لا يمكن قراءة مشروع الحداثة الشعرية في منطلقاته الجمالية الجديدة، بمعزل عن حداثة الوعي الاجتماعي ومسألة الحرية، التي عبّرت عنه تحوّلات الكتابة الشعرية الجديدة، بوصفها نزوعا نحو التحرر من سلطة ثقافة لم تعد قابلة للحياة، في ضوء تحوّلات العصر وقيمه الجديدة. من هنا كان لا بد من اصطدام الشاعر مع واقع غارق في الجهل والغيبيات والبؤس. من هنا كان موقف الشاعر من المرأة تمرّدا على هذا الواقع، واستجابة لوعي مغاير كان يعبّر عن ذاته في هذه التحوّلات التي كانت ترسّخ تجربة الشاعر حضورها في الثقافة والوعي العربيين.
جدل الذات والمرأة
العلاقة الخاصة التي وسمت علاقة الشاعر بالمرأة، قامت على عنصرين مهمين، أولهما أن المرأة كانت في واقعها الذي تعيشه أكثر تعبيرا عن الاضطهاد والظلم، الذي يعكس منظومة القيم الاجتماعية التقليدية، التي تكبّلها المرأة بالقيود، وهو ما يتعارض مع فكر الحرية والحداثة، أما العنصر الآخر فيتمثّل في معنى الجمال والحب الذي تمثله المرأة في الحياة والوجود الإنساني. لذلك فإن قراءة هذه العلاقة مع المرأة، لا بد أن تنطلق من هذين البعدين الأساسيين، وما تضمرانه من دلالة تتعلق بمفهوم الحرية ووعي الذات في تجلّيها الشعري والجمالي.
ثمة صوتان يتداخلان في هذا المستوى من العلاقة مع المرأة، صوت المرأة، الذي كان يحاول قباني من خلاله أن يعبّر عن نداءات جسدها المخنوق والمصادر من خلال قناع المرأة الذي يرتديه، وصوت الشاعر المعبّر عن علاقته بهذا الكون الأنثوي الفاتن بسحره وجماله:
“أنا نهداي في صدري
كعصفورين… قد ماتا من الحر
كقديسين شرقيين متهمين بالكفر
كم اضطهدا… وكم جلدا
وكم رقدا على الجمر
وكم رفضا مصيرهما
وكم ثارا على القهر”.
تجليات المرأة في شعره
لقد كانت المرأة هي العلامة الأبرز في هذه التجربة، بل كانت هي التجلّي الأهم لها منذ بدايتها الأولى، وهو ما يمكن أن نجده ماثلا في ديوانه الشعري الأول، الذي صدر في عام 1944، وحمل عنوان: قالت لي السمراء. في هذا الديوان أراد الشاعر منذ البداية أن يكون صوت المرأة، في مجتمع كان يصادر وجودها وصوتها. إن االبنية النحوية والدلالية للعنوان، تجسّد هذه العلاقة في نزوعها التعبير عن هذا الوجود المغيب جسدا وروحا. لكن ثمة ما يستوقف القارئ في هذا المستوى من العلاقة، يمكن أن نجده في موقفين متعارضين، كانا يحكمان علاقته بها، مستوى الشاعر المحب والمفتون الذي يستحضر ثراء الأنثى جسدا وروحا، ومستوى الشاعر الغاضب والثائر عليها، من منطلق ذكوري متعالي. إن جدل العلاقة بين هذين الموقفين لا يمكن فهمها إلا في إطار التجربة التي عاشها الشاعر، والبنية النفسية لشاعر كان يرى في نفسه صانعا للجمال، أعاد لجمال الأنوثة بهاء حضوره المغيب، ومعاني جماله. إن هذا الموقف النرجسي للشاعر هو جزء من التعبير العفوي، الذي ظل يحكم تجربة الشاعر، في تعبيره عن ما يحس به، وما يختلج في نفسه، لكن سرعان ما كان يعود عنه، ليرحل مجددا في ملكوت هذه الأنوثة ممجدا عطاياه وفتنته، التي كان يحاول أن يرسمها بالكلمات. وعلى النقيض من صورة الشاعر كصانع للجمال، نجد المرأة تزيح الشاعر بعيدا عن هذا الدور، لتصبح هي الشعر، والرسولة التي تقوده إلى منابع الإلهام:
“يا سيدتي:
يا مغزولة من قطن وغمام
يا أمطارا من ياقوت
ويا أنهارا من نهوند
يا غابات رخام
يا من تسبح كالأسماك بماء القلب
وتسكن في العينين كسرب حمام
……
يا سيدتي:
أنت خلاصة كل الشعر
ووردة كل الحريات
يكفي أن أتهجى اسمك حتى أصبح ملك الشعر
وفرعون الكلمات”.
لم يكن القباني يفصل في علاقته بالمرأة بين الحسّي والمعنوي، ولذلك كان شاعر الحب والعشق بقدر ما كان شاعر الأنوثة ومجازها المعبّر عن أيقونية هذا الجسد الملهم، كقيمة جمالية ومصدر للإلهام والسحر، يرحل في أقاليم فتنته القصية، كما ترحل هذه الأقاليم فيه كربيع دائم الخضرة والتفتّح والجمال.